شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-07-02
 

70 سنة على الغياب: الحزب... من دون سعاده

أحمد أصفهاني

في تموز الحالي، تمرّ على الحزب السوري القومي الاجتماعي الذكرى السبعون منذ الغياب الجسدي لمؤسسه وزعيمه سعاده. سبعون سنة مليئة بالتجارب والخبرات على أنواعها، الإيجابي منها والسلبي. وهي سنوات تستدعي الدرس الدقيق ليس فقط لاستيعاب العبر، بل أيضاً لكي يظل الحزب خزّان النهضة القومية الاجتماعية، ولكي يبقى القوميون الاجتماعيون القدوة في بناء الإنسان السوري الجديد.

من الصعب تعداد الحوادث الأساسية في تاريخ الحزب بعد الثامن من تموز سنة 1949. لكن بالإمكان، من وجهة نظرنا، تحديد السياسات الداخلية والخارجية التي شكلت معالم مفصلية في مصير الحزب، وبالتالي مصير الأمة، خلال العقود السبعة الماضية. إنها السياسات التي رسمت ملامح انبثاق السلطة الحزبية من جهة، وطبعت سمات التحالف أو التناقض مع القوى الحزبية الأخرى في سوريا والعالم العربي.

الحدث الأول والأهم على صعيد البنية التنظيمية للحزب هو الآليات الدستورية التي اعتمدها الأمناء لاختيار قيادة جديدة تلم شمل القوميين بعد كارثة استشهاد الزعيم. كانت الظروف الصعبة تتطلب حراكاً عاجلاً واستثنائياً بهدف استيعاب وقع الصدمة القاسية لغياب الزعيم، في وقت كان القوميون الاجتماعيون يتعرضون لحملة تنكيل منهجية في الكيانين اللبناني والشامي. وقد حكمت هذه الآليات، التي واجهت بعض الاعتراضات آنذاك، طريقة انبثاق السلطة حتى فترة السبعينات. كما ترعرت في داخلها نزعات الصراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. وكان جورج عبد المسيح الشخصية الحزبية الأبرز في تلك المرحلة.

الحدث الثاني، وهو مرتبط بما سبق، تمثل في "التمرد غير المباشر" الذي واجه المجلس الأعلى عندما انتخب عصام المحايري رئيساً سنة 1954. وأسفر الصراع الداخلي عن استقالة المحايري وإعادة انتخاب عبد المسيح. فكان ذلك الحدث مؤشراً خطيراً إلى قدرة بعضهم على السير في نهج "التمرد" و"العنف" للسيطرة على مقاليد السلطة. وهو نهج حاول أن يتلبس غطاء دستورياً شكلياً وإن كان مناقضاً لروح الدستور.

الحدث الثالث مرتبط أيضاً بقيادة عبد المسيح. وكي لا نعود إلى الجدل البيزنطي حول المسؤولية المباشرة لعملية اغتيال عدنان المالكي، نكتفي بالقول إن الحزب تلقى ضربة كارثية كادت تكون قاتلة، وأنهت الانتشار الشعبي الكبير الذي كانت العقيدة القومية الاجتماعية قد حققته على نطاق واسع.

يرتبط الحدث الرابع بتداعيات عملية المالكي وما أسفرت عنه من خلافات داخل الحزب، أدت في نهاية المطاف إلى الانشقاق الكبير سنة 1957 الذي عُرف بـ"الانتفاضة" بقيادة عبد المسيح وعدد من الأمناء التاريخيين.

يختلف الحدث الخامس عمّا سبقه بأنه ذو أبعاد سياسية قومية ودولية. إن الموقف الملتبس الذي اتخذه رئيس الحزب أسد الأشقر تجاه "مشروع أيزنهاور" سنة 1957، ثم التحالف غير المباشر مع رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون، وأخيراً خوض الحرب الأهلية سنة 1958 إلى جانب قوى السلطة... كل ذلك أدخل الحزب في دائرة الشبهات. لا شك في أن قيادة الحزب كانت مضطرة جزئياً إلى انتهاج تلك السياسة، لكن هذا لا يمنعنا من التأكيد على أن الثمن كان باهظاً على القوميين أنفسهم وعلى سمعة الحزب ومصداقيته.

الحدث السادس يتعلق بما ذكرناه في الفقرة السابقة. لقد ورث الدكتور عبدالله سعادة حزباً قوياً في بنيته، ومأزوماً في سياساته وتحالفاته. إذ أن رئيس الجمهورية فؤاد الشهاب وصل إلى السلطة التي كان يطمح إليها بموجب صفقة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وكان من الطبيعي أن يدفع الحزب السوري القومي الاجتماعي ضريبة مناكفته للسياسات الناصرية في الكيانين اللبناني والشامي. فكان إنقلاب 1961 ـ 1962 تعبيراً عن الرفض لممارسات السلطة اللبنانية تجاه القوميين الاجتماعيين... لكنه تعبير مشبّع بالإحباط من جهة، ويتجاهل موازين القوى القومية والعالمية من جهة أخرى.

الحدث السابع مرتبط بتداعيات فشل الانقلاب، إذ بدلاً من عملية نقد ذاتي موضوعية وشفافة تتناول كل تاريخ الحزب ما بعد سعاده، وتضع تحت المجهر ممارسات القيادات التاريخية للحزب حتى ذلك الوقت... عمدت هذه القيادات نفسها إلى عقد مؤتمرات وإقرار توصيات للتلاعب بدستور الحزب تعديلاً وتغييراً بحيث أفقدته ميزاته الأساسية. إضافة إلى تبني أفكار عقائدية وسياسية لا تنسجم إطلاقاً مع جوهر العقيدة القومية الاجتماعية. وأدى الاستقطاب الداخلي إلى نشوء "التنظيم السري"، الذي واجهته "حركة المنفذين العامين"، ثم تحرك وسيم زين الدين (أبو واجب)، وصولاً إلى الانشقاق الفعلي سنة 1975. ومع أن الحزب عاد إلى التوحد سنة 1978، إلا أنها كانت وحدة فوقية وشكلية لم تعالج قط جذور التناقضات الداخلية والاستقطابات الخارجية.

نصل الآن إلى الحدث الثامن والأخير (1984 ـ 1987) الذي يطغى على بنية الحزب وممارساته حتى اليوم. امتد الحدث بحد ذاته على مدى ثلاث سنوات: المؤتمر القومي العام سنة 1984 الذي فضح الاستقطاب الداخلي الحاد وصراع القوى الخارجية على النفوذ داخل الحزب، وجريمة قتل عميد الدفاع في الحزب محمد سليم سنة 1985، وأخيراً إعلان رئيس الحزب عصام المحايري حالة الطوارئ الحكمية سنة 1987 ما أدى إلى انشقاق الحزب مجدداً.

أهمية هذا الحدث تكمن في أنه يتضمن كل عناصر الأحداث التي استعرضناها أعلاه: التمرد، والانشقاق، والاستعانة بالخارج، والتعديلات الدستورية حسب الطلب، إلخ... أما خطورته فتظهر في ثلاثة أمور: العنف الدموي بين رفقاء الصف الواحد، استخدام النفوذ الخارجي لترجيح الكفة الداخلية لهذا الطرف أو ذاك، وأخيراً الانخراط في اللعبة البرلمانية الحكومية في لبنان والشام مع كل ما رافقها من شبهات الفساد والإفساد.

كان عصام المحايري واجهة تلك المرحلة، لكن القوة الفاعلة من وراء الستار كان أسعد حردان الذي عاد وبرز إلى الصدارة في السنوات اللاحقة عميداً للدفاع ثم رئيساً للحزب، وبين هذا وذاك نائباً في مجلس النواب اللبناني ووزيراً في حكومات لبنان ما بعد الطائف. ومع أن الحزب عرف رؤساء آخرين خلال العقود الثلاثة الماضية، غير أن موازين القوة الداخلية (العسكر والمال) كانت دائماً بيد حردان.

هذه هي الأحداث التي نعتقد بأنها حددت مسار الحزب ومصيره منذ استشهاد سعاده، وأوصلت القوميين الاجتماعيين إلى ما هم عليه حالياً من تشرذم. وهنا نطرح السؤال التالي: ما العوامل التي جعلت جورج عبد المسيح وأسد الأشقر وعبدالله سعادة وعصام المحايري وأسعد حردان يتصرفون بالشكل الذي تصرفوا به مقارنة برؤساء آخرين من أمثال مصطفى أرشيد وعبدالله محسن وإلياس جرجي ويوسف الأشقر وإنعام رعد ومسعد حجل وعلي قانصو وجبران عريجي وحنا الناشف؟

هل يكمن الخلل في بنية الحزب الدستورية والتنظيمية، أم في القيادات ذات النزعات السلطوية، أم في أعضاء الحزب أنفسهم الذين غالباً ما يقبلون الواقع الداخلي بعامل النظام فقط، كما أكد سعاده سنة 1947 بعد عودته إلى الوطن ومحاسبته القيادات الحزبية المنحرفة عقائدياً وسياسياً ومناقبياً؟

أعترف بأن الجواب يحتاج إلى تمعن أكثر من هذه العجالة. وقد تبيّن لي من خلال طرح هذا السؤال على عشرات الرفقاء، وبينهم مسؤولون مركزيون حاليون وسابقون، أنه لا يوجد إجماع على أي واحد من هذه العوامل. والشيء الذي اتفق عليه الجميع هو أن العقيدة بريئة من الخلل الذي أصاب الممارسة الحزبية، وأن البحث يجب أن يتركز حول القيادات الحزبية تحديداً من دون أن نغفل إشكالات البنية الدستورية ودور الصف الحزبي.

على مدى العقود السبعة الماضية، أظهرت الغالبية العظمى من القوميين الاجتماعيين وعياً مرتفعاً وممارسات راقية تليق بالإنسان السوري الجديد. ولم يبخل القوميون بالعطاء في أصعب الأوقات وأحرج الظروف. لكن دائماً كانت هناك أقلية تمكنت من التسلل إلى مواقع القرار بالحزب في غفلة من الزمن حتى في أيام سعاده، ساعية إلى جعل تضحيات القوميين سلماً لتحقيق مآربها الفردية المشبوهة. والظاهرة الملفتة في هذا المجال أن المدخل إلى سوء استخدام السلطة كان يبدأ بشكل عام من "تطويع" القوانين الدستورية تعديلاً وتغييراً وإلغاء حسب متطلبات المطامع الذاتية.

هذا الواقع يقودنا إلى طرح مسألة الضوابط القانونية الدستورية القادرة على منع طغيان القرارات الشخصية على المصلحة الحزبية، مع كل ما قد يجره ذلك من كوارث على الأمة وعلى الحزب من حيث هو دولة الأمة السورية المصغرة. فالقوانين الدستورية تشكل مجموعة القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية، والتي يُجبر الأفراد على احترامها بواسطة السلطة العامة التي يتوجب عليها حكماً الاحترام المطلق لتلك القوانين وضمان تطبيقها بحذافيرها. لقد قرأت في أحد كتب القانون العبارة التالية: "متى استهانت أمة بقانونها (دستورها)... سقطت"!

وسيكون هذا موضوع مقالات لاحقة.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه