شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2017-01-26
 

مفهوم الحرية في فلسفة أنطون سعاده - المدرحية القومية الإجتماعية 6

يوسف المسمار

مقومات نشوء الحرية

المقوم الأول : الـوعيّ الإنساني

إن الوعي الإنساني السليم هـو شرط أساسي وجوهـري لقيام ونشوء الحرية ، لأن " المجتمع مـعـرفة والمـعـرفة قـوة " كما قال أنطون سعاده . والقـوة هي حـركة ديـناميكية حـيـّـة نامـيـة . والمعـرفة التي نقصد هي المعرفة الإنسانية بكل أبعادها،وبكل مستوياتها ومقايـيسها المنبـثـقـة من يـقـظـة المـجتمع ، وتـنـبـّهـه لوجوده ومعـنى وجوده. وحياتـه ومصـالحـه في الحـيـاة. ومصـيـره وكيفية تحـسين وتجـويـد وتـرقـية هـذا المـصـيـر.

إن الحريـة هي وليـدة تـنـبـُّه الإنسان الخـارج من الظلـمة الى النـور. ومن الشك الى اليقـين.ومن الجهل الى العلم.ومن الضلال الى الهُدى. فالجاهـلون المتخلفـون لا يمارسون إلا جهلهم وتخلّفهم وانحطاطهم. إنهـم عبـيـد جـهـلهـم وتـخـبطهم وبـلبلاتهـم وعـقـدهم وأمـراضـهـم النفسية التي لا تسمح لهم بأن يكونـوا أحـرارا ً. الحرية لا تكون من غير يقظة والحر لايكون بلا وعيّ . الحرية تحرر من الغفوة والجهل والخرافة والوهم والتكهّن .

وعلى عـكس الجاهليين الخرافيين يكون الواعـون العارفون العاقلون أحراراً بوعيّهم ومعرفتهم وتبـصّـرهم وصراعـيـتـهم ، حيث يـؤكـد تـنـبـُهـهـم ، وتـؤكـد مـمارستـهم لوعـيـهـم وبطولتهم على إصالتهم وعلى صـفـاء حريتهم وسـمـوّهـم في حـريـتـهم .

الحرية لا تكون من غير يقظة ونهضة، والأحرار لايكونون بلا وعيّ وادراك . الغفوة عبودية والخاملون عبيد . الوعيّ حرية والواعون أحرار . النهضة حرية والناهضون أحرار.

إن الحرية الإنسانية لا تـُحَــد لأنها لا تكون إلا بالمعرفة المتـطـورة النامية بـغـيـر حـدود . كـتـطـور المـجتمع ونـمـوّه وتساميه الذي ليس

لـه حـدود . أما العبودية فـوحـدها هي المـحـدودة بالغـفـوة والغـباء والخمول والجـهل والاتكالية والتـخـلـف والإنـحـطـاط .

المـقـوم الثاني : المناقب الإجتماعية

إن المناقب الإجتماعية الانسانية هي الشرط الثاني من شروط توفر مناخ الحرية التي يستحيل أن تكون وتـقـوم مع الرذائـل والمساويء والمـفـاسـد .

إن الحـرية مـنـقـبة . والحرية التي لاتكون مـنـقـبة وغيـرالمقـترنة بالمناقب الإجتماعية الإنسانية الراقية لا تكفي ولا تسمح أبداً أن يكون الـمـجـتـمـع حـرا ً ، وأن يكون أبنائه أحراراً . ولذلك لا بـد من توفـر عـقـلية أخلاقية فاعلة يـمارسها الإنسان وعـيا ً، وتحقـيـقا ً ، واستمرار مـمارسة ، فـيعـبـّر بـذلك عن حـريته الصـحـيـحة السليمة محـبـةً، وعـدلاً، وحـقا ًوخـيـراً، وجـمالاً، ونظاماً، وقـوة، ومسؤولة ً، وعـطاء ً، وتضحية ، فـترتـفـع الحرية الى مستوى قيَمي ومناقـبي جـديـد وتـصـبـح، بالإضافة الى كـونـها قـاعـدة من قـواعـد النهضة القومية الإجتماعية ، فـضـيلة ً من فـضائـل هـذه النـهـضـة.

إن الذين يمارسون الفضائل باستمرار، ويعـملون ويعـطون ويبدعون ويصارعون ويـضحون في سبـيـل تحـقـيـق المـُـثـُـل ِ العليا العظيمة لأمتهم هـم وحدهـم الأحياء الأحرار بوعيهـم ومعرفـتهم ومناقبهـم وفضائلهم . والمجتمع الواعي المناقبي الفضائلي هو بالذات المجتمع الانساني الحر الذي يستطيع ان يكون قدوة حسنة لغيره من المجتمعات، ويستطيع ان يكون معلماً هادياً للأمم .

أما الذين يعيشون بالرذائـل المـتـأتية من جـهلهم وتـخـلفـهم وسوء طبائعهم فليسوا من الأحرار في شيء ، ولا يستحقون أن يكونوا أحراراً. فهم لا ينتمون الى مجتمع المعرفة بل ينتمون الى تجمعات القطعان . والقطعان التي ليس لها رعاة تمزّقها وتفترسها الوحوش .

المـقـوم الثالث : التـقـدم الإجتماعي الإنساني

إن التـقـدم الإجتماعي الإنساني ، فـضـلا ً عن كـونه ميزة من مزايا نـمـوّ الإنسان ـ المجتمع ، ونـمـوّ وعـيـه ،وسـمـوّ مناقبه، فإنه أيضا ً شـرط ثالث من شروط مناخ وجـود ،ونموّ، وسـمـوّ الحـرية . لأن المعرفة التي لا تنمو، ولا تتطور، ولا تتـقـدم وترتـقي، فإنها ليست معرفة فاضلة بـتحـجـّرها وانغـلاقها وتـقـوقعها . هذه ليست معرفة بل هي حالة تحجّر تـُعـَـطـِّـل ، وتخـنـق العـقـل الإنساني بمفاهيمها الجامـدة ، وقـوالبها القاتلة . وتـتحـول الى درك رديء من دركـات العـبـودية .

إن قـدرة العـقـل الإنساني المجتمعي لا تـُحـَـد. والعـقـل السليم النامي هـو وحـده الذي يـضـع القواعـد ، ويـقـررالمفاهيم،ويكتشف النواميس ويـُذلِّـل كل عاصي. فإذا قـُولِبَ العـقـل بالقوانين،وحُوصِر بالنظريات والتنظير، وقُيِّد بعفن التقاليد والعادات والاعراف والخرافات والأوهام فـقـد بَـطـُـلَ أن يكون عـقـلا ً. لقـد" وُجـِـدَ العـقـل ليعـرف ، ليدرك ، ليتبصـر ، ليـمـيـّـز ، ليـعـيـّن الأهـداف ، وليفـعـل في الوجـود" على حـد تعـبـيـر المعلم أنطون ســعاده .

وبالعـقـل ليس للحـرية حـدود.لأن العـقـل يسمو ويتسامى بغير حدود. فحريتنا ، تقاس مـثـلا ً ، بـقـدر ما نكون نحن متـقـد مين وسبّاقين ومتفوّقين ومبدعين وخلاّقين في مضمار الحضارة ،وليس بنسبة ما نكون متخلفين ومتأخرين وخاملين ومتخاذلين . وحريتنا يجب أن تـقاس بالنسبة لما حـقـقـته أرقى المجتمعات الحضارية ، بل يجب أن تُـقـاس حـريات الأمم الـراقية بالنسبة لمفهـومنا القـومي المجتمعي المدرحي الراقي الجديد للحرية الذي تجاوز وتخطى أرقى المفاهيم . ولا يجوز أبداً أن نقيس حريتنا بالنسبة للمجتمعات المتخلفة الغبية .

مقومات الوعيّ والمناقب والتقدم

إن الـوعيّ،والـمناقب، والتـقـدم،هي مقومات أساسية وشروط مهمة ضرورية لا يمكن أن يتـوفــر مناخ الحرية المجتمعية الإنسانية بـدونـها . وهي:

وعي المجتمع حقيقة وجـوده ،ومصالح حياته،وتعيـين أهـدافه ومـُـثـُـله العليا ،

وهي ممارسة الفضائـل والمناقب القومية الإجتماعية لتوليـد عـقـلية أخلاقية جـديدة جـيـدة ،

وهي صـراع بالوعي والمناقب وتقدّم بطولي لتحقيق أسمى المـُثـُل وأبعـد المرامي التي تليق بأصحاب النفوس الحرّة الجميلة العظيمة.

المفهوم الجديد يستوعب جميع المفاهيم

هذا المفهوم الجديد للحرية قادر أن يستوعب جميع المفاهيم الجزئـية للحرية في العالم لأنه يقول بحرية المجتمع كل المجتمع.وليس بحرية فـرد أو أفراد، ولا بحرية فئـة، أو حرية طائـفة أو طبقة. إن المجتمع هـو حـر بقـدر ما فيه من وعيّ ومعرفة ، وبـقـدر ما يمارس من المناقب والفضائـل ، وبـقـدر ما يحـقـق من التقدم والإرتقاء .

ولذلك فإن المجتمع الحر هـو وحـده الذي يتمتع فيه أبناؤه كل أبنائه بالحـرية . فـهم أحـرار لأنهم من مجتمع وفي مجتمع حـر . أما الذين يقولون بحريات سياسية او اجتماعية او أدبية أو اقتصادية أو دينية أو جزئية وعلى أساس فردي أو فئوي ، فإن مفاهيمهم تبقـى قاصرة عن مفهوم الحرية السليم الشامل كل هذه الشؤون . وحبذا لو استبدلوا كلمة الحريات بكلمة حقوق لكان أصح وأصوب .

المفهوم الجزئي للحرية لا يرتقي الى المفهوم التام

إننا نقبل مفاهيمهم من حيث هي مفاهيم جزئية ، وليس من حيث هي مفاهيم شاملة . فالحرية التي تقول بها الرأسمالية الفردية مثلا ً ، والتي تبيح للفـرد في المجتمع أن يعـتـقـد بما يـريـد ، ويـقـول ما يـريـد ، ويـعـمـل ما يـريـد ، ليست حـرية حـقـيـقية صحيحة شاملة . فما هي قيمة إعـتقاد أو قول أو عـمل الفرد الجاهلي السيء المتخلف الشرير المجرم في ظـل الأنظمة الجائـرة الفاسدة المستبدة المستغلة نشاط وجهود ونتاج الملايين لمصلحة فـئة ظالمة جـشعة خائـنة متآمرة على أبناء مجتمعها ؟!

إننا نـقـول أولا ً بتحرير الفـرد من عـقـد المخاوف والأوهام والمفاسد والحاجات المادية والروحية وأمراض الأنانية والفـئـوية والطائفية والمذهبية والكيانية الضيقة. وتحريرها أيضاً من العادات والتقاليد والأعراف البالية النتنة العفنة ،ونعمل لإيجاد النظام النهضوي الجديد، وتوفير المناخ الصحيح الملائم، ليصبح لإعتقاد الفـرد وقوله وعمله وممارسته قيمة الحرية بـتـربيته على الـوعيّ ، وتـدريبه على حيـاة المناقب ، وتأهيله وتشجيعه على التقـدم والصراع ، واطلاق مواهبه وقـدراته ليبتكـر ويبـدع أرقى ما تستطيعه النفس الانسـانية الحـرة المبدعة من ابتكار وابداع .

مـفاهـيـم جـزئـية

أما الحرية الإقـتصادية التي قالت ونادت بها الفلسفات والمذاهب الاقتصادية المادية ، والتي لاقت استحسانا ً عـنـد الكثيرين من الناس ليست أكثر من دليل على وجود الخلل والأخطاء في المفهوم الرأسمالي الفـردي للحرية .

فبدلا ً من أن تكون الأقلية العددية متحكمة بحياة المجتمع ، ومسخـّرة كل جهوده لمنافعها بتسلطها على مصالح حياته ، وتسخيره لخدمة أغراضها الخصوصية الشخصية في النظام الرأسمالي الفردي ، فـقـد شددت الماركسية وحرضت على ثورة طبقة الأكثرية المسحوقة المحكومة على الطبقة الحاكمة والعمل من أجل إذلالها والسيطرة عليها وإنشاء :"دكتاتورية البروليتاريا "مكانها مجزئةً بذلك المجتمع ومـدمرةً وحدته باقـتـتال داخلي ، ومعطلة وعيه ، ومحطمةً مناقبه وروحيته وقيمه ، وقاضيةً على كل امل بالتقدم والرقي ، لأن " كل مجتمع ينقسم على نفسه يخرب " كما علّم رسول المحبة والسلام يسوع السوري .

إن المفـهـوم الماركسي ـ بـدلا ًمن التركيز على وحدة المجتمع ـ شـدّد على تـفـتيته بحجة توحيـده ، وأثار الضـغائـن والأحـقاد في نـفـوس أبناء المجتمع فانـشلت حـركـته الإنتاجية ، وتـعـطـل فـعـل طاقاته التي يـجـب أن توجـّـه كلها لتحسين أوضاع المـنـتـجـين بـتـحـسين حـياة المجتمع وتـرقـيـته بـتـمام وجـوده .

وهـو أيـضا ً ـ بـدلا ً من الرؤيـة العلمية الوقـعـية للعالم الإنساني كـواقـع مجتمعات متمايزة بحضاراتها ومواهبها وقـدراتها ـ فإنه تجاوز هـذا الواقـع وأثار بين الشعـوب حروبا ً على غرار حـروب الـدول الرأسمالية الإستعمارية أدت الى استعباد كـثيـر من الشعـوب المـتـخـلفة بـدل مـساعـدتـها على النـهـوض والتـقـدم . فـصارت العلاقة بين الشـعـوب عـلاقة تابـع ومـتـبـوع ، وعلاقة عبيد وأسياد بـدل أن تـكـون عـلاقـة التـعاون بين المجتمعات الناهضة وعلاقة الإخـاء الإنساني التي هي في أساس الحـضارة العالمية والتـقـدم الإنساني ويـجـب أن تـكـون .

إنـنا نـجـد ـ في الحـقـيـقة ـ أنه كما قـصـّر المـفـهـوم الرأسمالي الفـردي الإستعماري التـسلطي في معالجة مشاكل العالم فـكـذلك قـصَّر أيـضا المـفـهـوم المـضـاد.

** يتبع


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه