إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

تدمير سورية طريق "السلم الأميركي ــ الإسرائيلي"

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-03-31

إقرأ ايضاً


كثيراً ما يصفعنا أساطين التنظير السياسي بعبارة منسوبة إلى وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر، قالها أثناء محاولته إنجاز اتفاق لفك الارتباط بين كل من مصر وسورية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى في أعقاب وصول حرب تشرين الأول سنة 1973 إلى المأزق المعروف من جراء المناورات المشبوهة التي قام بها الرئيس المصري الراحل أنور السادات بما كان يخالف الخطط الإستراتيجية المتفق عليها بين القاهرة ودمشق. ويتعامل المحللون مع مقولة كيسينجر وكأنها الحقيقة المطلقة التي لا تشوبها شائبة!

تقول العبارة ما معناه: "لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية". وغالباً ما يبني المنظرون السياسيون على هذه العبارة عمارات تحليلية شاهقة سرعان ما تنهار مع هبوب رياح الأحداث العاصفة، وما أكثرها في عالمنا العربي هذه الأيام. والسبب في ذلك أن الجزء الأول من كلام كيسينجر، لا فض فوه، تحقق بعدما نجحت الإدارات الأميركية المتعاقبة في إخراج مصر من ميدان المواجهة مع العدو الصهيوني، بل وحوّلتها إلى حليف غير مباشر من خلال إتفاقات كامب ديفيد ذات البنود الملزمة التي تقيد أيدي القادة المصريين حتى لو كانوا راغبين في التغيير حقاً.

يبقى الجزء الثاني من العبارة: "لا سلام من دون سورية". وهو ما يدفع المنظرين السياسيين إلى التوصل لنتائج مفادها أن "السلام" مستبعد في الشرق الأوسط ما لم تشارك فيه دمشق على غرار مؤتمر مدريد لـ "السلام الدائم والعادل والشامل" سنة 1991 وما تبعه من مفاوضات سورية ــ إسرائيلية برعاية أميركية إنتهت إلى الفشل الذريع في آخر لقاء بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والرئيس السوري الراحل حافظ الأسد سنة 2000.

بين بدء مفاوضات مدريد في 30 تشرين الأول سنة 1991 وموت المسار التفاوضي السوري ــ الإسرائيلي بلقاء كلينتون ــ الأسد في جنيف بتاريخ 26 آذار سنة 2000، تحقق "السلم" على جبهتين كانت القيادة السورية تعوّل كثيراً على تلازمهما لدعم موقفها المبدأي الساعي إلى "السلام الدائم والعادل والشامل". ففي 13 أيلول سنة 1993 فاجأت منظمة التحرير الفلسطينية العالم بتوقيع إتفاقات أوسلو التي شقت الطريق لمسار فلسطيني ــ إسرائيلي مستقل. ثم أعقب ذلك في 26 تشرين الأول سنة 1994 توقيع معاهدة وادي عربة بين الأردن وإسرائيل ما أغلق مساراً تفاوضياً آخر مع إحدى دول المواجهة. فلم يبق والحالة هذه إلا المسار اللبناني والمسار السوري... وهما كانا متلازمين حتى ذلك الوقت.

نعود الآن إلى عبارة "لا سلام من دون سورية" لنجد أن واشنطن نجحت في تحقيق برنامجها الخاص لـ "السلم" مع طرفي مواجهة أساسيين هما الأردن وفلسطين (عفواً: ما تبقى من فلسطين) بمعزل عن سورية بالفعل! وهذا ما يدعونا إلى إعادة التفكير في حقيقة المعادلة التي أتحفنا بها كيسينجر، وما زال المحللون والمنظرون يتمسكون بها وكأنها كلام منزل من أعلى عليين. فماذا لو كان المقصود بالفعل أن يتم "السلم" بمفهومه الأميركي من دون مشاركة سورية من الأساس؟ وماذا لو أن كل المفاوضات السياسية منذ 1991 حتى 2000 كانت تخطط لعزل المسار السوري عن كل المسارات الأخرى بما فيها اللبناني تمهيداً للوصول إلى "سلم" يتوافق مع المصالح الإستراتيجية الأميركية ــ الإسرائيلية في المنطقة؟ وأخيراً، ماذا لو أن المشروع الأساسي منذ البداية كان يتطلب حذف سورية من معادلة السلم والحرب، فيتحقق "السلم"... ولا تكون سورية؟

المفهوم الديبلوماسي الحقيقي لعبارة كيسينجر المتعلقة بسورية من المفترض أن يكون على الشكل التالي: "لا سلام دائماً وعادلاً وشاملاً من دون سورية قوية ومستقرة وذات سيادة". غير أن الممارسة على أرض الواقع خلال العقدين الماضيين كانت تتحرك في الإتجاه المعاكس، ولم تلتزم بأي من عناصر هذه المعادلة. فـ "السلام" ظل جزئياً وناقصاً وظالماً ولم يحقق الاختراق النهائي المرتجى حتى الآن، خصوصاً في المسألة الفلسطينية التي هي جوهر "الصراع في الشرق الأوسط". كما أن "السلم" مع الأردن لم يغير جذرياً في طبيعة العلاقات التاريخية الوثيقة بين عمان وتل أبيب، وإنما اكتفى بأن أخرجها إلى العلن وأسبغ عليها نوعاً من المصداقية الدولية.

ويبقى أمامنا من كل هذه الحبكة العامل السوري تحديداً. ونحن هنا نتناول الموقع الإستراتيجي الإقليمي لسورية وليس أوضاعها السياسية الداخلية التي تحتاج إلى نقاش عقلاني من نوع مختلف. فقد ظلت دمشق (وفي يدها المسار اللبناني كذلك) عصية على المسعى الأميركي الراغب في إنجاز تسوية تنحو على منوال "معاهدة كامب ديفيد" و"إتفاقات أوسلو" و"معاهدة وادي عربة" (ويجب أن لا ننسى نموذج إتفاق 17 ايار مع لبنان الذي لم يُقيض له البقاء). وعندما فشلت الإغراءات والضغوط على مستويات عدة، إنتقلت الديبلوماسية الأميركية إلى خطة تجريد سورية من عناصر قوتها واستقرارها وسيادتها بحيث تنعدم قدرتها على لعب أي دور، سلبياً كان أو إيجابياً، في تحقيق "السلم" بمفهومه الأميركي ــ الإسرائيلي والمطلوب منه لاحقاً أن يشمل غالبية دول العالمين العربي والإسلامي وليس كيانات المواجهة حول فلسطين فقط.

ربما يكون التفكير الأميركي الجديد تجاه الدور السوري قد بدأ بُعيد فشل القمة الأخيرة بين الأسد وكلينتون، لكن من المؤكد أنه وُضع على سكة التنفيذ بالتوازي مع قرار الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن بغزو العراق سنة 2003 ما جعل سورية في دائرة الاستهداف المباشر آنذاك. بل يمكننا القول إن التصويب الجاد والمبرمج على سورية إتضح في أيار سنة 2002 عندما أعلن نائب وزير الخارجية الأميركي جورج بولتون إضافة كل من ليبيا وسورية وكوبا إلى ما عُرف يومها بـ "محور الشر" المكوّن من العراق وإيران وكوريا الشمالية. آنذاك ظهرت الصيغة الجديدة الحقيقية لمعادلة كيسينجر: "لا سلام كما تريد سورية... بل سلام بتدمير سورية"!


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024