شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2016-01-16
 

رحلة مستقيمة ورحلة هلالية

راجي سعد

في نهاية سنة عاصفة بالاعمال واخبار النكبات من الوطن قررت مع العائلة ان نستغل فرصة اعياد الميلاد وراس السنة ونختم السنة ببعض الهدوء في شوارع ومقاهي ومتاحف مدينة بوسطن الاميركية. اسقلينا السيارة من تورنتو الكندية وسرنا لها حوالي 850 كلم الى بوسطن عبر ولاية نيويورك. كانت الرحلة مريحة فالمرور على الحدود اخذ اقل من 10 دقائق والطقس المتغير والمتقلب لعب لصالحنا. بعد الحدود سرنا في طريق شبه مستقيم وعبرنا القرية تلو القرية والمدينة تلو المدينة ولولا الآرمات على الطريق لكان من الصعب علي ان افرق بين معالم القرى والمدن فكل شيء يبدو متشابها ويتبع النمط ذاته. الاستراحات على الطريق والمطاعم والمدن واهاليها المتشابهين جعلني اشعر بالضجر فبدات اكلم نفسي واسالها ماذا لو كنت اسلك هذه المسافة في الوطن فهل ستكون الرحلة مشابهة لهذه الرحلة؟

ماذا لو بدانا رحلتنا من القدس واتجهنا نحو بيروت ومن ثم دمشق ومنها انطلقنا الى بغداد وعرجنا جنوبا نحو البصرة. كيف سنكون هذه الرحلة وهل ستتبع النمط ذاته. كلما استقامت طريق بوسطن اكثر كلما زاد خيالي تعمقا في طريق الوطن فاذا بنا ننطلق بين المسجد الاقصى وكنيسة القيامة في القدس ونسير نحو حيفا ونمر في صور وصيدا فاذا بي ارى على الشاطئ معالم الفينيقيين وسفنهم التي اغنت المتوسط وشعوبه بالحَرف والحِرف. بعد متابعة السير بين الجبل والبحر لفترة قصيرة وجدنا انفسنا قرب الجامعة الاميركية في بيروت مع التلاميذ يحضرون انفسهم للمستقبل وبعد التعرج صعودا نحو الجبل استقبلنا الثلج ببياضه في ظهر البيدر فسرنا ببطئ قبل ان ننحدر نزولا الى سهل البقاع لتستقبلنا مدينة الشمس بعلبك بدفئ معابدها الفينيقية-الرومانية. فجاة تبينت امامنا سلسلة جبال اخرى في الشرق قبل ان يعود بنا التاريخ الى اول مدينة بناها واهلّها الى اليوم فتنشقنا ياسمين العموريين والاراميين الدمشقي في استراحة قصيرة على نهر بردى.

بعد متابعة السير شرقا ادت لنا عواميد وهياكل زنوبيا في تدمر التحية فلم نستطع الا ان تتوقف وتنحني اجلالا واكبارا لمملكة تحدت جبروت امبراطورية لم تغب عنها الشمس. امام رهبة الموقف ودفىء الجو لم نستطع الا ان ندير المكيف ونسير في البادية التي اهملها اهلها بسبب الحروب والزحف الصحراوي التجويفي من الجنوب. رغم دفنها بالرمال فتشعر ان هذه الارض تنتظر بلهفة نسمة هواء من حرمون مرطبة بقطرات ندى من الفرات لكي تعود الحياة اليها من جديد وتزيل الغشاء عن وجهها. بعد عمل المسّاحات لاكثر من ساعتين لمسح الغبار عن وجه السيارة، اوقفتها حقول الارز الانباري ومياه الفرات التي رايت فيها عرق الانسان الاول الذي نقل البشرية من عصر الحجر الى عصر الزرع والتمدن.

قبل ان اشرد كثيرا في هذه الحقول الشاسعة، طلت علينا بغداد حفيدة بابل فاذا بنا في احد المقاهي التي تطل على دجلة، نُبحر في علوم الفلك والجبر وغيرها ايام العباسيين ومن ثم نقف امام مسجد المنصور الذي عولم الاسلام الرحمن الرحيم واوصله شرقا الى حدود الصين. بعد السير جنوبا تراءت لنا بابل وبوابة عشتارها التي ما زالت تنتطر تموز العصر ليزيل عنها السواد وظلم الايام ونتابع السير بين النهرين جنوبا فنرى في كل مدينة وقرية وكل شجرة نخيل روح حمورابي وسرجون الاكادي الى ان نصل الى ارض سومر في البصرة حيث يصافح ويهنئ التوامين دجلة والفرات بعضهما البعض في زرع الخير والجمال على الارض.

هذه الرحلة الهلالية في الوطن لم تكن اتعب على الجسد من رحلة بوسطن المستقيمة رغم طولها لانها كانت اغنى للنظر والنفس والعقل واملت فراغ الجسد من روحه. كم نحن بحاجة لاعادة الحياة لهذا الطريق فلا نعد نصدر طلاب الجامعة الاميركية وغيرها الى عالم يلبي حاجاتهم المادية لكنه يفرغ روحهم من اي حياة. كم نحن بحاجة لرحلات على هذا الطريق بدون حواجز وفواصل لنبتي ونعمر ونشجر فنوقف تمدد الصحراء الفكري والمادي الى ارضنا الغنية بانسانها. كم نحن بحاجة لنسلك هذا الطريق الهلالي لنغني نفسنا بهذا التنوع الحضاري الذي يكمل بعضه الآخر. لا نريد خط مستقيما لا طعم له ولا لون بل خطا متعرجا متنوعا هلاليا خصيبا فيه الجبل والسهل والبادية والتاريخ والحضارة والمستقبل ليسير عليه الانسان الجديد بجنب ابن وطنه الانسان فيتجانس مع السماء ويكسب الارض والحياة وجنة الخلود.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه