شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2020-11-22
 

أنطون سعاده الغائب الأكبر في حزبه (2) إزاحة " المتسلقين " في الإدارة الحزبية.!

طه غدار

غادر أنطون سعاده واخوته الوطن عام 1919، حاملا معه ألم مشاهداته لحال شعبه. واستقر مع والده في البرازيل متدربا على يديه في العمل الصحافي. أيضا، هناك تألم سعاده لمشاهدة اليهود عام 1921 في تظاهراتهم العامة و

" وحدة" صفوفهم في أنحاء العالم للعودة إلى" أرض الميعاد". وكان مشمئزا جدا لموقف "الجاليات" السورية لعدم ادراكها الخطر الذي يحيق بكيان الوطن.

شارك بتأسيس 3 أحزاب في المغترب البرازيلي وانسحب منها لعدم إدراك الأعضاء السوريين المسؤولية الخطيرة المترتبة على عضويتهم. كما كان قد انتسب إلى الحركة الماسونية ووصل لدرجة عالية خلال فترة قصيرة، وانسحب منها.

خلال هذه الفترة كان يتابع دراساته وأبحاثه حول أوضاع سورية، ويكتب في مجلة والده في السياسة الدوليةومن جملة ما كتبه مقالة عنوانها: سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي (عام 1924).

عاد إلى الوطن عام 1930 مصمما على إنقاذ بلاده وإعادة بعثها من "قبر التاريخ". وكانت تجربة التأسيس الأولى عام 1932 حيث عمل على حل الحزب لعدم صلاح إثنين من خمسة أعضاء. وأعاد التأسيس مع الأعضاء الباقين كمثال حي لنموذج جديد في تأسيس الحركة التحررية.

كان سعاده قد خبر صعوبة التأسيس لعمل تحريري سوري في المغترب، فلم تصدمه حادثة التأسيس الأولى في الوطن، لا سيما إنه كان على دراية تامة بأوضاع شعبه الإقطاعية والعشائرية والطائفية.

نراه يكتب لمحاميه حميد فرنجية عام 1935.. " إن فقدان السيادة القومية هو السبب في ما حل بأمتي وفي ما يحل بها. وهذا كان فاتحة عهد درسي المسألة القومية ومسألة الجماعات عموما والحقوق الإجتماعية وكيفية نشوئها. وفي أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقده.." ويتابع قائلا: " ولما كانت دروسي الإجتماعية والسياسية والإقتصادية قد أوصلتني إلى تعيين أمتي تعيينا مضبوطا بالعلوم المتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي والى تعيين مصلحة أمتي الإجتماعية والسياسية... "

ويوضح سعاده الأسباب الموجبة لدرسه هذا في خطابه في أول آذار 1938: " لم تتعرض أمة لحوادث تاريخية عظيمة ذات تأثير طويل على تاريخها وحياتها كالحوادث التاريخية الجليلة التي ألمت بأمتنا العظيمة، وأبقتها تحت تأثيرها الطويل.

.... كان التضعضع القومي عاما وكاد يقضي على شخصية الأمة قضاء مبرما فلم يبق لها سوى بعض المؤسسات كالمراجع الدينية والمعابد والسلطة الإقطاعية ونظام العشيرة أو رابطة العائلة الدموية".

وكان المعلم بطرس البستاني قد كتب بعد الحوادث الطائفية

عام 1860، إنه كان من الصعوبة بمكان إيجاد شخص" يفك الحرف" في جبل لبنان، تدليلا على فقدان الثقافة العامة، مما دفعه لإنشاء" المدرسة الوطنية" عام 1864 جامعا فيها أساتذة وطلابا من كل الطوائف والمذاهب معلنا أنه هكذا يجب أن تكون صورة الوطن الجديدة. وجريا على هذه الحال، ألمح أنيس فريحة لسعاده "عن عجيبة" في حال قدرته على جمع مواطنين من عدة طوائف!

كانت عودة سعاده إلى وطنه عام 1930 لتصميمه الأكيد على إنشاء حركة نهضوية " تعيد للأمة السورية حيويتها وقوتها". واثقا من خطواته التأسيسية، ومتخطيا كل الصعوبات التي صادفته، متابعا شق الطريق لحياة جديدة لبلاده. وكانت أول عملية إقصاء للعناصر غير الصالحة في بداية عملية التأسيس فاكتفى سعاده بالتظاهر بحل الحزب لعدم وجود دستور. ليعاود الإتصال بالعناصر الجيدة لمتابعة عمله التأسيسي.

بعد خروجه من سجنه الأول برزت أمامه مسألة شارل سعد وأعوانه بعدما برز تلاعبهم الإداري، فطلب معاونو الزعيم حل المسألة " بالتفاهم " بينه وبين سعد وزمرته، فأجرى لهم محاكمة حزبية وطرده مع الأخرين. وخلالها كان قد تبوأ أعضاء غير جديرين سلم المسؤولية الحزبية. فعمد لإزاحة كل المتسلقين.

وبعيد خروجه من سجنه الثالث عام 1937 تمكن من عقد هدنة مع أركان الدولة فحصل على حق إصدار جريدة "النهضة" التي استمرت لعدة أشهر. عادت الدولة بعدها لملاحقة سعاده إثر حادثة مما إضطره للتواري. فانتقل في حزيران 1938 إلى دمشق، فعمان، فحيفا (فلسطين) ومنها إلى قبرص فرومة فبرلين. ووصل إلى البرازيل أواخر العام 1938 ليلقى في السجن هناك لمدة تقارب الشهر، خرج بعدها لإنشاء جريدة "سورية الجديدة" بعد عقد إتفاق مع الرفيقين فؤاد ورفيق بندقي، اللذان سرعان ما خالفا العهد بعد فترة وجيزة، وفتحا صفحات الجريدة لدولتي المحور مما أثر سلبا على تخطيطه السياسي واتصالاته مع بعض السفراء الأوروبيين والأميركان. واستمر الأمر على هذا المنوال لأكثر من عام كامل لتعود الجريدة لسان حال الحزب. وحول هذا الشأن يكتب سعاده إلى الرفيق وديع عبد المسيح (8.12.1940) إن عمل الرفيقين بندقي عرقل حركاته وخططه السياسية و"عطل إمكانيات سياسية كثيرة كانت تعود بالفائدة على الحركة القومية." ليعود ويقول له: " إني أفضل أن تزول الجريدة ويزول الحزب كله على أن يقوم أحدهما أو كلاهما على أساس الفوضى أو الإمتيازات الشخصية غير المستحقة. فأنا قد جئت لإنشئ شيئا جديدا لا لأسير حسب النظام أو الوضع القديم."

وكان سعاده قد قصد البرازيل مع مرافقين إثنين هما أسد الأشقر وخالد أديب، وأضطر الأول للعودة إلى عمله في أفريقيا، فبقي معه خالد أديب الذي ظهرت سريعا أعماله الفاسدة فحاكمه أَمام 40 قوميا إجتماعيا وطرده على الأثر، معطيا درسا في ما يجب أن يكون عليه المسؤول من خصال ومواهب عملية.

هناك، حاول عقد مؤتمر حزبي في البرازيل والمكسيك وأميركانية واسبانية، وشكل لجانا للمؤتمر، وأجرى إتصالات مع بعض السياسيين في بعض الدول لا سيما إسبانية لإسماع صوت الحزب، ولم يفلح. دون أن نقع على الأسباب التي حالت دون ذلك.

وكان أن غادر إلى الأرجنتين بعد سجنه في البرازيل، وهناك لم تسمح له السلطات بالمغادرة بعد صدور قرار من محكمة فرنسية في الوطن بعقوبة السجن لمدة 25 عاما. فإضطر للإقامة في الأرجنتين التي يشبهها بعد معاشرة جاليتها السورية بأنها كانت أسوأ من "سجن الرمل" في بيروت. فإضطر للعمل هناك " صيانة لكرامته الشخصية".

طوال فترة إقامته في الأرجنتين حتى بداية العام 1947 كانت المخابرات الفرنسية تتابع خطواته وتلاحقه بواسطة رجالاتها المرتهنين من الجالية السورية. وحاول مرارا خلال هذه الفترة العودة إلى الوطن بأية طريقة لإنقاذ بلاده والعمل لإستقلالها! فلم يستطع!

وعمدت الحكومة اللبنانية لعدم إعطاء جواز سفر للزعيم عام 1946. كما حاول بعض مسؤولي الحزب تعطيل عودته.

كانت الإدارة الحزبية خلال فترة غيابه قد حصلت على ترخيص للعمل العلني عام 1944 باسم "الحزب القومي" غايته "استقلال لبنان!" كما كان أسد الأشقر قد كتب لسعاده عام 1946 في مجاراة للإستقلالات الهزيلة لبعض الكيانات السورية أنه من الأفضل تأسيس أحزاب كيانية تسهيلا للعمل الحزبي في كل كيان.

عاد سعاده إلى الوطن في 2 اذار عام 1947 وألقى خطابا أمام حشود القوميين. وسرعان ما أصدرت الحكومة في لبنان مذكرة توقيف بحقه في 4 آذار فإضطر للتواري لغاية 11 تشرين أول.

خلال هذه الفترة حل الزعيم المجلس الأعلى والمكتب السياسي وواجه حالات الإنحراف والفساد في إدارة الحزب. فأعاد الإدارة إلى "مركزيتها التامة" والصارمة ملغيا ما دعي إدارتي فلسطين والشام.

كانت أولى محاضراته في الندوة الثقافية أول العام 1948 محاكمة علنية للإدارة الحزبية المنحرفة والخائنة خلال فترة غيابه القسرية، شدد فيها على "الإسراع بإعادة الندوة الثقافية ودرس تعاليم النهضة القومية الإجتماعية والقضايا التي تتناولها، ضرورة لا يمكن إغفالها.

كنت أتوقع في غيابي أن يكون القوميون الإجتماعيون المهتمون بالمسائل الروحية الثقافية والأسس الفكرية قد جعلوا همهم الأول درس حقيقة مبادئ النهضة، ودرس الشروح الأولية الأساسية التي توضح الإتجاه والغاية والأهداف القومية الإجتماعية إرساخا للعقيدة وتدقيقا في العمل. هذا ما كان ينتظر. ولكن ما استغربته كثيرا جدا هو الإتجاهات الإنحرافية التي نشأت وبرهنت على أنه لم يكن شيء مما توقعت. "

وعاود سعاده شرح الخطاب المنهاجي الذي كان قد ألقاه عام 1935 والذي أعلن فيه إننا: " ... أصبحنا أمة بعد أن كنا قطعانا بشرية... اننا قد ترابطنا في هذا الحزب لأجل عمل خطير جدا، هو إنشاء دولتنا وليكون كل واحد منا عضو دولته المستقلة.."

وأعاد شرح المبادئ الأساسية والإصلاحية. والحقيقة ان هذه المحاضرات تعتبر بمثابة " إعادة تأسيس" لفكر الحزب ونظامه.

بعدما لمس سعاده إنحراف الإدارة الحزبية خلال فترة غيابه، وخيانة بعض رجالاتها. وتقاعس الأعضاء أمام هذا الأمر، و قبولهم بالإنحراف" بحكم النظام "ولإيقاظهم على حقيقة النهضة " والنظام الجديد"، وبناء المتحدات الروحية في المناطق. لذلك سارع سعاده للطلب إلى عميد الداخلية لتدارس أمر تطبيق المرسوم الرابع ( مجالس المنفذيات ولجان المديريات). وجال على المناطق في لبنان والشام لإعادة بناء النفوس وشحذ الهمم فقدكان عازما على إنشاء "جيش قومي" للمشاركة في معارك فلسطين فخذلته الدول العربية أن "لا سلاح للقوميين".

وبدأ النظام اللبناني بملاحقته بعد إفتعال حادثة الجميزة ، وجرى تطويق سعاده من قبل الدولة الشامية والمصرية بمشاركة أمريكية ويهودية وانتهى الأمر بتسليمه للنظام اللبناني وحوكم وأعدم في 8 تموز عام 1949.

هذه السيرة السريعة والمريرة لمسيرة حياة أنطون سعاده التي يتضح منها انه لم تسمح له الظروف لاسترداد الحزب، نتيجة تدني وعي القوميين. فهو خلال سنة في ظروف حياته السياسية والقومية ونكبة فلسطين لم تمكنه من إعادة بناء الحزب ومؤسساته .

وعادت رموز الإدارة المنحرفة لتقود الحزب ، بعد إعدامه.

وهكذا كان أول تعديل مخالف لدستور سعاده عام 1951. ثم كان إنقسام الحزب عام 1957 بعد سلسلة أحداث داخلية. وفشل إنقلاب الحزب ضد النظام اللبناني عام 1961 فأودعت الإدارة الحزبية السجن إلى حين خروجها عام 1969 باتفاق مع النظام اللبناني.

وعقد مؤتمر ملكارت الذي أجريت فيه تعديلات أساسية على دستور سعاده أذيعت أول العام 1970. وأقيل رئيس الحزب يوسف الأشقر عام 1971، وكان قد وزع بيانا داخليا أعلن فيه سيطرة " الإقطاع" داخل الحزب. وعاد الحزب للإنقسام عام 1975 ليتوحد عام 1978.

وفي محاضرة للدكتور عبدالله سعاده بمناسبة أول آذار 1987 جاء فيها : إننا لم نكن يوما الحزب الذي أراده سعاده.! كما وزع بيان لرئيس الحزب عصام المحايري في أول آذار 1987، ورد فيه: "... عام 1970، تحت شعار تعديل الدستور، صدرت تشريعات عن المجلس الأعلى قوضت نظام الديمقراطية التعبيرية، وأحلت مبدأ الديمقراطية التمثيلية على مبدأ الديمقراطية التعبيرية. فقام نظام جديد إختلاطي التركيب يجمع بين مبدأين ديمقراطيين نقيضين جمعا يسفه تسفيها تاما مذهبنا الإجتماعي السياسي الذي أنتج دستورنا.

إن مؤسساتكم القيادية في حالة الحزب الحاضرة ، باتت عاجزة عن مواجهة عوامل الفساد والتناحر بسبب ما تراكم في دستور الحزب وفي بنى مؤسساته العليا من حيث علاقاتها النظامية ومن حيث تكوينها القيادي، من ممارسات لا دستورية باتت تقيد القيادة وتشلها بنظم غيرت دستور الحزب تحت شعار تعديله، فحولته إلى نظام إختلاطي عاجز لا أصول له ولا قواعد، ولا معالم، ومن تطبيق فاسد للدستور كان بنتيجته جسم طويل عريض من الأمناء، في بعض حالاته ضحل المعرفة، متدني المسؤولية، مضطرب الإيمان، ضعيف الإنتماء. ثم إن النظام نفسه سقط بالتغييرات الدستورية التي قوضت مركزيته وتسلسليته، ومبدأ الفصل بين السلطات فيه.."

وكان أن أعيد "توحيد" الحزب عام 1998 بعد إنشقاقه عام 1986 بتسوية جريا على " العادة اللبنانية"، كسابقتها عام 1978 خلافا لقواعد الحزب الاخلاقية و المناقبية، ولما أرساه سعاده من اعتبار فساد مبدأ التسوية.

وكانت المشاركة في الوزارة آوائل التسعينات في لبنان. وجارى وزراء الحزب " الساسة اللبنانيين" كل المجاراة في أفعالهم! وكذلك الأمر بالنسبة لنواب الحزب! ثم تراجع عدد نواب الحزب في المناطق لتاريخه،فتقدم مرشحو " القوات" و "الكتائب" على مرشح الحزب في بلدة سعاده (الشوير). ونزعت من القوميين أيضا رئاسة البلدية فيها.. كل ذلك وإدارة الحزب والقوميون سواء في السكوت على التراجع نتيجة الإحباط المريع لدى الأعضاء، في ظل عدم إعطاء دور لإصحاب الإختصاص والمثقفين داخل الحزب.

أيضا هذه السيرة المختصرة لمسيرة الحزب بعد غياب مؤسسه توضح إبتعاد إدارات الحزب عن الواقع القومي والشعبي باستثناء بيانات لا تغني...! وفي ظل عدم المشاركة بالحراك الشعبي بعد 17 تشرين الأول لإرتهانها للسياسة المحلية في لبنان.

خلال هذه الفترة قام القوميون بواجبهم في صد الإرهاب الداعشي في الشام وعلى الحدود اللبنانية.

تبقى الإشارة الى انه بعد غياب سعاده، إن الشهداء وأبطال الحزب هم من اقتدى به فعلا.

والحقيقة المرة، إن واقع الحزب اليوم، كما هو واقع المجتمع السوري تماما. وكأن سعاده لم يمر على هذه البلاد أو كأنه مجرد سحابة ومرت في سماء سورية!

نقول ذلك بأسى كبير، نتيجة الواقع المؤلم للحزب والمجتمع وكيانات الوطن السوري!.

وخلاصة لما سبق، لقد ألمحت إلى هذه الظروف لتبيان أسباب إنحسار دور الحزب على صعيد المجتمع والدولة:

1_ إنحراف الإدارة الحزبية عن القيام بدورها المسؤول حزبيا وقوميا.

2_ قلة ثقافة القوميين.

عودة إلى التأسيس وظروفه زمن سعاده والدروس المستخلصة من حله الحزب عام 1932 لوجود أعضاء فاسدين. وطرد شارل سعد وزمرته بعد محاكمتهم لفسادهم أيضا. وطرد خالد أديب بعد محاكمته بعدة تهم. وأخيرا حل المجلس الأعلى الذي كان سعاده قد وثق به وسلفه صلاحيات إستثنائية لغيابه عن الوطن بسبب إنحرافه وخيانته للمبادئ والنظام القوميين الإجتماعيين.

كان سعاده قد أخذ بالاعتبار والحسبان أن شعبه الذي مر بفترة طويلة (11 قرنا) من الغياب عن مسرح الحياة العالمية قد غابت خلالها كل مؤسساتها السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية، وإنه بحاجة لإعادة تدريب وتعليم الشعب على إنشاء المؤسسات الجامعة والناجحة لإعادة وصل ما انقطع. فقد واجه سعاده صعوبات في مرحلة التأسيس، وصعوبات مع الإدارة الحزبية، كل ذلك بسبب قلة ثقافة شعبه.

لذلك لم يسمح - منذ البداية - بوجود إعضاء من "المجتمع القديم" في الإدارة الحزبية. ولم يعط أية أهمية لعدد المطرودين أو لمواقعهم السياسية والإجتماعية. ولطالما دعاه الأعوان للتريث والتفاهم مع هؤلاء الفاسدين أعوام 1932 و 1936، كما عمل على إزاحة المتسلقين من المسؤولية بعد خروجه من السجن الثاني والثالث في الوطن عام 1937، وعام 1947 عندما حل المجلس الأعلى. وكان أغلب أعضاؤه ممن قسمهم هو يمين العضوية ورعاهم في مسؤولياتهم الأولى، وبعضهم كان صديقا له. لم يراع مشاعر الصداقة أو الصحبة أمام مشاعره تجاه عملية إنقاذ بلاده. كان حازما وجازما فطرد الخونة والمنحرفين غير آسف. كما كان سبق له أن طرد صديقه الدكتور فخري معلوف لإنحرافه العقدي عام 1946.

الدروس المستخرجة من تجربة سعاده تحفز للقول أنه لا يمكن البناء على الإنحراف أو الفساد بكل أشكالهما وأنواعهما على الإطلاق. وتحفر هذه الدروس في الوجدان والضمير والتاريخ الحزبي وعقل كل عضو في الحزب والمجتمع. وتحفز النفوس الأبية والمؤمنة بمجتمعها ووطنها للقضاء على الفساد والخيانة في قلب المجتمع والحزب.

قلنا أنه بعد غياب سعاده، عادت الإدارة المنحرفة (عام 1949) لتسلم زمام الأمور. وكان أول تعديل لنظام الحزب عام 1951 مناقضا للفكر الدستوري لسعاده. فتكون اوا إدارة حزبية قد تعدت على "النظام الجديد" الذي هو في غاية الحزب. والذي يعتبره سعاده "النظام الوحيد" الذي ينقذ سورية من كل المفاسد السياسية و الإجتماعية. وتتالت بعدها التعديات الدستورية، حتى وصلنا اليوم إلى نظام هجين غريب عن عقيدة سعاده وفكره ونهجه. إضافة إلى مواقف سياسية متضاربة ومتخاذلة حتى طافت على السطح السياسي في لبنان الخلافات والانقسامات والدعاوى. مما اضطر أحد الإعلاميين الغيورين على فكر سعاده أن يكتب: "لماذا تنحرون الأمة..! ؟" مما يفقد الحزب بكامل أجنحته وفروعه المصداقية وثقة الشعب به!

يذكر سعاده في أولى محاضراته عام 1948 : " يتقولون في شؤون العقيدة والنظام كنا لو أنهم جماعة غرباء عن الحزب بالكلية." مؤشرا على إدارة الحزب ومثقفيها. فلم يستطع تعميق الوعي لدى الأعضاء خلال فترة وجيزة من حياته. فهو أعدم في 8 تموز عام 1949 تاركا حزبه بدون مجلس أعلى ومجلس عمد لعدم وجود أعضاء مناسبين، مكتفيا بتعيين مجلس وكلاء عمد من بعض الأعضاء الشباب.

لم تتابع الإدارة الحزبية الأولى بعد غياب سعاده مسألة تثقيف الأعضاء، والعمل بمضمون قانون الندوة الثقافية. كما غضت النظر عن كلمته في مؤتمر المدرسين عام 1948: " أن حرب العقائد التي أعلناها حين أعلنا تعاليمنا السورية القومية الإجتماعية تتطلب منا جعل قضية الثقافة في مقدمة القضايا التي يجب أن نوليها اهتماما خاصا، وأن نخطط لها الخطط ونرتب الصفوف.

وهكذا، استمر أعضاء الحزب بثقافتهم الضئيلة التي لا تسمح لهم بفهم معنى التعاقد مع الزعامة القومية. وعدم قبول الإنحراف "بحكم النظام" ومحاربة الفساد والخيانة داخل الحزب والمجتمع.

والواقع المؤلم إن معظم أعضاء الحزب المثقفين "لبطهم حمار" الإدارات الحزبية على حد تعبير أديبنا سعيد تقي الدين. إضافة لغياب الندوةالثقافيةوالمؤسسات الأذاعية.

وبحكم قلة الثقافة لدى الأعضاء، نراهم مطواعين، طائعين, منصاعين لحكم إدارات الحزب في كافة الأعمال، في ظل الإهمال الكلي لمسألة العقد مع الزعيم. ويعود السبب الجوهري لذلك للبيئة التي يعيشون فيها، و للتطبع الديني الذي يقبض على خناق شعبنا في حياته اليومية و علاقاته بمحيطه الاجتماعي.

فكان الأعضاء على نفس الوتيرة يقبلون بمماشاة ومسايرة لكل ما يصدر عن إدارة الحزب التي كانت تخدع الأعضاء وتغشهم بنظام الأشكال: الإنضباط والطاعة للطوطم (النظام)! رغم إشارات سعاده العديدة إلى ضرورة التقيد التام بنظام الفكر والنهج ونظام المؤسسات الموافقة له. وخير مثال على ذلك حين أشار سعاده في أولى محاضراته في الندوة الثقافية الى قبول القوميين الإنحراف "بحكم النظام" لأنهم غير مؤهلين لمواجهة فساد الإدارة الحزبية، وبقوا معلقين بمركز الحزب كما الوليد يبقى معلقا بحبل صرة والدته لا يقوى على قطعها، ليقطعها الطبيب. والطبيب في حزبنا هو الثقافة الحزبية و"النظام الجديد" الذي لم يطبق بعد. وتعليقا على هذا الشأن، قال أحد مفكري الحزب إن القوميين أسخياء في تقديم الدماء وجهلاء في معرفة الفكر.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه