إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

صناعة سلال القصب في كفريا: حكاية تراث... والعودة الى الارض

نسخة للطباعة  | +  حجم الخط  - 2015-10-11

النشرة ـ تحافظ قرى قضاء جزين على مورثاتها القديمة التي تكاد تنقرض امام التكنولوجيا والحداثة، يحاول حرفيوها وهم باتوا قلة قليلة، الحفاظ على ما تبقى من صناعاتها التراثية، بدء من سكاكين جزين الشهيرة و"مضرب الامثال"، مرورا بألواح "صابون زيت الزيتون، والفخّار"، وصولا الى "سلال القصب"، وذلك بهدف الحفاظ على تراثهم ابا عن جد، ولكسب لقمة العيش وتحريك الدورة الاقتصاية صيفا مع توافد السواح الللبنانيين والعرب اليها كعاصمة للاصطياف الجنوبي.

في بلدة كفريا، قضاء جزين، ما زال المعلم جرجس طنوس "أبو طوني" (75 عاماً) ينكب على حياكة القصب وتحويلها الى سلال متعددة الاشكال والاحجام، فالمهنة التي تعلمها منذ صغره بات "شيخا" لا ينافسه احد فيها، يقول "تعلمت حياكة سلال القصب منذ 65 عاما، كانت عائلتي تحترف صناعة سلال القصب التي كانت مهمة جداً بالنسبة للبستاني والتاجر والمزارع، وكان والدي ينكب لشهور في إنجاز الطلبيات التي تنتظر الدور، فأحببت هذه الحرفة وتعلمتها، رغبة في مساعدة والدي في حرفته التي ورثها عن والده وجده".

الى جانب كفريا، ما زالت بلدات عمشيت، كواشرا، زغرتا، تحافظ على صناعة سلال القش كموروثة باتت نادرة، قل حرفيوها اليوم، اذ تحتاج إلى الصبر والأناة وتحمّل جروح "نسلات" القصب، وفيها من فن الإبداع بتطويع القصب بما يلائم حرية السلة التي تختلف أشكالها وفقاً للحاجة لها ومكان استخدامها، فسلال الورد مغايرة عن سلال الحمضيات والمونة والزيتون وغيرها، كما تستخدم في بعض المنازل للزينة، لهواة جمع الأشياء التراثية.

ويؤكد "أبو طوني" للحرفة أصول وفنون ودقة، إذ تمر بعدة مراحل، تبدأ من شراء القصب من ضفاف الأنهر ومن طرابلس والصرفند، بعدها يتم بلّها بالمياه لتلين، ثم يتم تقشيرها وتقطيعها إلى نسلات متطابقة، ويجري الانطلاق في تركيب "البدوة" ما يسمى بقاعدة السلة، فهي عبارة عن الركيزة الأساسية تتألف من أكثر من 10 قصبات، يتم رصّها في الأرض، وتتحكم بها الرجل واليدين التي تتحرك دون حدود أو قيود بسرعة ماهرة، بعدها نعلقها وندور حولها بوضعية الركوع، كل برمة تحتاج إلى برمة مقابلة، فيها مشقة وتعب كبير، لكنها تعد سهلة وصعبة في آن معا".

انتكاسة وعودة

في ذروة ازدهارها اواسط السبيعينات، اصيبت المهنة بانتكاسة الحرب الاهلية، ثم بانتكاسة عدم الاقبال عليها امام غول البديل، في الاولى تهجر جرجس قسرا من بلدته، لكنّه حمل معه حرفته من كفريّا إلى كفرحونة الجنوبية، حيث استقرّ وعمل هناك ردحا من الزمن، يقول "لقد كان التهجير النكسة الاولى للحرفة وكنت في حاجة للعمل، فتوظّفت في مؤسسة مصلحة الليطاني، وعملت حتّى سنّ التقاعد".

وفي الثانية، التي يصف "ابو طوني" بالدائمة والقاسية فهي تراجعت الاقبال على هذه الحرفة بشكل كبير بعد أن غزا البلاستيك والمطاط فضاءها، فأقصى حضورها، ودفعها لكي تقف قاب قوسين أو أدنى من الإنقراض، خاصة في ظل التنافس الحاد مع السلال الصينية المزخرفة، فالحرفة التي كانت تدر 21 مليون ليرة شهرياً قبل عشرة أعوام، بالكاد تسد تعب الحرفي اليوم، يؤكد أن "الطلب على نتاج السلال ضئيل جداً، فضلاً عن غياب السوق المحلي الذي يدعم المستور، رغم أنه لا فرق بالأسعار بين سلالنا التي نبيعها بـ 2500 ليرة في حين تباع الصينية بـ 3000 ليرة، أضف إلى أن المزارع يفضّل السلال البلاستيكية رغم أن القصب أمتن".

يرفض جرجس ورغم الانتكاستين، التقاعد عن الحرفة، فهي تعني له الكثير، بحيث يجلس في غرفة منزله يتحاور مع القصب.. الذي يتحول في غضون ربع ساعة إلى "سلة قصب" تترك في الزاوية بقربه لكي تنتظر من يشتريها، يؤكد "لن أتقاعد من حرفتي، وسأظلّ أعمل فيها حتّى أموت".

عودة ومهنة

بالمقابل، يعترف ابناء بلدة كفريا سرا وعلانية، أن صناعة سلال القصب هي التي أسهمت في عودة بعض أبنائها بعد عملية تهجير أبناء شرق صيدا بين عامي1985 و1992، ويقول المعلم متى مخول "عملية التهجير أدت إلى توقف هذه الحرفة التي كان يعمل فيها معظم أفراد الأسرة، وأسهمت في تعليم أبنائنا في أحسن المدارس، وبعدما كانت أسواق هذه الحرفة ميسرة وواسعة، وكان أصحاب بساتين الحمضيات والكروم والتجار يأتون إلى القرية وينتظرون ساعات حتى يتسنى لهم الحصول على السلال بأسعار يضعها صانعو السلال، فمن رجع إلى القرية عاد إلى الصناعة وإلى رعاية كروم الأكيدنيا والزيتون التي تشكل حالياً مصدراً اقتصادياً مقبولا".

بعد تقاعد مخول من وظيفته في الريجي منذ اكثر من عشر سنوات، باتت الحرفة مصدر معيشته الأساسي، يوضح "أعمل فيها يوميا نحو سبع ساعات، فأنتج بين 5 و7 سلال، وأوضبها في صفوف متراكمة، بانتظار أن يأتي من يشتريها، بسعر سبعة آلاف ليرة فقط للسلة الواحدة خاصة بعد تراجع بساتين الليمون، وخصوصاً في المنطقة الممتدة من الزهراني حتى مدينة صور والاستعاضة عنها ببساتين الموز، تراجع الطلب على السلال الكبيرة التي تتسع لصندوق ليمون وحمضيات وبناء على الطلب تصنع "حصر" القصب للمطاعم وكذلك لسلال الورد والأزهار، التي يعمل فيها اثنان أو ثلاثة فقط من أبناء البلدة اليوم.

غير ان تراجع الاقبال على الشراء لم يمنع مخول من المفاخرة بميزة سلال القصب، "رغم منافسة أقفاص البلاستيك لها، الا ان قاطفي بساتين الليمون وكروم الأكيدنيا والتين والعنب لا يجمعون غلالهم إلا في السلال نظراً إلى أهميتها في تأمين ديمومة المنتجات نتيجة التهوئة، يقول قد تكون أقفاص البلاستيك أفضل بنظر التجار، لكن يؤكد أبناء كفريا أن عمر السلة يدوم أكثر، إذ يتكسر قفص البلاستيك سريعاً، ويمكن المزارع استخدامها لسنوات طويلة لا تحوجه إلى شراء البلاستيك في كل موسم وفي السلال "المبطنة" بالخيش، بدل الورق سابقاً، لا تضرب حبة الأكيدنيا ولا تهترئ سريعاً وتظل معرضة للتنفس والتهوئة، فتدوم أكثر.



 
جميع الحقوق محفوظة © 2024