شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2018-11-09
 

ما رآه أنطون سعادة ولم تره القيادات الحزبية والآخرون

جورج يونان - الاخبار

قبل أن نعالج بنود مشروع سعادة، لا بد من الاعتراف بأن مفهوم المخلص هو مفهومٌ قديم. وهو ليس مفهوماً روحانياً فحسب لا بل سبق الروحانية بقرونٍ عديدة ولا علاقة له بالواقع الاجتماعي. يروي المؤرخ السوري فراس السواح عن المفكر جيمس فريزر أنه قد مرَّ على الإنسان عهدٌ ظنَّ فيه بمقدوره التحكم بسير عمليات الطبيعة بواسطة تعاويذه وطقوسه السحرية. وعندما اكتشف، بعد فترة ليست بالقصيرة، قصور هذه الوسائل عن تحقيق غاياتها، اعتقد بأن الطبيعة التي تأبى الانصياع لطقوسه، واقعة تحت سلطان شخصياتٍ روحانية فائقة القدرة. فتحول إلى عبادة هذه الشخصيات واستعطافها واسترضائها بالأضاحي والقرابين، لتقف في صفه وتلبي له حاجاته. وبذلك ظهر الدين، وتحول الإنسان عن السحر، وحلَّ كاهنُ المعبدِ الذي يقودُ الصلوات محل ساحرِ القبيلة الذي يقودُ الطقوسَ السحرية (كتاب «الأسطورة والمعنى»، ص: 134).

هذا المفهوم لاءم الديكتاتوريات في الوطن السوري، ولاءم القيادات الحزبية خصوصاً قيادات «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، فأشاعته وكرَّسته في الذهن الشعبي وفي الصف القومي وذلك كلّه لتمتين سلطتها الديكتاتورية. وبدورها المراجع الدينية بأنواعها رأت نفسها في نفس الصفِّ، فدعمته آملةً لنفسها سبيلاً للتغلغل في الأمور الدنيوية، الأمورُ الدنيوية التي هي من اختصاص المجتمع المدني والدولة العلمانية.

إن عدداً كبيراً من قوميّي الرعيل الأول رأوا في سعادة مخلِّصاً وقد ترسَّخَ هذا المفهوم بعد استشهاده، وكرَّسَتْهُ القيادات المختلفة، ونمت كالفطرِ تحت ظِلِّهِ. وفي الأزمة الحالية، وفي الانشقاقات المختلفة التي حدثت ضمن مسيرة الحزب، القوميون ليس بينهم اثنان يختلفان على المشروع النهضوي الذي عرضه سعادة، ولكنهم، تجاه القيادة، ضائعون في البحث عن «مخلص». إلا أنَّ سعادة لم يدَّعِ النبوة والسحر، ولم يلعب دورَ المخلص، ولم يكن يخاطب جموعاً للمشعوذين. سعادة كان قائداً ذا رؤية، درس الأرضية، وجاء بالمشروع المتكامل لوضع هذه الأمة على طريق النهضة، مخاطباً مكامن القوة في المجتمع، داعياً إيّاها إلى االتسلح بالعقل والمعرفة، والتعبئة في حركةٍ سمّاها «الحزب السوري القومي الاجتماعي» لكي تساعده على تحقيق مشروعه.

بين المتوقع وغير المتوقع

للأستاذ نسيم نجيب طالب مؤلفاتٍ، بالإنكليزية، كثيرة. منها كتاب «البجعة السوداء» (The Blak Swan) الذي حاز شهرة واسعة في الأوساط الغربية خصوصاً الاقتصادية والمالية، من حيث توقعه الأزمة البنكية، والمالية والدولية التي حدثت منذ عشر سنوات. ومن هذه الكتب، أيضاً «ضد الهشاشة» (Anti fragile). كان العالم يظن بأن كل البجع أبيض ولم يكن يتوقَّعُ بجعاً أسود إلى أن اكتُشِفَتْ أُستراليا وظهرَ فيها البجعُ الأسود.

ومفهوم البجعة السوداء يتميَّزُ بثلاث صفاتٍ هي:

1- عدم توقع ظهور الحَدَث.

2- عدم التوقع بأن حدوثُهُ لهُ تأثير كبير في الوضع الراهن.

3- بعد حلولِ الحدث، نحاولُ أن نُلَفِّقَ تفسيراً يجعلُ حُدوثَهُ أكثرَ توقعاً وأقلَّ عشوائيةً. (غلاف «البجعةِ السوداء»).

ما يقولهُ نسيم طالب صحيحٌ عامة، وأعتقِدُ بأن تاريخ العالَمِ زاخرٌ بالأشياء غير المتوقعة التي تَحَكَّمَتْ في مساره وأعطت تكوينه الحالي. ولكن، من الأمثلة التي أعطاها طالب لهذه الظاهرة حرب السنوات الخمس عشرة سنة اللبنانية، مُصَوِّراً بأن لبنان قبل الحرب كان جميلاً، وكانت الحياة فيه في القمة، وكان يُسمّى «سويسرا الشرق». وكان الناسُ مغتبطين بهذه التسمية، لا بل كانوا يفتخرون بها، وما كانت الحربُ بتاً في توقعاتهم (رغم حوادث 1958). وفي هذا غالَطَ كثيراً. نسي أن النظام في لبنان طائفي على مدى عشرات العقود، وأن لبنان في حربٍ مع إسرائيل ولا يزال، وأنه ليس جزيرة معزولة عن محيطها: جغرافياً، وبيئياً، وتاريخياً، وثقافياً، وعَيْشِيّاً (بمعنى الحياتي). وبهذا المعنى، في رأيي، قالَ الشاعر محمود درويش: «الهوية ليست إرثاً بل تكوين. فهي تكوِّنُنا ونكوًّنُها باستمرار».

تُكوِّننا (بيئتنا ومجتمعنا)، ونكونها (في أدائنا وابتكاراتنا)، فالمكوِّنُ أرضٌ وانتماءٌ، وحياةٌ في صعودٍ، وثقافةٌ في الإبداعِ والتسامي. هذه الحقائق لم تَرِد في مناهج دراسة نسيم طالب في «كوليج دي فرانس»، وفي مناهج دراسته في الغرب، وهكذا قَرّرَ بأن الحرب اللبنانية لم تكن متوقعة. ففي مقالة في جريدة «الجريدة» في سان باولو، تحت عنوان: «السوريون والاستقلال» وذلك في 1/10/1921، قالَ سعادة: «من أعظمِ العقباتِ التي قامت في سبيل استقلال سوريا: التعصب الديني، ذلك الداء العضال الذي أحدث شللاً في أعضاء الأمة السورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبين ما ترمي إليه من النهوضِ إلى مصاف الأمم الحية» (الآثار الكاملة. الجزء الأول. ص: 11).

**لقد أمعنت القيادات في الأحزاب العلمانية في تجاهلها الضرورات المعيشية للجسم الحزبي**

وبرؤيته القيادية، اسْتَشَفَّ سعادة الويلات القادمة، ففي المقال نفسه ونفس المصدر كتَبَ يقول: «ولقد سبَّبَتْ التعصبات الدينية في سوريا معضلةً هي أشبهُ شيءٍ بالمعضلة البلقانية من المنازعات والانقسامات الوخيمة العواقب. والمعضلة السورية هي معضلات عدة، لا تلتئمُ مع مصلحة أمة تريدُ النهوضَ إلى مستوى الأمم الحية قط. والمعضلاتُ المشارُ إليها هي معضلة لبنان وجبل حوران (درعا والسويداء) وفلسطين وسوريا. وكلُّ هذه المعضلات منحصرة في معضلة واحدة، فإذا لم يبادر السوريون إلى حلها، قبل أن يتفاقم شرُّها، جَرَّتْ عليهم ويلات لا تُعدُّ ولا تُحصى. وإحدى هذه الويلات، الآخذة في الحلول في الأراضي السورية، كضيفِ ثقيلٍ يضطرُّ الساكنين إلى الرحيل، هي الصهيونية».

يومها لم يكن هناك إسرائيل. وخيرُ دليلٍ على ما استشفَّهُ سعادة هو هذا الطاعونُ الطائفي الذي جَلَبَ الويلات إلى «الإقليم» من إضاعة فلسطين، إلى الحرب في لبنان وفي الشام وفي العراق. وسعادة هو أوَّلُ من ساوى بين خطر النعرات الطائفية والخطر الصهيوني، ورأينا حديثاً كيف تضاجعا من أجل المزيدِ من سلالات الأفاعي التي اجتاحت الأخضرَ والأسمرَ من الأرض بِدْءاً بالأرض اللبنانيَّة ومروراً بالأرض العراقية، والفلسطينية، وانتهاءً بالأرضٍ الشاميَّة. لم ير نسيم طالب كلَّ هذه الحقائق لأنه لم يطّلعِ عليها، ولكن نسيم طالب يعترف بأن «ما لا نراه وما لا نفهمه لايعني بأنه غير موجود» (مقدمة «ضد الهشاشة»، ص: 9).

وفي كتابه «ضد الهشاشة»، يقولُ: «لدينا تصوُّرٌ بأن العالمَ يسيرُ بناءً على برنامجٍ مرسوم وحَسَبَ أبحاث الجامعات الأكاديمية، وبدعمٍ من مالية البيروقراط، ولكن هناك أدلة دامغة تُبين بأن هذا مُجَرَّدُ تصور» (المقدمة، ص:8)، ويحاول أن يحدد المعنى من «الهشاشة» ومن «ضد الهشاشة». فـ«الهش» (خائفاً من التحطُمْ) يَتَطَلَّبُ منك الهدوء» و«التركيز عليه»، بينما الأمر يتطلَّبُ مزيداً من «الاستشفاف والرؤية، وبناءِ حساباتك على احتمالات المستقبل» (ص: 20). وهذا يَتَطَلَّبُ صفةً خاصة هي الرؤية، ووحدهم القياديون يملِكونها، وهم «فِئة من الناس من الواجب علينا أن نُشجِّعهم ونحميهم ونحتَرِمَهُم».

و«الهشاشة ثقافة جديدة، تَبْني، تدريجياً وبشكل تصاعدي، العماءَ تجاه الغامض وغيرِ المتوقع، وهو ما سمَّاهُ نيتشه نموذج ديميسيوس في الحياة» (المقدمة، ص:10)، وديميسيوس هو الخادم الذي يتمتَّعُ بالرخاء وبالبحبوحة، والسيفُ مُعلّقٌ على رقبته، بشعرة من ذَنَبِ حصان، قد تنقطع في أي وقت. «والهشاشة... تُجبِرُك على التزام سياساتٍ وأفعالٍ كلها مصطنعة، منافِعُها صغيرة وواضحة ومضارها شديدة وغير ظاهرة» (المقدمة، ص: 10). و«الحقيقة أن الخطاب السياسي يفتقدُ مفهماً فكرياً. السياسيون، في خطاباتهم وفي أهدافهم وفي وعودهم تجاه الهدف يشددون على مفهوم المرونة والصلابة وغضِ النظر كموقفٍ ضد الهشاشة. وفي هذا المضمار هم يقضون على آلية الإنماء والتطور» (المقدمة، ص: 10). فما هو ضد الهشاشة ليس الصلابة والمرونة، وكلاهما يتحمل الصدمات ولكنهما لا يتحطمان ولا يتغيران بينما ضد الهشاشة موقفٌ رؤيٌّ ثاقب، يزدادُ صلابةً وإصراراً، يوماً بعد يوم، على وقع تتالي الصدمات (ص:31 والغلاف). «الأسوأُ القول: ما وصلنا إليهِ اليوم هو بفضل أولئك السياسيين الذين يخططون لنا سياسة العمل، بينما الأحرى هو بفضل الشهية إلى المخاطرة والرغبةِ في الابتكارِ والتعرض للأخطاء عند بعض فِئةٍ من الناس من الواجب علينا أن نُشجِّعهم ونحميهم ونحتَرِمَهُم» (المقدمة، ص:11). وسعادة كان من هذه الفئة، أصحاب الرؤية والقيادة. وأمّا السياسيون، ومن ضمنهم قياديو الحزب الذين تسلَّموا المهمة بعد اغتياله، فاختاروا طريق الهشاشة.

قلت في مقالة سابقة إن الخروج من الأزمات يتطلَّبُ المرور بثلاث مراحل:

1) دراسة الأرضية.

2) التوعية.

3) التعبئة.

ولهذه المراحل، ولكل واحدٍ منها، حاجةٌ إلى فكرِ قياديٍّ، يتحلى:

1) بالرؤيا.

2) بالابتكار.

3) بقدرة توظيف الابتكار في خدمة المجتمع.

4) بقدرة تعبوية لفريق عملٍ يلتزمُ تحقيق تلك الرؤية.

ولقد دَرَسَ سعادة أرضية هذا الوطن المترامي الأطراف متسائلاً ما الذي جَلَبَ على شعبي هذا الويل؟ واكتشف، كما سنرى، العلة، وقدَّمَ، من خلال آثاره الكاملة، التي توزعت على عشرات الآلاف من الصفحات، أفكاراً لتوعية المجتمع على حالة التفتت والتشرذم، السائدة آنذاك والتي لا تزال، وأنشأ مؤسسة لتعبئة المواطن، لمجابهة هذه الحالة المَرَضِيَّة التي فتحت شهية القوى المعادية، المحيطة بالبلاد، وزادت من شراهتها للانقضاض على البلاد، لإخضاعها وتفتيتها أكثر وأكثر. لقد عَرِفَ سعادة العلة وأشار إلى الدواء وذلك في المادة الأولى من الدستور: «غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي بعثَ نهضةٍ سورية قومية اجتماعية تكفلُ تحقيقَ مبادئه...،» والمبادئ بشقيها الأساسي والإصلاحي معروفة ولكن، لتحقيقها، وَضَعَ شرطاً أساسياً تَقَدَّمَ على كلِّ شيءٍ آخر هو بعث نهضة، فما الذي حدَثَ؟

الحديث عن نسيم طالب يأخذني إلى والدِهِ الدكتور نجيب طالب (رحمه الله) الذي كان أستاذي في أمراض الدم والسرطان، في المعهد الطبي الفرنسي (الطبية) في بيروت، خلال الستينيات من القرن الماضي. وقد امتاز نجيب طالب ليس في اختصاصه فحسب، ولكن كان جامعاً وشاملاً (Well Rounded) في تفكيره، وكان من الكورة، وفي الكورة تلك الأيام مجموعةٌ مُفَكِرة لا تعنيها الاصطفافات الطائفية ولم تكن منتمية إلى مُفرزاتها الحزبية، وكان عندها من ثقافة وإلمام يجعلها حساسةً لحاجات الناس في المنطقة، وفي إطار هذه الحاجات، وإن لم تكن ملتزمة مبادئ «الحزب القومي»، فإنها وَقَفَتْ على أرضية مشتركة معه في كثيرٍ من المفاهيم، ولم يستطع الحزب ضَمَّها إلى حركته، لا بل عاداها، عملاً بالقول من ليس معي فهو ضدّي، وقد كان بإمكان قيادات الحزب، اعتماداً على الأرضية المشتركة على الأقل، استمرار التواصل والحوار معها، لتثقيفها وتعريفها بالمحتمل وغير المحتمل من الأمور، وهذا غايةُ مشروع سعادة في النهضة.

لكن السياسة الشخصية كانت غالبة، وكانت قد أصبحت نهجاً «ثابتياً» (من نعمة ثابت) تبنته هذه القيادات. هذا الوضع لم يكن ينحصرُ في الكورة فقط، ولكنه وجد في المتن والشوف والبقاع والجنوب وغيرها من المناطق اللبنانية، كما وجد في دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من المدن الشامية. بل إن الحزب في الكورة عادى هذه النخبة في حملاتِه السياسية. والسياسة، هي التي طغت على الحزب بعد اغتيال الزعيم، ولم تكن في سبيل قضايا الناس المعيشية، وقضايا الأمة، إنما كانت لهاثاً نحو السلطة.

عصر بيروت الذهبي

أحبَّ القوميون عبد الله سعادة، فقد كان شهماً وذا جاذبيةٍ شخصيَّة (كاريزما) طاغية، وتضحياتٍ غير متوقعة، وكان إلمامه بمشروع سعادة عميقاً لا يتزعزع. ولكن في الحقيقة، وفي الوقت الذي كانت القيادة الحزبية حواليه تعِدُّ لانقلابه السياسي، تيمُّناً بكارثة مقتل عدنان المالكي المشأومة، كانت مجموعةٌ من النخبة السورية القومية الاجتماعية تبني صروح عصر بيروت الذهبي، وتبني انقلاباً ثورياً في الفكرِ والشعرِ والأدبِ والموسيقا والغناء والرسم والصحافة والمسرح. وأغلبهم لم تستوعبهم المؤسسات الحزبية التي تآمرت على القوميين بهذا الانقلاب وبحادثة المالكي لا بل في كثيرٍ من الأحيان لفظت هذه النخبة من القوميين.

تقول الناقدة خالدة السعيد (كانت من هذه النخبة) عن هذه الفترة: «عشرون سنة (1955-1975) من مغامرة الصدق وشجاعة قول الحق، ومعارضة كلُّ سُلْطَةٍ ظالمة، ومحالفة كلَّ ذي قضية، عشرون سنة هي العصرُ الذهبيُّ الخاطف لدولة الحلم، لدولة تحققت في لبنان بموازاة دولة السلطة السياسية والأجهزة الإدارية، معارضةً لها وكاشفةً لتناقضاتها المزمنة. دولة هي التي صنعت مجد لبنان الحديث، وفرضت هيبته، إنها دولةُ الثقافة وركنُها القوي، الصحافة». مغامرة الصدق الثقافية تلك كان لها الفضل الأكبر في تهديم أجهزة المخابرات والقمع، أكثر بكثير من مغامراتهم الانقلابية.

وتتابع خالدة: «تمسكٌ بحلم الدولة العادلة المبنية على المعرفة، وسخرٌ من الأساطير. رفضُ القوقعة «الديموقراطية» التي تفتقرُ إلى الحيوية والتجدد والعدل، وتنغلقُ على المعرفة».

عام 1942، وفي جريدة «الزوبعة» في الأرجنتين، نَشَرَ سعادة تباعاً سلسلة مقالاتٍ عن الوضع الفكري-الأدبي في الوطن، أصبحت كتاباً بعد ذلك قالَ فيهِ: «كان موضوعُ الأدبٍ، يلوحُ أمام ناظري، ويطُلُّ من وراء المشكلات الإدارية والنفسية والسياسية التي تعرضُ أمامي. ولم أكن أجهلُ علاقة الأدب بهذه المشكلات، وإمكانات تذليلها بإنشاءٍ أدبٍ جديدٍ حيٍّ. وكم كنتُ أتألَّمُ من تفاهة الأدب السائدٍ في سوريا، وأشعرُ أنَّ فوضى الأدبٍ وبلبلة الأدباء تحملان نصيباً غيرَ قليلٍ من مسؤولية التزعزع النفسي، والاضطراب الفكري، والتفسخ الروحي، المنتشرة في أمَّتي. وكان هذا التألُّمُ يُحفِّزُني لانتهاز كلَّ فرصةٍ عارضةٍ للفت نظرٍ الأدباء، الذين يحدث بيني وبينَهُمْ اتصالٌ، إلى فُقر الأدبِ السوري، وشقاء حالِهِ، وفداحة ضررِهِ، ولتوجيههِم نحو مطالب الحياة، وقضاياها الكبرى، وخططِ النفسِ السورية في سياقِ التاريخ».

وقد دَعا الكتاب إلى الخروج من التخبط والفوضى والبلبلة، وإلى نظرة جديدة إلى الإنسان والحياة والفن، تعبِّرُ عن الشخصية القومية وعقلية الأمة، مستمدةً من التراث القومي، مرتبطةً به، ومتفتحةً في الوقتٍ نفسه على التفاعلِ مع ثقافات الشعوبٍ الأخرى، تفاعلاً خلّاقاً. ومبنيةً على قاعدة أساسية هي الأصالة التي تتمثَّلُ من جهةٍ في طلَبٍ الحقيقة الأساسية الكبرى، لحياةٍ أجود، في عالمٍ أجمل، وقيمٍ أعلى، وتتمثَّلُ من جهةٍ ثانيةٍ في الارتباط بالأصول التي لا تُستَنفَذ في تراث الأمة.

حركة الحداثة في عصر بيروت الذهبي كانت قومية تستندُ، كما وصفها الشاعر أدونيس، إلى «نظرةٍ ثقافيةٍ تقرأُ التراثَ العربي قراءةً مغايرة: قراءة تضمُّ إليه الموروث الثقافي الذي تَقَدَّمَهُ: السومري والبابلي، والكنعاني». هكذا، تتخذ العروبة في هذه النظرة بعداً آخر: لم تعد (العروبةُ) عروبية العرق والجنس، وإنما أصبحت عروبية اللغة والثقافة بحيث تنصهِرُ في هذه العروبية اللغوية الثقافية، تلك الموروثات القديمة كلها (من سومر، وأكاد، وبابل، وآشور، وآرام، وكنعان، مروراً بالدولة السورية في عهد سلوقس). كانت هذه النظرة ترى، بتعبيرٍ آخر، «الموروث الشعري-الثقافي العربي، لا من حيث أنه كليةٌ منفصلة قائمة بذاتها، بل من حيثُ أنَّهُ استمرارٌ حيٌّ لتراثٍ حضاريٍّ يرقى إلى خمسة آلاف سنة. وعلى هذا، فإنَّ اللغة العربية لا تأخذُ فُرادَتَها وخصوصيتَها من استيعابها الهائل للتراث الجاهلي- الإسلامي وحسب وإنَّما تأخذها كذلك من غناها وسعتها، وقابليتِها المستمرة للتجدد والاتساع، أي من عبقرية احتضانها ذلك العالم القديم الذي سبقها، ومن أنَّها امتدادُه التاريخي، وتكامُله الخلاَّق». هذا ما قاله أدونيس. وقد قاد السوريون القوميون الاجتماعيون تيار الحداثة في مجالات شتى. وعن هذا التيار، يقولُ أدونيس: «كان يستمدُّ أصوله من كتابٍ لم يكتبهُ، ويا للمفارقة، ناقدٌ أدبيٌ، وإنما كتبهُ قائدٌ سياسيٌ-فكريٌّ هو أنطون سعادة».

التاريخ الطويل لقيادات الأحزاب العلمانية ومن ضمنها «الحزب القومي»، في الفشل وفي الأزمات المتعاقبة، يرجعُ سببه إلى مفهومها أن الحلول هي الحلولُ السريعة، وهي لا تأتي إلا باجتراح العجائب، ولاجتراح العجائب لا بد من المخلِّص والساحر والبطل الخارق لتحقيقها، ومن تعبئة الجماهير وراء هذا القائد الخارق، ومن الوصول إلى السلطة بأقصر طريق. وهاجس السلطة جعلها شرسة في شهواتها، فانبرت إلى المغامرات السياسية، متسلحة بـ«المنطق» العسكريتاري وممتطيةً جوادَ العسكر في غزواتها على السلطة. وهي بعملها لم تستغل العسكر فقط، لا بل أبعدتهم عن مهمتهم الوحيدة وهي حماية الوطن. أما العمل النهضوي في بناء المجتمع وتحصينه بالمؤسسات المدنية والاقتصادية والعسكرية، وبالمعرفة والثقافة، وببناء جيشٍ وطني هدف ضباطه وجنوده ابتكار كل الوسائل المتاحة لصيانة الوطن ومؤسساته، فتراجعَ هذا العمل وهُمِّشَ، لأنه طريقٌ طويل لا يلائم طموحاتها ومطامعها السياسية.

«الإقليم» وما أدراك ما «الإقليم»

خلال أكثر من ثمانين سنة مضت تَعَرَّضَ المواطنُ في المشرق العربي، ومن قِبَلِ حُكّامه، إلى عمليتين:

1) الإرهاب الفكري، الذي كان هدفُهُ تمجيدَ الحاكم وتعصيمه ضد كلَّ نقدٍ، مًشوِهاً عقول الأجيال الناشِئة، بتسَخيره المناهج المدرسية لتلميع قدسيته، ومستخدماً حاشيتهُ للسيطرة على وسائل الإعلامِ، وقمعِ كلَ رأيٍ وفكرٍ حرَّيْنِ مخالفين لسلطته المدعومة بالإرادة الإلهية.

وأمام هذا التعسُّفِ كَمْ تَعَطَّشَ الإنسان في بلادنا إلى الحُرية والديموقراطية ولا يزال، وما زالت الأنظمة التعسفية في العالم العربي، في شرقه وغربه، تستعملُ كل أساليب الإرهابِ ضد المواطن. يقولُ سعادة: «إن الدولة التي تمنعُ حرية إبداء الرأي والاجتماع وتأليف الأحزاب السياسية دولةٌ لا قيمة تمثيلية لمجالسها النيابية» (الأعمال الكاملة. جزء 3 .ص: 51). سألَهٌ صحافيٌ عام 1947 أيُّ شكلٍ دستوري ستأخذونه؟ فكان جوابُهُ: «جمهوريةٌ، برلمانية، ديموقراطية، وعلمانية قبل كل شيء» (الأعمال الكاملة، جزء 14، ص: 64).

2) تَعَرَّضَ المواطنُ العربي أيضاً لعملية غسلٍ للدماغٍ لا مثيل لها في مواجهة الأزمات والكوارث. وذلك بإطلاقِ شعاراتٍ برَّاقة ما كانت إلّا بالونات خاوية ما لَبِثَتْ أن تلاشتْ تحت سنابك الغزاة والمحتلين، وتحت توالي الهزائم والسقطات، وأدَّتْ إلى خيباتٍ وإحباطاتٍ. وقد أمعنوا في أضاليلهم، وحجبوا الحقيقة عن الناس بمكرِ الأفاعي وخداعها. ولم يكن عندهم الجرأة الكافية لتسمية الأشياء باسمها. ومثالٌ على ذلك هذا التركيب الإضافي الذي أطلقوا عليه اسم «الربيع العربي».

والتركيب الإضافي، في اللغة العربية جملة مؤلفةٌ من اسمٍ وخبر العلاقة بينهما تحددها قواعدُ اللغة العربية. أوَّلُ الكلمتين هو المضاف وثانيهما المضافُ إليه ولا فاصل بينهما لا بل إن المضاف إليه يحدد معنى المضاف، ولكنهُ لم يفعل، فكلمة الربيع مضافٌ لا صفة ولا معنى لها حتى بإضافة كلمة العربي إليها فقد سقطت منها كلمة الأخضر التي كان من الممكن أن تلي كلمة العربي، لأنَّ عهدنا بالربيع فصلٌ يجلبُ الخضرة، حتى أن السنة في قديم الزمان كانت تبدأ بالربيع حين تشعرُ التربة بالدفء وتلبس الطبيعة ثوب عشتار الأخضر.

وطفق إنسانُنا ينتظر «الربيع العربي»، وينتظر الخضرة لتعُمَّ الصحارى والفيافي لكن الخضرة لم تأتِ لا بل أُلحِقَتْ المدن العامرة بالصحارى والفيافي، وإزاء هذا الفيلم، تذكرتُ فيلماً قديماً للموسيقار السوري الراحل فريد الأطرش سمّاهُ «آخر كذبة»، وللمفارقة، ففي هذا الفيلم نفسه بعد جولته على «بساط الريح» فوق العالم العربي وَقَفَ فريد الأطرش فوق البلد الذي شيَّدته أميرة صور «أليسار» وغنّى: «تونس أيا خضرا».

والحاوي (راعي الأفاعي) لم يكن هدفه تونس، وإنما مُضاجعَةُ تنين لتتكاثر سلالات الأفاعي، الأفاعي التي أوعز إليها أن تبثَّ سمومها في «الإقليم». وما أدراك ما الإقليم؟ فرغم أنه يحملُ في أحشائِه مناخاً ثابتاً، ودورة فصولٍ تتوالى على مدى آلاف السنين، وبيئةً احتضنت الكثير من البشر، فهو مضافٌ لن يظهر معناهُ إلّا إذا اقترن بالمضاف إليه، وكعادة الأفاعي في المكر والخداع فلم تسمِّ الأشياء بأسمائها.

لكن سعادة كان قد دَرَسَ الأرضيَّة وسمَّى الأشياء بأسمائها، فالإقليم، وما أدراك ما الإقليم: سوريا الطبيعية: سوراقيا، الهلال الخصيب. كلها تحدَّثَ عنها سعادة. الوطنُ الذي لعب الحاوي لعبته فيه، منذ اكتساح جبالِ هكاري، وكيليكيا، وماردين، ودياربكر، وطور عابدين، وأورفة، وقلعة مراونة. ومنذ مائدة سايكس-بيكو مروراً بوعد «بلفور» وباحتلال فلسطين وبتسليم لواء الإسكندرون وبـهَزَعِ وهَزيع «الربيع» العربي وانتهاءً، منذ شهور، برقصة الحاوي في وَشنطن، حولَ «صفقة العصر» الخاصة بالقدس-أورِشْلِمْ، برغم اسمها الآرامي كمدينة السلام، ورغم نسبها الكنعاني ولسانها العربي الفصيح.

الاقتصادُ سببُ الاجتماع

الاقتصاد هو الذي حتَّم التجمُّعَ والمجتمع. والرابط هو الحاجات لا الدم. والتجمُّعُ يُحَتِّمُ الاتصال، ولهذا اختُرِعت اللغة في بلادنا منذ ستة آلاف سنة. واللغة دوَّنَتْ تاريخ البشرية. الزراعة، التي كُنّا سباقين إليها، حَتَّمَتْ المسكن. الزراعة والمسكن حتّماً وجود الأرض: «الأرضُ شرطٌ أوَّليٌ للحياة عموماً» (سعادة. الآثار الكاملة. جزء 3، صفحة 29). «لا بشر حيث لا أرض، ولا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة» (نشوء الأمم، ص:45). كُلُّ هذا آمن به سعادة.

لقد تجاهلت القيادات السياسية هذه الحقائق عن الضرورات الاقتصادية للاجتماع، والدور الحيوي للاقتصاد في الارتقاء والتقدم، وضرورة إيجاد لغة للتواصل مع القاعدة الحزبية لفهم حاجاتها الاقتصادية، ولم يكن هناك مسعى أو لغة لِتَبَلوُرِ هذه الضرورات، لا بل هذه القيادات أربكت الجسم الحزبي وضعضعته وأهلكته بطيشها ولهاثها نحو السلطة. لقد ظلت هذه القيادات تجترُّ الشعارات السياسية وهدفها الوحيد الوصول إلى السلطة، بأقصر وقت وطريق، وأي وسيلة، بدلاً من قيادة ورشة بناء المجتمع ببناء دولة الحركة السورية القومية الاجتماعية، وبفعلها ذلك، شرَّدت كثيراً من الطاقات التي كنّا بحاجة إليها، وغرَّبتها.

**تَعرَّض المواطن العربي لعملية غسل للدماغ لا مثيل لها في مواجهة الأزمات والكوارث**

لقد أمعنت القيادات في الأحزاب العلمانية، وبالأخص في «الحزب القومي الاجتماعي» في تجاهلها الضرورات المعيشية للجسم الحزبي. لقد كان عليها «وضع خطط ومشاريع مرحلية (ولِمَ لا ثابتة) تخاطب حاجات المجتمع ومتطلباته الملحة». فلم تحصِ الكفاءات المهنية الموجودة في الجسم الحزبي من أطباء ومهندسين وفنانين وصحافيين وقانونيين ومحاسبين ورجال فكر ومستثمرين ومن أصحاب حرفٍ شتى، ومن قدرات مالية محلية واغترابية لاستثمارها في مشاريع إنمائية توفر فرص العمل لكثير من الناس، حيث تكتنز التجربة، وتكبر وتتزايد الخبرات، ويغتني المجتمع ويتوقف نزيف الهجرة والاغتراب.

المدرحية

الحياة لا توجد إلا باجتماع المادة والروح (مدرحية)، فالمادة بلا الروح جامدة وبلا مفعول، والروح لا تتحولُّ إلى فعل إلا إذا اتحدت بالمادة. هذه الفكرة ترددت أيضاً في نصوصٍ سومرية من أكثر من خمسة آلاف سنةٍ سالفة، فإله السماء (الروح) كان (نمو) وإلهة الأرض (مادة) كانت (كي) والاثنان كانا ساكنين لا حراك لهما حتى التحما فظهرت الحياة في وليدهما، إله الطبيعة (أنليل). وفي أسطورة بابلية أخرى عن الخلق يَرِدُ هذا التعبير: «في تلك الأزمانٍ الأولى. لم يكن سوى المياه». ففي سورة هود عبارة: «وكان عرشُه على الماءِ»، وفي «سفر التكوين»، المنقولِ من التراث البابلي-الأُغاريتي، وَرَدَ ما يلي: «في البدء خلق الله السماوات والأرضَ وكانت الأرضُ خربةً وخاليةً وعلى وجه الغَمْرِ ظلمة وروح اللهِ يرُفُّ على وجهِ المياهِ». وتكرَّرّت هذه الحقيقة في نزول روح الله إلى جسدِ مريم واستمرارية الحياة بولادة جديدة. هناك نصٌ للملحمة البابلية «إينوما إيليش» اكتُشِفَ في خرائب مدينة سيبار، يَدعمُ ما جاءَ في سورة هود، يقول:

قَبْلَ أن يوجدُ للآلهة بيتٌ مقدس في مكانٍ مقدس

قبل أن يُخلقُ القَصَبُ، ويظهرُ للوجودِ الشَجَرُ

قبل أن يَصنعُ الآجُرُّ وتُبتَكرُ قوالبُهُ

لم يكن هناك مدينة ولا بشر

قبل أن تظهرَ نيبور وتُبنى ايكور

قبل أن تظهرَ أوروك ويُبنى إيانا

لم يكن للإبسو وجود، وأريدو لم تُبنَ بعد

ولم يكن قد بُنِيَ مسكنٌ للآلهة

في تلك الأزمان لم يكن سوى البحرُ

أراد جلجامش الخلود كفرد فاصطدم بحائط، وقد حاولت عشتار إفهامه بأن خلود الحياة هو خلودُ المجتمع وليس خلود الفرد، وهذا لا يتحققُ إلا بولادة أجيالٍ جديدة (إني أخاطب أجيالاً لم تولد بعد-سعادة). وطلبت عشتار منه أن يجامعها، لا من أجل بلوغ النشوة الجنسية، ولكن من أجل إخصابها فدور الإنسان في هذه الحياة هو مساندة الآلهة في تكرار فعل الخلق الأول وإنتاج زمنٍ جديدٍ وجيلٍ جديدٍ وعالمٍ جديدٍ، وهكذا تستمر الحياة ويخلُدُ الإنسانُ كنوعٍ وجمع لا كفرد. رفض جلجامش مجامعة عشتار وذهب في طريقه إلى غابة الأرز ناشداً الخلود فلعنته عشتار وأرسلت إليه كل الوحوش (ثور السماء، حارس الغابة، والأفعى)، وأخيراً مات جلجامش وحيداً كفرد، ولم يُساهم في فعل الخلقِ فكانت نهايته، وكان خلودُ الحياة بخلود الإخصاب والخلق.

الأسطورة، في رأي المؤرخين الكبار، ليست مجرد نتاج خيالي، وإنما هي تجربة نفسانية وتأسيس اجتماعي حقيقي مؤرخٌ ومرتبطٌ بالطبيعة ودورة الفصول والطقس والبيئة والبحث عن إِتيولوجيا (أسباب) هذه الظواهر كلها. «الرموز الأسطورية التي استخدمها الإنسان القديم ليست إلا وسيلة إيصال وقالب تعبير. إنها لغة متميزة، تحاولُ من خلال مفرداتها وتعابيرها ومصطلحاتها إيصال حقائق معينة، وهو منهج له من المشروعية ما لبقية المناهج التي ابتكرها فكر الإنسان لاحقاً، إذا أخذنا بعين الاعتبار، العملية التطورية البطيئة والصاعدة، التي سار بها عقل الإنسان منذ فجر التاريخ» (فراس السواح. مغامرة العقل الأولى. ص:34). وفي الزمن الحاضر أيضاً.

المزيج السلالي

ما ماهية الاجتماع أو المجتمع؟ المجتمع مُرَكَبٌ، بَشَريّاً، من مجموعة أفراد. إذن، الفرد هو أصغر وحدة حياة بشريَّة في المكون الاجتماعي. تماماً كما هي الخلية أصغرُ وحدةٍ حياة في النظام البيولوجي للكائن سواء كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً. ماذا يحدث من الخلية إلى الفرد؟ الإنسان يبدأُ بالخلية التي هي نتاج اتحاد النطفة الذكرية بالبيضة الأنثوية لتنتج خلية كاملة تتكاثر وتتمايز في خلايا لا تُحصى في تمايُزٍ وظيفيٍّ وبُنْيَويٍّ حتى يتكون الفرد.

والخلية الأولى تحمل في نواتها صفات الفرد المطبوعة على ما نسمّيه الصبغيات أو الكروموزوم، والفرد يحملُ صفات الأب والأم المبنية على قواعد مانديل في الوراثة.

وحسب هذه القواعد المندلية المثبتة علمياً، التي تمتدُّ عبر أجيالٍ وأجيال، ليس هناك عنصرٌ نقي إلا إذا توفَّرَ شرطان: الانعزال الجنسي، والانعزال الجغرافي. هذان الشرطان لم يتحققا إلا عند بعض القبائل، كالقبائل العربية التي سُمِّيَتْ بالعرب البائدة، وقبائل الأسكيمو وقبائل الهنود الحمر، وبعض القبائل الإفريقية التي هي جميعها في طريقها إلى الانقراض.

إذن، الانعزال الجنسي غير مقبول لأنه يؤدي إلى انقراض المجموعة، وعملية الزواج نتيجتها إنتاج موروثات أو جينات جديدة ومع الزمن وتوالي الأجيال هناك خط بياني صاعد للموروثات الجديدة وخط بياني هابط للموروثات القديمة وبينهما أجيالٌ مختلفة من الموروثات الجديدة والقديمة. (من مقالة طويلة للكاتب: «الأسس العلمية لتكوين المجتمعات الإنسانية»).

اليوم، نقفُ ونقولُ: ما حدث بعد اغتيال سعادة في الماضي، الذي أدّى إلى هجرة النخبة المنتجة في الفكر والفن بكلِّ مجالاته وفي المهن بتعددها، وما يحدث في «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، بفروعه الثلاثة، ليس أزمة وإنما ارتياب إيجابي للنخبة الحزبية من أداء المؤسسات الحزبية، وهو ارتياب، إن أدّى إلى الإحباط سابقاً وإلى الهجرة من المؤسسة الحزبية، فإنه الآن لن يأخذ منهجاً تفتيتياً للحزب، لا بل فيه مفعولٌ إيجابي يفضح المسيرة الانحدارية الموصومة بنتائجها الكارثية، ويتصدى لها محاولاً تقويمها وإعادتها إلى مسارها النهضوي، المعتمد على الحركة والتجديد وعلى بناء المؤسسات المدنية وعلى مخاطبة القوى الكامنة في المجتمع لتعبئتها في مسيرة الإنتاج والثروة، وفي هذا المسعى، «كل رفيقٍ فعلتْ فيه العقيدة، هو خامة قيادية كامنة، هو هذه الحقيقة الناصعة» (أحمد أصفهاني)، والزمنُ آتٍ لإثبات هذه الحقيقة وبـ«النهضة، والنهضة، والنهضة» (أسعد أبو خليل).


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه