إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

لبنان من جمهورية الفساد إلى جمهورية البرغش

علي بدر الدين - البناء

نسخة للطباعة 2016-04-14

إقرأ ايضاً


كشفت فضائح الفساد المعلنة والخفية التي طاولت بعض مرافق الدولة ومؤسّساتها الانغماس الكلي للطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة منذ أكثر من عقدين في مصير البلاد والعباد وقدرتها السحرية على تطويع الشعب اللبناني أو تحييده في لعبة الصراع القائم بين مكوّناتها للإمساك بالقرار السياسي وللسيطرة المطلقة على الثروات والمواقع، أو أقله لتحقيق المكاسب التي تغيّر في المعادلات القائمة وتفرض أمراً واقعاً جديداً يتيح لها التفاوض من موقع القوة في كثير من الاستحقاقات والمحطات السياسية المفصلية، ووضع اليد على ملفات تفتح أمامها آفاق ربح إضافي في السلطة وخارجها.

وأظهرت هذه الطبقة قوتها الفعلية حيناً والمصطنعة أحياناً من خلال اللجوء إلى الطائفة أو المذهب أو إلى النفوذ وسلطة الهيمنة والمال لترمي أحمالها على جشعها الذي لا ينتهي، وقد حوّلت الطائفية والمذهبية والزعائمية إلى مطية تركب موجاتها كلما شعرت أنها في حالة ضعف، أو أنّ كفة الميزان مالت لغير مصلحتها، وهذا ما حصل في كثير من القضايا والأمور على مستوى السياسة والاقتصاد والأمن وحتى في الخيارات المرتهنة لدول إقليمية ودولية.

كما أنّ هذه الطبقة المتسلّطة بامتياز عرفت كيف تحوّل غالبية الشعب اللبناني إلى عجينة مطواعة لا حول لها ولا قوة ولا قدرة للدفاع عن نفسها وحقوقها التي نصّ عليها الدستور وأمعن في شرحها بالتفاصيل المملة، غير أنّ هذا الشعب الحاضر الغائب على هامش الصراع السياسي الدائر والمحتدم بين مكوّنات هذه الطبقة للفوز بمناقصة إجراء حصر إرث للبنان في مرحلة توحي فيها المعطيات السائدة والمؤشرات الظاهرة للعيان أنه بات على «قاب قوسين» من الاحتضار، والأمثلة كثيرة ويعرفها اللبنانيون ويتداولونها في صباحاتهم وأمسياتهم وفي كلّ مناسباتهم مع قناعتهم بأن لا أحد أقوى من هذا البلد الذي برأيهم لن يموت، وأنه كطائر الفينيق قادر على الحياة من جديد والانتفاض في مواجهة موجات الجراد السياسي الذي من عاداته وطبائعه أن يأكل الأخضر واليابس ومن بعده الطوفان.

لا شك في أنّ لبنان يغرق بفعل فاعلين، ولكن هذا لا يعني اليأس والإحباط والاستسلام لمشيئة ورغبات وأهداف مَن يسعى لإغراقه محلياً أو إقليمياً أو دولياً، وقد مرّ بظروف أقسى وأكثر خطراً، ولكنه خرج منها ناجياً متحاملاً على نفسه لتجاوز المؤامرات والصدمات والتحدّيات والأخطار الداهمة والمرتبطة بفعل فاعلين أيضاً حرصاء على ديمومته وبقائه مرتعاً هادئاً هانئاً لشعبه على اختلاف تنوّعه الطائفي والمذهبي والسياسي، وكما يقول المثل اللبناني «لو خليت خربت»، لأنّ فيه مَن هم أمناء على المصلحة العامة وقدّموا في سبيل الدفاع عنه الغالي والنفيس من الشهداء والدماء، وفي مقدّم هؤلاء المقاومون الذين سطروا البطولات وقدّموا المُهج والأرواح وهزموا العدو الإسرائيلي ودحروه ذليلاً عن أرضه ومن مدنه وبلداته، كما الجيش الذي يتفانى ضباطه وعناصره وقيادته، ولم يبخلوا بدمائهم في سبيل صونه وحمايته من اعتداءات الكيان الصهيوني ومن الإرهاب التكفيري الذي فشل وسيفشل في تحقيق مخططاته المشبوهة للإيقاع بين اللبنانيين وتحويله إلى منصة لهم أو إلى أرض لجهادهم المزيّف.

هذا الأمل المعقود على القوى الوطنية الحية لا يُعفي الطبقة السياسية من مسؤولياتها في إيصال لبنان إلى ما هو عليه اليوم من تفكك وانقسام وفساد وعوارض وإفرازات خطيرة، إذا ما تمادت ستصيب منه مقتلاً، ومن مآثرها السيئة أنها تركت «الحبل على غاربه» وساهمت عن قصد أو من دونه بتعميم ثقافة الفساد وحماية المفسدين والمرتكبين، حتى ضرب الفساد في كلّ موقع، فتاجروا بالمحظورات والممنوعات والأدوية وغذاء الناس وبأجساد النساء وبالنفايات وغيرها، وكلها ملفات ساخنة فاحت منها روائح الصفقات والسمسرات، والمواطن وحده يدفع الثمن لأنه وضع كلّ «بيضه» في سلة طبقة سياسية خانت أمانة المسؤولية وانشغلت بالبحث عن حصصها وتراكم أرباحها وتكديس الأموال في مصارف خارجية كأنها في سباق مع الزمن الآتي وقد يداهمها الجوع بعد أن تغرق وما جمعته في المجهول الصادم. وهذا لا بدّ أنه آتٍ ولو بعد حين لأنه «ما جُمِع مالٌ إلا من شحٍّ أو حرام»، وأنّ هذه الطبقة المرتهنة كلياً لأنانيتها وللآخر باتت عاجزة عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وحوّلت جلسات الحكومة إلى حلبة لصراع الديوك يتمترس معظم مكوّناتها خلف المصالح والمنافع بذريعة الحفاظ على مكتسبات هذه الطائفة أو تلك في مناصب الدولة ووظائفها، وتجعل من «الحبّة قبّة» وهي بالنسبة للبعض مسألة حياة أو موت. وفشلت في تفعيل دور ووظيفة مجلس النواب التشريعي والرقابي، وعطلت القوانين وعقّدت مصالح المواطنين وحوّلت المجلس إلى ملتقى لبعض «نواب الأمة» يتبادلون فيه القبلات والمجاملات وارتشاف القهوة، وجلسات الحوار إلى مجرّد أحاديث متبادلة لا تقدّم شيئاً بل تؤخّر في مسيرة التوافق على إيجاد الحلول المرجوة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما حوّلت لبنان من أقصاه إلى أقصاه إلى مكبّ للنفايات وموئل للكلاب الشاردة والقطط والجرذان والفئران والحشرات القاتلة الموبوءة التي تدخل البيوت والأبدان من دون استئذان لتزيد من الأمراض القاتلة التي بدأت تفتك بأجساد اللبنانيين، وقد علت الصرخة مؤخراً من البرغش الذي يهدّد مصائر الناس ويقلق حاضرهم ومستقبلهم. وماذا عن الأغذية المسرطنة والقمح المعفّن والأدوية الفاسدة والكثير الكثير من الفساد المستشري الذي تحوّل إلى فضائح بالجملة والمفرّق.

لكن الأسئلة المحيّرة إزاء ما يحصل، أين الطبقة السياسية أو السلطة الحاكمة المتحكّمة من كلّ ما يجري، ماذا فعلت لوضع حدّ لهذا الفلتان القاتل؟ ما هي الإجراءات التي أقدمت عليها لحماية لبنان وشعبه من التداعيات الخطيرة؟ لماذا لم يتجرأ أو يُقدِم أيّ مسؤول بوحي من ضميره إذا وُجد أو من مسؤولياته، أن يقول كفى متاجرةً وكفى استخفافاً بهذا الشعب الطيب وبهذا البلد الجميل الذي يتغنّى العالم بجماله وإبداع شعبه وتوقه الدائم إلى السلام؟ وبالتالي أين هو الشعب؟ لماذا لم يتحرك؟ ولماذا انكفأ إلى أحضان الطوائف والمذاهب والزعامات والمرجعيات؟ مع أنه يشعر في قرارة نفسه أنه الضحية وأنه مَن سيدفع الثمن…!

ألم يحِن الأوان ليقول هذا الشعب كلمته ويقف على رجليه ويتصدّى لمن يصادر قراره وحريته وحقه بالعيش الكريم في وطنه وبين أهله بدلاً من الرحيل الموجع؟

ومتى يستفيق هذا الشعب من تخديره وينتفض في وجه جلاّديه وكل مَن شلّ قدرته وحوّله إلى مجرّد إنسان يأكل ويشرب وينتظر الراتب آخر الشهر، إذا ما بقي متوفراً في ظلّ إفراغ خزينة الدولة لمصلحة الطبقة السياسية التي راكمت ديون لبنان إلى أكثر من مئة مليار دولار.

هل نشهد ولادة لبنان جديد فتتبدّل المعادلة السائدة ويعود إلى الوطن سلامه وعافيته ويكون الحكم للمؤسسات الفاعلة والمؤثرة التي تحكم بالعدل والحق وتقدّم النزيه والكفوء وتحاسب الفاسد والمرتشي والأزعر ومغتصب الحقوق، أم أنّ هذا الشعب دخل في «الكوما» وفقد الشعور بالأمان والسلام ورفع العشرة للحاكمين واستسلم لقدره واكتفى بالدعاء «وحسبي الله ونعم الوكيل». وهذا يعني إطلاق رصاصة الرحمة على لبنان واللبنانيين الذين ارتضوا بواقع الحال «لأنّ التغيير محال» أو كما يُقال «القطّ يُحبّ خنّاقه» و«فالج لا تعالج»؟

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024