شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-11-16
 

الاقتصاد «المدرحي» في فكر أنطون سعاده

ذو الفقار قبيسي

في مذكرات الاقتصادي الراحل يوسف صايغ انه بعد سؤال الزعيم أنطون سعاده له عن علماء الاقتصاد الذين يتلقى دروساً عنهم في الجامعة الأميركية، أشار عليه سعاده أن يركز على ثلاثة: MAX WEBER WERNER SPMBART وRICHARD TAWNEY، ما دفعني إلى استكمال ما سبق أن قرأت عن هؤلاء الاقتصاديين كي أتعرّف إلى المزيد عن القاسم المشترك بينهم، فكانت النتيجة «ثمرة مدرحية» في مجال الخصوصية الاقتصادية المادية والخصوصية النفسية الروحية وترابط الاثنين معاً بما يلقي ضوءاً جديداً على «الفكر المدرحي» الذي لم يتح لسعاده أن يتناوله بالتفصيل والجزئيات، بسبب الظروف السياسية والأمنية التي رافقت نضاله الفكري واستشهاده في عمر وجيز لم يتعدّ الـ٤٥ عاماً!

وقد كان WEBER خصوصاً رائداً بين الاقتصاديين الثلاثة في شرح العلاقة بين الدين والتطوّر الاقتصادي، لا سيما في كتابه The Protestant ethic and the spirit of capitalism حيث رأى في البروتستانتية العامل الأساسي في نشأة الرأسمالية وانّ روح الرأسمالية هي نفسها روح البروتستانتية بما تتضمّنه من سلوك وأخلاقيات عملية وتقديس للعمل، وانّ أداء العمل بأمانة وحماس هو «واجب أخلاقي ديني»، ورأى أنه حيث تسود البروتستانتية في دول مثل هولندا وانكلترا والولايات المتحدة هناك تطوّر اقتصادي أكبر مما هو في الدول الكاثوليكية أو غير البروتستانتية. فيما في المقابل يرى الاقتصادي الثاني SOMBART لا سيما في كتابه The Jews and modern capitalism علاقة وثيقة بين اليهودية في الغرب وظهور الرأسمالية، حيث المجموعات اليهودية رغم انّ «العهد القديم» في الكتاب المقدس حرم عليها الإقراض بالربا، لكنه شجعها على الربا في اقراض اليهودي لغير اليهودي! ففي الاصحاح ١٥ من العهد القديم: «في كلّ سبع سنين كلّ صاحب دين منكم يعفي أخاه من بني قومه مما أقرضه. لا يطالبه لأنّ الرب قال بإعفائه. أما الغريب فتطالبه ويبارككم الرب إلهكم فيقترض منكم أمم كثيرون وأنتم لا تقترضون، وتتسلطون على أمم كثيرين وهم عليكم لا يتسلطون»!! ومثل هذا النص الديني لا يشكل فقط جذور التسلط الذي يمارسه في العصر الحديث في الرأسمال اليهودي العالمي أو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الدول النامية بما أدّى إلى انهيار اقتصاديات العديد منها، وانما هو أيضاً عكس تعاليم «العهد الجديد» الذي دمجته حركة الإصلاح الديني البروتستانتية اقتصادياً بالعهد القديم في «كتاب مقدس واحد» ترجمه لوثر الى العامية الالمانية وبرغم التناقض الواضح بين «العهدين». فمقابل الإقراض الإذلالي التسلطي في «العهد القديم» للشعوب غير اليهودية، قول السيد المسيح في «العهد الجديد» انجيل لوقا – الاصحاح ٦ «ان أقرضتم من ترجون أن تستردّون منهم قرضكم فأيّ فضل لكم؟ لأنّ الخاطئين أنفسهم يقرضون الخاطئين ليستردّوا قرضهم». وهو نص تجاوزته بالقروض المعسّرة وغير الميسّرة الرأسمالية الحديثة التي يرى الاقتصادي الثالث TOWNEY في كتابهReligion and the rise of capitalism جذور تطوّرها في الحالة الدينية التي انتقلت بها أوروبا من الكنيسة القروسطية إلى الحركات الاصلاحية اللوثرية والكالفينية والانغليكانية.

وهكذا فإنّ القاسم المشترك الذي لاحظه سعاده بين الاقتصاديين الثلاثة، هو علاقة الدين بالتطوّر الاقتصادي الذي رآه سعاده في «النفسية الثقافية والحضارية للأمة» التي تجلت في أمتنا في «آلهة الخصب والزراعة» من «معط» إله ثمار الطبيعة، و»علين» إله الغيث والريح، و»بعل» إله البرق والسماء في اقتصاد يقوم في فكر سعاده الاقتصادي على إنتاج يكفي الأمة غذاءها ومؤونتها، بفكر وغلال وحرف وفن وصناعة يسمّيها سعاده «أوردة الحياة وشرايين القوة في جسد الأمة الحي» وهو ما تنبّه له جبران خليل جبران الذي يصفه سعاده بأنه «الشفق الذي يسبق الأنوار الساطعة، أنوار النهضة» القائل في إحدى مقالاته عن الويلات الناتجة عن إهمال اقتصاد الإنتاج كما في حال لبنان اليوم في اقتصاده القائم على الريع والمضاربات والاستيراد والخدمات «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تلبس وتشرب مما لا تعصر». في اقتصاد هو في نظرة سعاده «مدرحي» بامتياز. قائلاً: «انّ أساسنا القومي يجب أن يكون في وحدتنا الروحية قبل كلّ شيء، وهي تشمل كلّ فكرة وكلّ نظرة.. وانّ النظام الأقوى هو النظام المنبثق من قوة روحية منتصرة تحمل نظرة سامية الى الوجود». وانّ «الارتقاء الإنساني هو أساس مادي ـ روحي، وانّ الإنسانية المتفوّقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه». ولعله في هذا السياق الروحي من ضمن تطوّر التراث القومي للأمة، يمكن فهم إشارة سعاده في كتابه «نشوء الأمم» إلى وجهة نظر «الف م. ايوانوف» التي تعتبر القوة الروحية أو «الدين» في عبارة ايوانوف من العناصر الأساسية لوحدة الأمة. عبّر عنها سعاده في قوله: «لقد جمعنا الإسلام وأيّـد كوننا أمة واحدة»، المرجع: المجلد السابع اضافة إلى إشارته في الكتاب نفسه لنظرة «ارنست رينان» التي تشدّد على «البعد الروحي للأمة» وإلى نظرة «شبنغلر» بأنّ «الأمم ليست وحدات لغوية ولا بيولوجية بل وحدات روحية» وذلك رغم اختلاف بين نظرة سعاده للدين وهذه النظرة، إلا انّ العامل الديني من حيث هو أساسي في التراث الثقافي والحضاري للأمة يبقى في نظرة سعاده ذا أهمية بالغة في حياة الأمة وفي اقتصادها ونتاجها وثرواتها. فهو برغم ما يسمّيه «البطء في سرعة تطوّر الدين» يبقى الدين في نظره كما يقول: «ظاهرة نفسية عظيمة الخطورة من ظاهر المجتمع البشري»، وانّ الدين إذا مثل وحدة العقيدة في شعب «كان من العوامل على تقوية التجانس الداخلي الروحي فيه». وفي هذا الإطار تتميّز نظرة سعاده «المادية – الروحية المدرحية » في اقتصاد قومي يعبّر عنه في قوله: «انّ أمتنا مجتمع له نفسية مستمدّة من تركيبته ومن مصالحه ومن تراثه وتاريخه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وانّ تاريخ الدول السورية القديمة يدلّ كله على اتجاه واحد هو الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال الخصيب»، وانّ النهضة «تستمدّ روحها من مواهب الأمة وتاريخها السياسي الثقافي القومي» وانّ «التراخي الفردي وفقدان الوجدان المجموعي المتين يتناقض مع وحدة الأمة وإرادتها الواحدة واتحادها الواحد». قائلاً: «نحن لنا نظرة خاصة في الدين ليس من حيث هو سياسي ومن حيث هو مؤسّسات، ليس فقط في هذه الناحية بل في الدين أيضاً من حيث هو اتجاه ديني في نظرة إلى الحياة والفن والكون. ونحن في هذا المعنى كما يقول «لنا نظرة دينية يجب أن نفهمها». وانّ كلّ أمة تريد أن تحيا حياة حرة مستقلة تبلغ قيمها العليا يجب أن تكون ذات «وحدة روحية متينة». وبعد ثلاثة أرباع القرن من قول سعاده وبعد ثلاثة أرباع القرن من الإلحاد الماركسي قال الرئيس الروسي يلتسين عند انهيار الاتحاد السوفياتي انه يريد «بعث التراث الروحي للأمة الروسية» إضافة الى ما ورد في الدستور الروسي من نصوص تعاقب أيّ من يسيء إلى هذا التراث.

وفي مجال العلاقة نفسها بين القوة الروحية والقوة المادية في مجال الاقتصاد، لا بدّ من العودة إلى التعريف الأساسي الذي يعطيه سعاده لفكرة الأمة: «جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح موحدة المصير موحدة العوامل النفسية المادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه في مجرى التطور خصائص ومزايا تميّزها عن غيرها» وانّ عناصر المدرحية هي الأرض والبيئة الأسس البيولوجية للجماعة، والعناصر الروحية هي القيم الأخلاقية والدينية، ومن العناصر المادية والروحية تتكيّف العناصر «المدرحية» في البنى الاقتصادية والمؤسسات السياسية والنظرة إلى الكون والحياة، وهو ما وصفه المفكر الراحل الدكتور كمال الحاج بأنّ «مدرحية سعاده هي سقف عال هو الجوهر أو السماء وقاعدة راسخة هي الأرض». وفي نظرة سعاده انّ الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان أو الأساس المادي الذي يقيم الإنسان عليه عمرانه في وحدة اقتصادية قومية تعرقلها الاحتكارات الرأسمالية «في حالة اقتصادية تضع مساحات شاسعة من الأرض في يد أفراد يتصرّفون بها وفق نظرة فردية بحت بصرف النظر عن أيّ فكرة اجتماعية» داعياً إلى «وضع حدّ لهذا التصرف الفردي المطلق في العمل والإنتاج» الذي هو «حق عام وفي الرأسمال الحاصل عن الإنتاج.. وان ضمان استمرار الإنتاج وزيادته هو ملك قومي عام، وانّ الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للإنتاج» الذي هو العنصر الأساسي في نظرة سعاده الاقتصادية، بديلاً عن اقتصاد لبنان التقليدي المعرّض باستمرار للارتجاج والهشاشة والقائم على فكرة العائد الريعي مقترناً بالمساعدات الأجنبية والقروض والهبات «الأخوية» العربية، فاذا جفّ هذا المال «المستورد» أو الدولار المهجري و»الأخوي» تعرّض الاقتصاد للاهتزاز واضطرت الدولة والمؤسسات الوطنية إلى الاقتراض وبفوائد عالية كما هو حاصل في لبنان اليوم، بديلاً عن فكرة انّ الشغل والجهد والإنتاج هي العناصر الأساسية في خلق المال والمزيد من الاستثمار وتعزيز التنمية وتوفير فرص العمل. ومعروف عن الرئيس الأميركي الراحل ابراهام لنكولن قوله: «انني لا أفهم شيئاً في الاقتصاد سوى انني عندما ألبس قميصاً من انكلترا، ألبس القميص وتذهب الدولارات إلى انكلترا، واذا لبست قميصاً من أميركا، ألبس القميص وتبقى الدولارات في أميركا»، فاقتصاد البلد وعملة البلد مرتبطان معاً بشكل عضوي جعل الاقتصادي الشهير هاليمار شاخت منقذ المارك المتدهور في المانيا عشرينيات القرن الماضي، يقول: «انّ فكرة النقد مرتبطة بفكرة الأمة والوطن». مثلما انّ للينين قوله الشهير: «اذا أردت أن تخرّب بلداً خرّب عملته الوطنية».

وفي هذا السياق الوطني والقومي تقوم نظرة سعاده على انّ الاقتصاد أكثر من مجرد اقتصاد فرعي أو كياني ضيّق وجزئي يبقى حتى ولو في ذروة نجاحه أسير الإيرادات الأجنبية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وقروض ومساعدات وهبات الدول الكبرى والدول «الشقيقة» و»غير الشقيقة» في حين تتميّز نظرة سعاده الاقتصادية بالترابط التاريخي بين اقتصاد الأمة وبيئتها ونفسيتها حيث الإنسان يرث من وطنه «مزاج الطبيعة» وحصيلة تطوّر نفسية أمته التي في حال أمتنا عبر التاريخ «آلهة خصب» زراعي إنتاجي في «اقتصاد مدرحي» يجمع فيه التاريخ الروحي والنفسي والتاريخ المادي للأمة، لا يقوم في نظرة سعاده على تأميم وسائل الإنتاج أو الاستيلاء عليها لصالح طبقة العمال أو البروليتاريا كما في النظرية الماركسية، ولا إلى تدخل محدود وموسمي أو ظرفي كما في النظرة «الكينزية» ولا على ترك الاقتصاد يصحح ذاته بذاته عبر «يد الله الخفية» كما في تعبير «آدم سميث» أو على اقتصاد حرّ يتوازى فيه العرض والطلب كما في قانون «ساي» أو «هايك» أو «فريدمان»، وإنما على أساس انّ الأفراد هم القيّمون على الأرض وثرواتها باسم الأمة وليس لهم أن يتصرّفوا في ما يعرقل تقدّمها وخلاصها. وفي هذا السياق يقول سعاده «نحن لا نرمي إلى إبادة الملكية الشخصية ولا إلى أخذ الرأسمال من أيدي الأفراد ونزع حق التصرف من أيديهم، ولكن أن لا يكون الرأسمالي الفردي حراً في أن يفعل ما تريده مصلحته الفردية بغضّ النظر عن مصالح المشتركين معه في الإنتاج. فالرأسمالي خارج الإطار الوطني أشدّ الناس ابتعاداً عن أيّ قضية قومية وطنية، وتخطيطه فردي محض ولمصلحة فردية، وهو لا يحجم عن التحالف مع أيّ رأسمال أجنبي ضدّ مصلحة المجموع الذي هو من أفراده، ينتزع سلاح المنتجين من أيديهم ليردّه ضدّهم ويجمع الخيرات التي ينتجونها ليحتكرها»، وانّ الاقطاعات تغرق في التصرّف بالثروة القومية إلى حدّ يوقعها في عجز مالي ينتهي بتحويل الأرض إلى المصارف الأجنبية والرأسمال الأجنبي «البلوتوكراتية» الأجنبية. وهذه الإقطاعات كثيراً ما يكون عليها مئات وألوف من الفلاحين يعيشون حياة مزرية في حالة يرثى لها.

وحول العلاقة بين الرأسمالية والقومية يرى سعاده أنهما طريقان متناقضان، الأولى تؤدّي إلى عدم المساواة وإلى البؤس الاقتصادي والثانية إلى إزالتهما من الحياة القومية، وانّ الاقتصاد السليم ليس مساواة في توزيع الفقر بل توزيع الغنى، وانّ صلاح المجتمع لا يعني الدروشة والتقشف على طريقة الزهد الاقتصادي، وانّ الاقتصاد القومي يعني الازدهار عبر توفير إمكانات التقدّم والنجاح، وانّ الحرب بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ليس حلاً لمشكلة الاجتماع الإنساني الاقتصادي. وأما الحلّ في نظرة سعاده فهو في تصنيف إنتاج المنتجين بحيث يمكن ضبط التعاون بين الاشتراك والعمل، وانه يتوجب تأمين الحق في العمل والحق في نصيبه وضبط السوق الداخلية ومنع الأرباح الفاحشة وضبط معدل الأرباح المعقول والعمل لصيانة العمل من أجحاف استبداد الرأسمال واقامة العدل الاجتماعي والقضاء على الجور والاستعباد بين الطبقات ومكافحة استغلال الأجانب لموارد الأمة ووضع مواردها تحت سيادتها.

وعن الهجرة أو المهاجرة يقول سعاده انّ خسارتنا منها كانت أكبر من ربحنا وقد كلفت الأمة خراباً كثيراً في عمرانها وجفافاً كثيراً في زرعها واضمحلال قسم كبير من نتاجها ومداواة سوء نتائج المهاجرة تقتضي الإقلاع عنها، فأرض الوطن تحتاج إلى منتجيها والأمة تحتاج إلى أبنائها، وانّ متخرّجي الجامعات في بلادنا لم يستخدموا العلوم لترقية قدراتهم على صلاح وطنهم وانّ قوة المهاجرين المادية والمعنوية تستطيع ان تفعل في سبيل الوطن والأمة ما يأتي بنتائح عظيمة.

وأخيراً فإنّ «مدرحية» سعاده الاقتصادية تنطلق أساساً من نظرته إلى دولة قومية تقوم على الإنتاج وعلى توزيع الثروة على أساس الإنتاج في أمة حية دعاها سعاده الى الاعتماد على الذات والخروج من دائرة الخمول في مختلف شؤون الحياة القومية، بما استعدته قبل سنوات من عبارة قالها لي الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ، يوم كنت ضيفاً استضافني في منزله الريفي خارج العاصمة «بيونغ يانغ» عرّف بها الأمة الحية بأنها التي تبني قوتها الذاتية على: الاستقلال في الثقافة، الاكتفاء الذاتي في الاقتصاد والاعتماد على النفس في الدفاع.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه