إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ما الذي نعنيه بالنظام الجديد؟

حنا الياس الشيتي

نسخة للطباعة 2021-04-15

إقرأ ايضاً


ما الذي نعنية بالنظام الجديد؟ هذه العبارة التي نرددها نحن القوميون الاجتماعيون كثيراً، والتي وردت أيضاً في غاية حزبنا بأننا نعمل على "تنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية، استقلالاً تاماً، وتثبيت سيادتها وإقامة نظام جديد يؤمن مصالـحها ويرفع مستوى حياتها"[1]. بعض حديثي العهد بالحزب والمقرَّبين منه، يظنون أن المقصود هو نظام الدولة القومية الاجتماعية حصراً. ويعضهم يذهب أكثر من ذلك، ليعتبر بأن النظام الجديد هو دستور الحزب فقط وليس إلا؛ نظراً لكون الحزب هو الدولة القومية! لكن هذه التأويلات كلها ليست صحيحة، رغم أنها استنتاجات بديهية. أجل ليست صحيحة رغم أن الأحزاب السياسية تسعى بطبيعتها إلى استلام السلطة، ولن يكون مستغرباً بالتالي أن تسعى هذه إلى تعديل أو حتى تغيير نظام الحكم في الدولة ما أن تحقق مسعاها الأول! هذا، لو كان الحزب حزباً سياسياً عادياً كباقي الأحزاب؛ لكنه ليس كذلك!

وعودة سريعة منا إلى محاضرة سعاده العاشرة، حيث يشرح فيها ما يعنيه بالنظام الجديد، أو على الأقل يوضح خطوطه العريضة، نجد أن ما نعنيه بهذا النظام هو أعمق من هذا بكثير. هناك نقرأ أن النظام الجديد هذا هو للحياة – حياة الأمة، لجعلها أرقى وأفضل وأجمل[2]. فالنظام الجديد إذا هو نظام يشمل حياة الأمة كلها، أما الدستور، فهو نظام الحزب، وإن شئت فقل هو نواة نظام الدولة، لكن هذا هو أوسع مفهوم يمكنك أن تطلقه عليه. وعلى هذا الأساس، ولأن الأمة تشمل الدولة ولا يعكس، نقول بأن النظام الجديد يشمل الدستور ولا يعكس.

في المحاضرة العاشرة، بل حتى في كتاب المبادئ، يحدد الزعيم نوع هذا النظام بأنه نظام قومي اجتماعي جديد! فهل يا ترى قد فقد التعبير "قومي اجتماعي" معناه حتى نجد أنفسنا مضطرين إلى شرحه مرة بعد مرة؟ منعاً للإلتباس نقول بأنه نظام اجتماعي لأنه نظام يعنى بربط وحفظ المجتمع في وحدة قوية متماسكة، وهو قومي لأنه يعمل على توجيه عناصر القوة القومية كلها باتجاه واحد، الذي هو تحقيق مصلحة الأمة. فالنظام الجديد إذا هو لتأمين حياة الأمة وتأمين تقدمها نحو المثل العليا.

ومن هنا نفهم قول سعاده أنه " بعد تأسيس فكرة الأمة يجب الاهتمام بالأمة التي أصبح لها تحديد واضح لم يعد متراوحاً، أصبح من الضروري الاهتمام بمصير الأمة، بتأمين مصيرها، بتأمين حياتها ووسائل تقدم الحياة نحو المثل العليا، نحو إقامة نظام جديد للحياة يجعل الحياة أرقى وأفضل وأجمل"[3].

وبديهي أن نظاما، هذه مهامه، سوف يشمل فيما يشمل نظام الدولة. دونه لما أمكننا التصور كيف يتمكن هذا من قيادة الأمة باتجاه واحد. لكن لا بد لنا من التنبه إلى أنه إذا كانت الدولة التي نريدها هي دولة ديمقراطية، لابد لنظام الدولة هذه من نظام اجتماعي موافق له. وإذا كنا قد سلمنا بقول سعاده أن الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتما، لا بد لنا من التسليم أن الدولة هذه لا يمكنها أن تثبت في مجتمع استفحل فيه التفسخ والتفرقة والمصالح الجزئية، وما شاكل. فإن قُدِّر أن تنشأ دولة كهذه في مجتمع كهذا، فإن أولى مهام هذه الدولة، بل أولى التحديات التي لا بد من مواجهتها والانتصار عليها، هي العمل على وحدة المجتمع، بدءاً بتأمين العدل الاجتماعي الحقوقي، تمهيداً لتأسيس عقلية أخلاقية جديدة.

وقد ورد في نص المبادئ أنه " في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة، التي تتكفل بإنهاض الأمة.

وفي الوحدة الاجتماعية تزول الحزبيات الدينية وآثارها السيئة وتضمحل الأحقاد وتحل المحبة والتسامح القوميان محلها ويفسح المجال للتعاون الاقتصادي والشعور القومي الموحد وتنتفي مسهلات دخول الإرادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.

الاستقلال الصحيح والسيادة الحقيقية لا يتمان ويستمران إلا على أساس وحدة اجتماعية صحيحة. وعلى أساس هذه الوحدة فقط يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمن تساوي الحقوق لأبناء الأمة".

ثمَّ في المحاضرة العاشرة، فيضيف سعاده، بأن " التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحدة. فبدون هذا التساوي تظل العقليات المختلفة التي كونتها الشرائع المختلفة معضلة تمنع الأمة من الاضطلاع بقضاياها. فالمجتمعات المتعددة المستقلة بشرائعها وأنظمتها الحقوقية تجزئ الأمة الواحدة وتمنعها من التقدم"[4].

كذلك، كان تحطيم التقاليد القديمة البالية وإنشاء تقاليد جديدة ترسخ فيها نظرتنا إلى الحياة غرضٌ أساسي من أغراض الحزب، بل إن سعاده يعتبر أن "العقلية الأخلاقية الجديدة التي نؤسسها لحياتنا بمبادئنا هي أثمن ما يقدمه الحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة"[5]! وما العقلية الأخلاقية التي يتبناها المجتمع إلا النظام الاجتماعي نفسه، وهي ما يولِّد المصالح الاجتماعية والجمعيات والمؤسسات العاملة عليها، بِدءاً من مؤسسة العائلة! ولهذا، يقسم القومي الاجتماعي على أن يتَّخذ مبادئ الحزب القومية إيماناً لعائلته وشعاراً لبيته، إضافة إلى نفسه.

النظام الاجتماعي ليس مكتوباً، ولا هو مفروضاً من قِبل الدولة كما هو حال الدساتير والقوانين المشتقة عنها، لكنه قناعات وقيم يتبناها الناس وتتوارثها وتطورها الأجيال. فإذا كان "المجتمع معرفة"، أي أنه قيمة تحدث في العقل، فكذلك هو حال النظام الاجتماعي. وكما أن لنظام الدولة مواده الدستورية وتشريعاته وقوانينه التي تضع الحدود وتقدم الممكن، كذلك نجد أن العقلية الأخلاقية بما فيها من أخلاق ومناقب وعادات وتقاليد تقوم بهذا الدور في النظام الاجتماعي، إلا أن هذه تقوم أيضاً بدور آخرٍ أهم وأخطر، ألا وهو الروحية التي تولد الفعل في الأفراد والجماعة وتوجه العمل. أي أن دورها لا يقتصر فقط على الضبط والتوجيه، لكنه دورٌ يدفع الهمم للمبادرة إلى طلب العلى وبلوغ مثل الحق والخير والجمال!

ومن هنا نجد ضرورة التوافق بين نظام الدولة والنظام الاجتماعي. دولة قومية في مجتمع قومي!

لكن النظام الاجتماعي بدوره لا بد له من نظام آخر يتأسس عليه. فالعقلية الاجتماعية لا تولد أو تتطور جزافاً، أو وفاقاً لرغبات وأماني الشعراء والخياليين، بل هي حاصل التفاعلات المادية. يقول سعاده أنه " إذا كان العقل نتيجة تطورات الدماغ الفيزيائية، فالعقلية الاجتماعية نتيجة تطورات التفاعل المادي لتأمين الحياة الاجتماعية"[6]. لهذا لا يمكننا مثلاً، أن نأتي هكذا بمجموعة من القيم والأخلاق والمناقب والمثل العليا، ونطلب من المجتمع تبنيها. عملٌ كهذا لا شك سيكون عملاً أحمق أو أخرق أو شعوذة في أفضل الأحوال.

لأن المصلحة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى، فالنظام الاقتصادي هو بالتالي النظام الأساسي الذي يتركب عليه المجتمع. يقول سعاده " العمل ونظامه التعاونيّ مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع"[7]. كذلك يقول "والذين لا يفهمون العوامل الاقتصادية الخطيرة العاملة تحت كل مظهر من مظاهر الاجتماع، خصوصاً أولئك المناقبيون الذين يرون المناقب أساس كل شيء، يعدون هذا التحول (إعادة تركيب طبقات المجتمع) تفسخاً من جراء الفساد"[8].

إذن النظام القومي الاجتماعي الجديد معني أيضا بإيجاد نظام اقتصاد قومي اجتماعي يستند عليه! يقول سعاده أن " الوحدة القومية لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اقتصادي سيئ كما أنه لا يمكن أن تحصل ضمن نظام اجتماعي سيئ. فإقامة العدل الاجتماعي ــ الحقوقي والعدل الاقتصادي ــ الحقوقي أمر ضروري لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية"[9]. ولهذا وضع سعاده المبدأ الإصلاحي الرابع، والذي يعتبره أنه هو ما يؤهل الحزب اكتساب الصفة الاجتماعية، ليصبح اسمه "الحزب السوري القومي الاجتماعي" بدل "الحزب السوري القومي" [10].

وقد يظن البعض، أن كل ما يقتضيه المبدأ الإصلاحي الرابع منا هو أن تقوم الدولة بإلغاء الإقطاع، وتنظيم الإقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وإنصاف العمل، لكن الحقيقة هي أن العبارة الأخيرة من المبدأ الإصلاحي الرابع، أي عبارة "صيانة مصلحة الأمة والدولة" تطوي عملاً خطيراً، وأساسياً وذو أبعاد شاملة وعميقة جداً في التنظيم الاقتصادي، والاجتماعي، ألا هو إعادة تنظيم وحدات العمل نفسها، من جمعيات ومنظمات ومؤسسات من مصانع وبنوك وأحزاب وما شاكل. وقد شرحت هذه النقطة وأسبابها في القسم الخامس من دراستي "عودة إلى نظام سعاده الاقتصادي".

السنن العامة في الحياة

ما يثير تساؤلنا هو أن النظم هذه تختلف مشاربها وأنواعها، بل أن كل منها يستند على علم قائم بنفسه وله خصوصياته وقواعده التي تختلف عن العلوم الأخرى، فهذا النظام يقوم على علم الاقتصاد، وذاك على علم الاجتماع، وذلك على السياسة أو الحقوق، إلى ما هنالك، فما الذي يمكن سعاده من التوليف بين هذه كلها في توليفة واحدة، يسميها "النظام الجديد"؟

الجواب على هذا نجده في نشوء الأمم، حيث يقول سعاده أنه " في الحياة سنن عامّة تجري على الأجسام الحيّة كلّه"[11]، هذا وإن كان لكل نوع وشكل خصائصه ونواميسه التي يستقل بها دون سواه من الأنواع والأشكال. والفلسفة المدرحية معنية باستخراج هذه النواميس من الحياة وبتأسيس قواعدٍ عامةٍ في النظام، تشكِّل في مجموعها علماً أساسياً شاملاً عاماً (Generic)، نسميه في فلسفتنا علم النظام.

يقول سعاده أن "النظام شيءٌ عميقٌ جداً في الحياة". ولغوياً نظم الشيء يعني ربطه وضمه[12]، أو جمعه ووحده! فقول سعاده إذاً يعني أنه إذا كانت الحياة عبارةً عن سلسلة لا متناهية من المركبات فالنظام في الحياة عبارةٌ عن سلسلة لا متناهية من العلاقات التفاعلية التي تجمع وتوحد فيما بين هذه المركبات. من هنا كان اهتمام الفلسفة المدرحية التي أيضاً يسميها سعاده بفلسفة التفاعل الموحد الجامع، بدرس العلاقات التفاعلية هذه واستخراج قواعدها وأنواعها وأشكالها، وأدوار الأطراف التي تشترك فيها، إلى ما هنالك. فنواميس التفاعل هذه نجدها في كل منحى من مناحي الحياة سواءً أاقتصاديا كان أم حقوقياً أو غيره، بل حتى في الدين والأدب، الخ.

وبدهي أن القواعد الفلسفية العامة هذه لن تغنينا عن المضي قدما في شتى فروع العلوم الاجتماعية من اقتصاد وسياسة وحقوق الخ، لكنها تقتضي منا بالضرورة إعادة النظر في هذه العلوم وإعادة تأسيسها على أساس النظرة المادية – الروحية. فالعلاقة بين إمكانية العلوم الاجتماعية لكشف الحقائق، والفلسفة التي تستند عليها وثيقة جداً، والعلوم الاجتماعية هذه التي ما زلنا نتلقفها من الغرب، مستندة كلها على فلسفات أحادية، أعلنت إفلاسها. فإذا كانت هكذا هي حال الفلسفة فكذلك هو حال العلوم التي تستند عليها. وهذا ما نشهده فعلاً في علم الاقتصاد ونظرية التنظيم على الأقل.

نهضة تنظيمية

على هذا الأساس نقول بأن النظام الجديد، ليس مجرد تراكم لمجموعة متنافرة من الأنظمة، لكن، وعلى اعتباره نظاماً شاملاً لحياة الأمة، هو مركب لكل النظم التي تتفاعل فيما بينها لتؤلف جميعها نظام حياة الأمة وحركتها في محيطها. وإن شئت فقل هو نظام اقتصادي، اجتماعي، سياسي مركَّب.

أما مجال عمله فهو ليس مجرد إجراء عملية تنظيمية نقوم باجتراحها هنا أو هناك، بل هو أشبه ما يكون بثورة تنظيمية تريد أن تنقض كل النظم البالية في الأمة، سواءً في المجتمع أو في الدولة، لتبني مكانها أنظمة جديدة، تشمل كل منحى من مناحي الحياة والتعاون الاجتماعي. وبدهي أن عملاً كهذا لا يتنكبه فرد واحد، بصرف النظر عما يكون ذاك الفرد، بل يحتاج إلى نهضة العقول القوية في المجتمع للتصدي له. لهذا، ولاستنهاض هذه العقول، وتزويدها بوسيلة من وسائل التعبير، أصدر سعاده مجلة ثقافية دورية تعنى مقالاتها الفلسفية والعلمية في كل منحى من مناحي نظرتنا إلى الحياة والكون والفن، اسماها "النظام الجديد"!

يقول سعاده: " إخترت إسم النظام الـجديد عنواناً لهذه الـمجلة لتحمل خطط التفكير الـجديد ـ التفكير القومي الاجتماعي ـ ومخططات النظام الـجديد الذي تسير الـحركة القومية الاجتماعية بالأمة نحوه، كما ترسمها مدرسة الفكر القومية الاجتماعية "[13].


المراجع

[1] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثامن، النظام الجديد، ص 268.

[2] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثامن، المحاضرة العاشرة، ص 223.

[3] نفس المصدر.

[4] نفس المصدر.

[5] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثامن، المحاضرة العاشرة، ص 230.

[6] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثالث، نشوء الأمم، الفصل الخامس، المجتمع وتطوره، تطور الثقافة العمرانية، ص 56.

[7] نفس المصدر.

[8] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثالث، نشوء الأمم، الفصل الخامس، المجتمع وتطوره، الثورة الصناعية، ص 66.

[9] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثامن، المحاضرة الثامنة، ص 190.

[10] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد السابع، جريدة "كل شيء" رقم 20 في 31 يوليو 1947، ص 295.

[11] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثالث، نشوء الأمم، الفصل الرابع، الاجتماع البشري، اجتماعيّة الإنسان وقدمها، ص 38؛

[12] راجع قاموس محيط المحيط.

[13] سعاده، المجموعة الكاملة، مؤسسة سعاده للثقافة، المجلد الثامن، النظام الجديد، ص 268.






 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024