شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-11-30
 

إخراج جورج عبد المسيح من الشام: روايات روايات… فأين الحقيقة؟

أحمد أصفهاني

تعتمد كتابة التاريخ المعاصر على مصدرين أساسيين: الوثائق المرتبطة بالحدث والتي يتم الكشف عنها بشكل أو بآخر، ومرويات شهود العيان الذين عايشوا المرحلة وساهموا في صنع مجرياتها. والثاني من هذين المصدرين هو الأهم لأنه يأتي من أصحاب الشأن. لكن يجب التعامل معه بدقة وحذر نظراً إلى تأثره بعوامل النسيان والغرضية وما شابه ذلك من نزعات إنسانية معروفة.

فالتأريخ ليس مجرد سرد عشوائي لكل المرويات كما ترد على ألسنة المعنيين. ذلك أن من أبرز مهمات الكتابة التاريخية إخضاع السرديات للنظر النقدي، ومقارنتها بعضها إلى بعض، ثم إجراء التقاطعات بين تفاصيلها التي قد تبدو متناقضة، وصولاً إلى صيغة دقيقة مدعومة بالوثائق وبشهادات اللاعبين الأساسيين. ولا تختلف عملية تسجيل تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي كثيراً عن هذا المنهج. بل هو بحاجة ماسة إلى المقارنة وإجراء التقاطعات لأن الشهود العيان الأحياء ما زالوا قادرين على تأكيد أو نقض المرويات المشكوك في تفاصيلها.

مناسبة هذا الكلام مادة قرأتها قبل أيام، وزعتها إلكترونياً "لجنة تاريخ الحزب"، وتتضمن رواية جديدة عن عملية "تهريب" رئيس الحزب الأسبق جورج عبد المسيح من الأراضي الشامية إلى لبنان في أعقاب الكارثة التي حلت بالحزب بذريعة وقوع جريمة اغتيال العقيد بالجيش الشامي عدنان المالكي في نيسان سنة 1955. وقد كتب هذه الرسالة الرفيق يوسف عبد الحق، ناقلاً معلومات والد زوجته الرفيق الراحل جبر أشتي الذي تولى إمرة المجموعة المسؤولة عن "تهريب" عبد المسيح إلى لبنان، ومن عناصرها أيضاً الرفيق كمال سيف الدين خال الرفيق عبد الحق. وقد سجّل هذا الأخير ما رواه له الرفيقان المشاركان في تنفيذ المهمة.

ليست رواية الرفيقين جبر أشتي وكمال سيف الدين، كما نقلها الرفيق يوسف عبد الحق، الأولى حول مسألة انتقال عبد المسيح إلى لبنان بعد حادثة المالكي. فقد نشرت "لجنة تاريخ الحزب" نبذات عدة عنها في 7 أيلول و27 أيلول وأول تشرين الثاني سنة 2017. وهي تغطي جوانب جزئية تلقي بعض الضوء على مهمة الإنقاذ تلك، لكنها تغفل كثيراً من التفاصيل الأخرى الدقيقة. ومن حسن حظنا كمؤرخين معنيين بتاريخ الحزب أننا بتنا نملك الآن مذكرات رفقاء شاركوا في عملية الانتقال بقسميها: مغادرة دمشق باتجاه الزبداني كمرحلة أولى، ثم لقاء مجموعة الرفقاء التي تولت مرافقة عبد المسيح إلى الأراضي اللبنانية.

الأمين سليم سعدو سالم يروي تفاصيل المرحلة الأولى في كتابه "حان الوقت: مذكرات شاهد" الصادر في بيروت سنة 2017. لقد شارك في نقل عبد المسيح من منزل الرفيقة خالدة صالح (سعيد) بدمشق إلى الزبداني بمشاركة الرفقاء يوسف دعيبس وعبد الهادي حماد وفضل العقاد. ويذكر في الصفحة 135 أن عبد المسيح قال لهم بعد الوصول إلى تلك المنطقة "عليكم الرجوع إلى دمشق، لكن اتركوا عبد الهادي حماد معي". والذي يهمنا في موضوعنا هذا ما حصل في تلك الليلة بعد أن عاد بقية الرفقاء إلى دمشق، إذ يضيف سالم في الصفحة 136 أن العم (وهو لقب عبد المسيح) قال لعبد الهادي "إنه يريد أن يقضي حاجة وراء تلك الصخور، وإنه سيعود بعد قليل: انتظرني ولا تتحرك من هنا حتى لا نبعد عن بعضنا". وحسب مذكرات سالم، يبدو أن عبد المسيح انتقل إلى مكان آخر محدّد سلفاً للقاء المجموعة التي ستعبر به الحدود.

إذن أصبح عبد المسيح وحيداً في الموقع المعيّن، بينما الرفيق عبد الهادي ينتظر في مكان آخر. ونحن نعرف من مصادر عدة أن المجلس الأعلى في بيروت كان قد وضع خطة لنقل رئيس الحزب إلى لبنان، وأنه تم الاتفاق على تفاصيلها معه بطريقة سرية. وهنا نجد بين أيدينا روايتين: الأولى أوردها الأمين الراحل ديب كردية في مذكراته "قسمي... وصيتي" الصادر عن دار كتب في بيروت سنة 2007. والثانية جاءت في رسالة الرفيق يوسف عبد الحق حاملة ما ذكره الرفيق الراحل جبر أشتي. ولا بد لي من الإشارة إلى أنني أشرفت على تحرير مذكرات الأمين كردية، وسبق لي أن سمعت منه مباشرة الكثير عن نضالاته الحزبية الواردة في الكتاب.

لنقرأ ما كتبه الأمين كردية (صفحة 36): "قطعنا الكيلومترات المحددة حتى وصلنا إلى المفرق ونزلنا بعد 600 متر، بينما عادت السيارة أدراجها. كانت كلمة السر أن نضرب بعضنا بالحجارة. وصلنا التلة وكانت الريح جنوبية باردة. ضربنا الحجارة مرات عدة، وصعدنا ونزلنا مرات عدة أيضاً... فلم يجبنا أحد. فرحت أتساءل إن كان الرئيس غادر المكان بسبب شدة البرد، واقترحت أن ننزل إلى الجهة الغربية حيث فعلنا الشيء نفسه هناك، فأجابنا عبد المسيح بدق الحجر ثم اقترب منا. ناديت "تحيا سوريا"، فميز صوتي على رغم الظلمة وقال : أهلاً كردية".

وفي رسالة الرفيق عبد الحق نقلاً عن الرفيق جبر أشتي نقرأ التالي: "عند منتصف الجبل، وقف الرفيق جبر، أنتظر قليلاً ليسمع إن كان هناك من إنذار عن أمر يقلق! حدّ نظره في كل اتجاه فوجد أن المنطقة بكاملها في هدوء وسكينة، وابتدأ بتنفيذ ما أوكل إليه واتخذه على عاتقه. فأخذ حجراً وابتدأ بنقر كلمة السر على صخرة ظللتها شجرة سنديان، (أ– ن– ط– و– ن). توقف ثوان وتابع (س –ع– ا- د – ه). وقف ينتظر الرد وكله آذان متيقظة تسمع كل شيء في محيطه. لفحة نسيم الجبل لطيفة الملمس ولها صوت ناعم، حفيف شجر الملول وقرقعة أغصان السنديان العنيدة، وأصوات الصراصير وطيور الليل. وبعد دقيقة انتظار كأنها ساعات، يسمع نقر حجر على الصخر (أ– ن– ط – و- ن). توقف ثوان (س– ع - ا – د – ه). فارتاح لسماع الإشارة لكنه لم يستطع تحديد مصدر الصوت تماماً. فعاد هو أيضاً وقام مرة أخرى بنقر التشفيرة ذاتها، وانتظر الجواب، فإذ بالرد يأتي بنفس الصدى الذي سمعه منذ دقائق. ولكن هذه المرة استطاع أن يحدد مكان مصدره. واستأنف المسيرة بكل حذر وانتباه وإصغاء لما قد يرسله الرفقاء من تحذير... وقبل وصوله بأمتار استطاع أن يميّز أشكالاً تتحرك عند الصخور على مسافة أصبحت قريبة. وأخذ يتقدم بخطى أسرع ولكن بشعور لم يستطع أن يصفه حتى في آخر أيام حياته! كنت كأنني أمشي في الهواء، لا أشعر بأي شيء إلا أنني على وشك اللقاء مع حضرة الرئيس! وجهاً لوجه مع حضرة الرئيس جورج عبد المسيح ورفقاء ثلاثة كانوا بالقرب منه، فاسرعوا قادمين إلى نقطة اللقاء ومع كل واحد منهم قطعة سلاح".

للوهلة الأولى ربما يلاحظ القارئ وجود تناقض بين الروايتين، خصوصاً في ما يتعلق بقيادة العملية. لكن هناك الكثير من نقاط التشابه: الرفيق جبر أعد مجموعة تضم الرفقاء كمال سيف الدين ونايف العنيسي ونايف الشوفي، بينما استنفر الأمين ديب الرفقاء أحمد مهدي نزهة وحسن خليل علي نزهة وحسن جراد وعلي طي وأحمد علي حسن. يقول الرفيق جبر أن الرفيق سعيد تقي الدين استدعاه إلى شتورا، في حين أن الأمين الراحل مصطفى عز الدين هو الذي طلب من مجموعة الأمين ديب التوجه إلى شتورا للقاء الرفيق تقي الدين. ويذكر الرفيق جبر والأمين ديب أنهما طلبا من عبد المسيح إطفاء سيجارته حتى لا تفضح مسيرتهم. كما أن المجموعتين إلتقتا على انفراد الرفيق تقي الدين وآخرين من القياديين المركزيين. وكذلك يوجد تطابق كامل في التعليمات التي تلقاها الطرفان في ما يتعلق بمكان اللقاء وآليات التعارف وطريق العودة... إلخ.

غير أن التناقض الذي يلاحظه القارئ يكمن في أن كلاً من الرفيق جبر والأمين ديب لم يذكر الطرف الآخر بالإسم، خصوصاً وأنهما يؤكدان إمرتهما لعملية نقل رئيس الحزب سالماً إلى الأراضي اللبنانية. أما بعض الاختلافات الجزئية، مثل عدد الرفقاء المشاركين وأي من المسؤولين كان موجوداً، فتعود إلى انقضاء الفترة الزمنية وضعف الذاكرة عند كل منهما. ونحن نرجح أن الخطة كانت تقتضي أن لا يتم الكشف عن هويات الرفقاء المشاركين في المجموعتين اللتين أنيطت بكل منهما مهمة معينة. فقد كنا تركنا عبد المسيح وحيداً في نقطة متفق عليها بعد أن طلب من رفقاء دمشق العودة إلى المدينة، وترك عبد الهادي منتظراً. لذلك نحن نعتقد بأن مجموعة الأمين ديب هي التي كانت مع عبد المسيح عندما التقاه الرفيق جبر "ومعه ثلاثة رفقاء"، حسب ما ورد في مروياته! هذا يعني أن الجزء الأول من العملية وقع على عاتق الأمين ديب ومجموعته، ثم تولى الرفيق جبر ومجموعته الجزء الثاني لأنهم أبناء المنطقة وأكثر معرفة بمسالكها. وهذا ما قصده الأمين ديب بعبارته "رفيقنا الذي كان على دراية تامة بأرض المنطقة"... وقد جاء في نبذة عن الرفيق فضل العقاد، الذي قاد السيارة من دمشق إلى الزبداني ، نشرتها "لجنة تاريخ الحزب" بتاريخ أول تشرين الثاني 2017 أنه "كان هناك فريقان من القوميين المدربين".

إن الاعتماد فقط على مرويات بعينها، من دون مقارنتها بمرويات أخرى تتناول الحدث ذاته، قد يؤدي إلى إطلاق أحكام متسرعة تمسّ مصداقية ما يسجله الرفقاء. وأعترف أنني شعرت بالقلق عندما قرأت محتويات رسالة الرفيق يوسف عبد الحق، مسترجعاً في ذاكرتي ما كنت قد عرفته عن دور الأمين كردية في عملية "تهريب" عبد المسيح وغيرها من الأعمال البطولية خلال تاريخه الحزبي العريق. فهل يُعقل أن تكون ذاكرة أحدهما قد خانته في لحظة ما؟ أبداً. إن العودة إلى مصادر عدة باتت متوافرة لدينا مع بذل بعض الجهد، وهي كفيلة بأن تكشح كل الظنون والشكوك المؤقتة التي تعتبر من طبيعة الكتابة التاريخية، لتحل مكانها نصاعة الانجازات التي حققها القوميون الاجتماعيون على مدى تاريخهم الحزبي المميز.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه