إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرفيق المحامي سليم حتي وكتاب "منهل الشرائع"

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2018-03-29

إقرأ ايضاً


سمعت عنه ولم اتعرّف إليه سابقاً. سعيتُ الى جمع معلومات تؤسس لكتابة نبذة نعرّف بها عن رفيق أعلم انه كان ترّشح عن المقعد الماروني في عالية. في حوزتي صورة كبيرة له ملونة، ومعلومات اولية، منها عن موضوع مقتله في منزله في شملان بعد ان كان استلم قبل ساعات، مبلغاً مالياً من نقابة المحامين. سأبحث عن ذلك في "تلال" ارشيفي عساي أصل إليها في وقت غير بعيد، فأنشرها في ملحق.

*

جيد ان يقوم الرفيق غسان محمود الخالدي(1)، بإصدار طبعة ثانية لمؤلف الرفيق المحامي سليم حتي "منهل الشرائع" الذي كانت صدرت عام 1965 طبعته الاولى. وقد كان جيداً ايضاً لو نشر نبذة تعريفية تضيء على سيرة الرفيق حتي، اذ ان معظم الرفقاء لم يسمع به، وبالتالي لا يعرف عنه سوى النذر اليسير.

نكتفي اليوم بالتعريف على "منهل الشرائع" عبر نشر كل من مقدمة الطبعة الاولى للمؤرخ والاديب الرفيق جورج مصروعة ومقدمة الطبعة الثانية، عام 2008، التي كان وضعها الامين عبدالله قبرصي قبل رحيله وكانت في حوزة الرفيق الخالدي.

شكرا للرفيق غسان محمود الخالدي على جهوده(2) وننتظر منه دائماً كل ما يفيد المكتبة القومية الاجتماعية.

مقدمة الطبعة الاولى

للمؤرخ الرفيق جورج مصروعة

" يوم اخبرني صديقي الاستاذ سليم حتي انه وضع دراسة في تاريخ الحقوق، يريدني ان أكتب لها مقدمة، حسبته مازحاً. ولما لمست الجد في نبرة صوته وملامح وجهه، وصارحته بأن "مجهولاتي" الواسعة في معارج الشرائع والقوانين تجعلني آخر من يستطيع تلبية طلبه، فاعترض قائلاً ان دراسته أقرب الى البحث التاريخي منها الى الغوص في علم الحقوق، فاقتنعت بوجهة نظره، وأقبلت على قراءة المخطوطة التي حملها إليّ، فإذا بها هذا الكتاب القيّم الذي يملأ فجوة في مكتبتنا العربية، ويعالج موضوعاً أقل ما يقال فيه أنه إشراقة في حضارتنا الباذخة، وبعث لتراثنا العريق، هذا التراث الذي أهملنا منه كنوزاً دفينة، وجواهر غالية يعلوها الغبار، فرقدت رقادها الدهري في ظلمة النسيان، وكان حرياً بنا ان نحملها مشكاة للمعرفة، ونبراساً متألقاً تهتدي به شعوب الارض.

واذا كان سليم حتي قد رفع النقاب عن جانب من هذا التراث فإن عمله عظيم القدر، جليل الفائدة، يقدم لدارس تاريخنا – ولا سيما تاريخ الحقوق – مرتكزات وطيدة الدعائم، ولاجيالنا الطالعة منهل فخر بوطنهمن واعتزاز بعبقرية أمتهم.

اراد المؤلف ان يكتشف أصول القوانين في أعمق جذورها، فحملنا الى اوغاريت، وأطلعنا على ما يدهش من عقودها، ثم أمعن في الغوص فوصل الى الينبوع الاول، الى سومر. وفي هذا المضمار السحيق في القدم، الغارق في لجة من الغموض والإهمال، المتواري تحت طبقات من التراب والنسيان، صال سليم حتي وجال وانتزع من غياهب "اور" شمساً كسفت نجم حمورابي، وجددت شبابها، فاذا بها تكشف ما كان مستوراً، وتوضح ما كان خافياً. وهذا ما يجعل كتابه جديراً بأن يدرّس في معاهد الحقوق.

قارن بين قوانين سومر وشريعة حمورابي، فإذا بهذه قبلية مادية حتى الإغراب، غايتها الانتقام والتنكيل، بينما تلك حضارية راقية، انسانية، ترمي الى إحقاق الحق عن طريق الإصلاح، آخذة بعين الاعتبار تأثير البيئة، وقيمة الدوافع، والاسباب التخفيفية.

وتوسع في درس القضاء السومري، معززاً آراءه بالوقائع، والأحكام، فإذا بنا أمام شرائع راقية، هي وليدة حضارة مكتملة الاوصاف، واسعة النطاق، متينة الأسس، شامخة الصروح.

وكأني به لم يقفز الى تلك الابعاد النائية في رحاب الزمن الا ليكتشف المرجع الاول والقيمة الاساسية اللذين جعلا من بيروت مدينة الحقوق الاولى في الامبراطورية الرومانية.

تناول ما قيل في هذا الصدد معتمداً محك المنطق والبحث العلمي الموضوعي، ففند آراء بعض المؤرخين، وأوضح الكثير من الملابسات ودقق في نشوء مدرسة بيروت، ونموها، وازدهارها، ثم عرض أثرها ومدى إشعاعها العالمي. مثال ذلك أنه أخذ قولاً لغريغوريوس النزيانزي كان يُعتبر حقيقة راهنة كأنه آية منزلة، وهو: "إن بيروت تفوّقت في مجال الحقوق لكونها رومانية أكثر من جميع مدن الشرق الأوسط"، فتساءل سليم حتي بكل بساطة:

- أكانت بيروت، يا ترى، رومانية أكثر من روما؟ إذا كانت الصفة الرومانية هي العامل الوحيد على التفوّق في درس الحقوق وتدريسها، فلماذا هبطت روما حيث حلّقت بيروت؟

وخرج من هذا التساؤل الى القول بأن مدرسة بيروت لم تتألق لأنها كانت مستودع الدساتير الرومانية، بل جعلها الأباطرة مستودعاً لهذه الدساتير لأنها كانت متألقة. وبمثل هذا المنطق الناصع الذي لا يدع مجلاً للجدل قلب المؤلف الآية الغريغورية النزيانزية رأساً على عقب وجعل المعلول علّة، والعلة معلولاً. وبكلمة أوضح، بيّن ان بيروت أصل لا فرع، وأنها ينبوع لا جدول، ومتبوعة لا تابعة.

وبعد تركيز هذه الوقائع عمد الى أحياء معالم مدرسة الحقوق البيروتية، فدرس موقعها، ونشوءها واسباب بنائها، ومراحل حياتها وحياة الطلاب فيها، وأشهر أساتذتها، ومخلفات هؤلاء الاساتذة، معتمداً اوثق المصادر، وأصدق المعلومات.

وتطرق الى برنامج الدروس فحلله تحليلاً، وعرض مواده، وتابع مراحلها في مختلف العهود الرومانية، وختم دراسته بكلمة موجزة جامعة موكداً قول الشاعر القديم ننوز ان بيروت كانت "مجد الملوك في اول التجليات، أخت الزمن، ولِدَة العالم، واقطاع العدالة، ومقر المشترعين !"

*

مقدمة الطبعة الثانية،

للامين عبدالله قبرصي

كنت اتصوّر وانا طالب في "معهد الحقوق الفرنسي" في بيروت سنة 1929 – 1932 وحتى دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي ان الرومان هم آباء الحقوق والشرائع في العالم وأنهم بناة الحضارة القديمة التي تقوم على نشوء الدولة وتنظيم المجتمع في علاقات الناس فيما بينهم وعلاقاتهم بدولتهم، ولكني بعد انتمائي للحزب واطلاعي على تاريخ سوريا القديم من بين النهرين الى شرقيّ البحر الابيض المتوسط آمنت ان بلادي منهل الشرائع والقوانين فهي أول من شرّع ثم أنها هي أول من اخترع الحروف الأبجدية، فرحت أعتز بها اعتزاز الولد بأبويه العظيمين ابداعاً وجمالاً وعبقرية.

ولقد كان ينقصنا لنتعرف الى حضارة بلادنا درس يعلمنا أنها أم التشريع في العالم وأن يكون بين ايدينا مرجع معزز بآراء كبار المؤرخين وأساتذة القانون فإذا بالرفيق والزميل والصديق الراحل المحامي سليم، يسُدُّ لنا هذه الحاجة ويلبي لنا هذا المطمح وإذا بنا نعرف ان مرتبة الحضارة السومرية بالنسبة لنا، مرتبة الرائد في الحضارات، ومنها الحضارة المصرية لأنها هي السابقة(ص54).

لقد قدّم للكتاب قبلي أديبنا الكبير الراحل جورج مصروعة مقدّمة يغلب عليها الطابع الادبي الجذاب، فيما انا أضع المقدمة القانونية التي تظل جافة امام المقدمة الاولى، لأن الادب نبع فيّاض بالماء والنسمة، فيما القوانين لا تروي عطشاً بل تقدم غذاء للعقول والأذهان وهي تشكل مع الادب والفنون الدعائم الأساسية لكل حضارة، لكل تقدم.

ولنبدأ من البداية

لنقرأ ما كتب المؤلف الراحل، باكراً، مغدوراً في هذه الحرب التخريبية الغادرة في الصفحات 35 – 36 من كتابه "حيال هذا الفارق الكبير بين ما تحلّت به الحضارة الاوغاريتية (السورية) من نبل الشعور وأصالة الفضيلة، فضلاً عن النشاط البناء والعبقرية الخلاقة وبين ما كانت تتخبط به الشعوب الأخرى من فظائع الاستبداد والظلم والتعسّف لا نستطيع الا ان نفكر بالكارثة الدهماء التي حلّت بالعالم يوم انهارت القوة الكنعانية الآرامية الخيرة.

إن المؤلف الذي تستهلّ كتابته بهذه النبرة القومية الشرقية ينبؤك بأن هذا الكتاب أثر ثمين يجب ان يقرأه أهل الهلال الخصيب والعالم العربي ليدركوا كم هو تاريخهم في مطالعه الاولى تاريخه عطاء خصيب للمعرفة في شتى أشكالها من القانون الى الادب الى الفن الى الزراعة والصناعة.

أليس معبراً عن هذا الشأن الجليل ما كتبه الشاعر اليوناني "NONUS" المولود سنة 410 م عندما تحدث عن مستقبل العالم حيث قال: "إن الخلق مدمر الدول لا ينقطع عن إنشاء السلام حين تتحكم بيروت حامية الأمان والحياة في مصير الارض والبحار وتقوى مدن شارع السلام الذي لا يتهدم وأخيراً حين "تتحمل هذه المدينة كلياً مهمة تنظيم جميع مدن العالم".

قبل سعيد عقل، هذا الشاعر اليوناني كان يبشر "بلبننة" العالم على اساس ان بيروت عاصمة لبنان في لغتنا الحاضرة لا في لغة ننوز! هذا رغم ركاكة ترجمة (ص111) أقوال ننوز.

ولآننا نحيا منذ خمس عشرة سنة زلزالاً لا مثيل له في تاريخ الزلازل، يذكرنا سليم حتي بزلزال سنة 551 الذي جعل من بيروت انقاضاً. لقد دمرت فهلك فيها ثلاثون ألفاً وانتقلت مدرسة الحقوق الى صيدا (ص113). أمكتوب لهذه المدينة منذ القديم القديم ان تصاب بالزلازل، هزات ارضية كانت ام حروباً طائفية بغيضة لعينة كالزلزال الحالي الذي لا يزال يهدم بناياتها الفخمة ويقتل ابناءها الطيبين.

تكاد تنبهر وأنت تقرأ هذا الكتاب بالجهد الكبير المبذول في كتابته فقد نقّب المؤلف وبحث ودقق في المراجع العتيقة العتيقة والجديدة الجديدة ليضع أمام أعيننا سفراً يصلح مرجعاً لأي باحث او أي محب للاطلاع على مصادر التشريع وعلى القوانين من أيام سومر (أربعة آلاف سنة قبل المسيح) الى قيام مدرسة حقوق بيروت معلمة العالم.

اعترف بتواضع أني لم أكن ادري ان تاريخ البشرية يبدأ في سومر (أي بين النهرين) قبل ان أطلع على هذا المؤلف الثمين الذي كان أحد مراجعه كتاب كرامر الذي عنوانه "التاريخ يبدأ في سومر"، (سوريا الطبيعية والعراق)، أضف الى ذلك عندما قلّبتُ الصفحات اللاحقة عرفت ايضاً ان تاريخ الشرائع نفسه يبدأ في سومر ليمرّ من بعد مدرسة بيروت التي سُمّيت مدينة القوانين وكانت هي المنهل الذي استقت منه روما وأثينا شرائعها بل كانت المدرسة التي تخرّج منها كبار المشرّعين ورجال القانون شرقاً وغرباً.

يكاد المرء بعد قراءة هذا الكتاب يتصور ان الحياة التي نحياها في القرن العشرين ليست ارقى من الحياة في القرن الخامس بعد الميلاد لولا وجود الرق واستعباد الإنسان للإنسان كأنما الإنسان سلعة من السلع! ولكن نسأل أنفسنا أيهما أفضل ان تسرق الإنسان ليعمل خادماً أم ان تقتله بالقنابل النووية او المفخخات او الصواريخ او القذائف!

من يريد ان يحوز وان يكتنز الادلة المعرفية على ان بلاده كانت من قديم الزمان توزع القوانين والحضارة في شمولها على العالم المعروف فليقرأ هذا الكتاب. إنه يغنيك عن مطولات التاريخ للتعرف الى عظمة بلادك عبر قوانينها وحضارتها.

واللبنانيون الذين يتقاتلون منذ خمس عشرة سنة سيسألون أنفسهم بعد أن يقرأوه: هل نستحق ان نكون مواريث سومر وأوغاريت او مواريث بيروت التي كانت منذ القديم القديم مدينة المدائن، ويتغنى بها الشعراء الأقدمون قبل نزار قباني ومحمود درويش وغادة السمّان!

أما اسلوب المحامي الراحل سليم حتي فالسهل الممتع، كلمته لينة العريكة، لطيفة محببة. تشعر وانت تقرأ انك أمام ينبوع ينساب على اعشاب خضراء من دون ضجيج ولا عجيج. ينساب كأنه نسمات الربيع او نبع الصفا او مياه وادي زحلة!

لتكن الجنة مثواك يا زميلنا العزيز سليم حتي، لأن كتابك بالفعل حديقة فيها نتعرف الى ماضينا فنبكي على حاضرنا، كما نجد فيه من كل فاكهة زوجين ونحن ندمر العمران والانسان.

ألا يحسد حاضرنا ماضينا ؟

هوامش

(1) صاحب دار نشر باسم "دار ومكتبة التراث الادبي". عن الدار صدر مؤلف الرفيق المحامي سيم متري.

(2) من الكتب الصادرة مؤخراً "انطون سعاده كما عرفته" لقائد منظمة الزوبعة الامين مصطفى سليمان.






 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024