شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1938-03-01
 

من خطاب الزعيم في أول آذار 1938

أنطون سعادة

"... إن الشعور الأول الذي تحكم في عقلية اختلاجات الحياة السورية الأولى كان: "وجوب التحرر من ربقة تركية كيفما كان الأمر". ولم يكن هنالك فكرة واضحة لتأسيس الحياة القومية ومصالح الشعب السوري، ولذاك اختلطت شؤون كثيرة سياسية واقتصادية ودينية وتداخلت بعضها ببعض وأصبحت التعابير كلها مترادفة، وكلها تعني التخلص من تركية. ولما كانت تركية تتسلط على أقطار عربية غير سورية ساعد وجود هذا العامل المشترك على دمج المسائل القومية بالمسائل اللاقومية والدينية وتولدت فكرة إجماع أمم العالم العربي المخضعة لتركية على القيام بحركة تحريرية مشتركة، كانت الدول الكبرى تنظر إليها بارتياح، وعرفت هذه الفكرة، تحت عوامل أكثرها ديني "بالقضية العربية" التي اشترك فيها العاملون من سورية ومصر وامتدت إلى بلاد العرب لتجد قوة دينية تتمركز فيها، لأن العاملين كانوا يجدون القوة الدينية، قوة السلالة النبوية والتعصب الديني، القوة الوحيدة الجديرة بإنجاح القضية، وبعض هؤلاء العاملين كانوا يعملون سراً للحصول على تأييد دولة كبيرة ومنهم من كان يسعى للحصول على حماية مثل هذه الدولة بعد التحرر من تركية.


في جميع ما كتب باللغتين العربية والتركية نجد "القضية العربية" حركة يقوم بها بعض المفكرين السوريين السياسيين ومن اشترك معهم من أمم العالم العربي بقصد التحرر من السيطرة التركية. وفي الحقيقة أن هذا التعبير لم يكن له معنى غير التعبير عن طلب الحرية الذي يشترك فيه عدد من أمم العالم العربي. ولكن انطلاق هذا التعبير في مجموع الأمة السورية، وهو لذلك العهد مجموع مضعضع المعنويات مختلطة عليه المذاهب السياسية والدينية والقومية والوطنية، فسح المجال لإيجاد أغراض متعددة لتعبير "القضية العربية". فكان هناك من تخيل "القضية العربية" حركة رجعية لإنشاء إمبراطورية عربية وإعادة عهد هارون الرشيد السيئ من الوجهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومن الناس من حسب القضية العربية رجعة إلى النظرة الدينية وشؤون الخلافة والإمامة. ومنهم من قام يبني منها مسألة "صلة أرحام". ومنهم من ذهب فيها مذهب القومية فعدها قضية قومية تلغي أمم العالم العربي وتجعل العالم العربي كله بمقام أمة واحدة، ومنهم من عد "القضية العربية" قضية حلف فأعاد إليها أقرب الأشكال إلى صفتها الأساسية.


يظهر مما تقدم أن الحركة التحريرية التي نشأت في سورية وأقطار عربية أخرى تحولت، تحت تأثير عوامل عديدة أهمها العوامل الدينية، إلى نوع من الفوضى في النظريات السياسية. وليس أدل على هذه الحركة التحريرية ومن محاولة تحويل هذه الحركة إلى قضية اختلط فيها الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد والحقوق. ويبدو هذا الاختلاط جلياً في "أدب" هذه القضية غير المعنية وغير الموضوعة على بساط البحث الآن. فالذين يتكلمون عن "القضية العربية" ويريدون بها قضية قومية كثيراً ما يتحدثون عن الأقطار العربية والأمم العربية ثم يعودون فيتكلمون عن "القومية العربية" خالطين بين القومية التي هي شعور كل أمة بنفسها وليست مشتركة بين عدد من الأمم، وبين عصبية دينية أو عرقية أو لغوية.


ظل أمر هذه القضية فوضى إلى أن جاء الحزب السوري القومي الاجتماعي بنظريته الجديدة العملية وأوجد قضية "إنشاء جبهة عربية" من أمم العالم العربي التي ترى في إيجاد هذه الجبهة مصلحة سياسية اقتصادية لها، فألزم الأشكال معانيها وفرق بين القضية القومية والقضايا السياسية وأحل هذه القضية المعينة محل لفظة "القضية العربية" المبهمة المطاطة. فإنشاء جبهة عربية هي دعوة الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى أمم العالم العربي، التي يهمها ألأمر، لتأليف جبهة على أساس المصالح المشتركة المعينة فيما بينها، فلا تفرض أمة من أمم العالم العربي وجهة نظرها على أمة أخرى ويتم تأليف الجبهة بتفاهم هذه الأمم بواسطة مؤتمر تمثل فيه، فلا يتفرد بعض الفئات في بعض هذه الأمم بتعيين "قضية عربية" من عند أنفسهم لم ينظروا من ورائها إلى مصلحة سوى مصلحتهم الخاصة.


لم تكن "القضية العربية" الظاهرة الوحيدة للإختلاطات السياسية والدينية في أمتنا في العهد السابق لظهور الحزب القومي، بل نشأت ظاهرة أخرى هي ظاهرة "القضية اللبنانية".


يرجع أصل هذه القضية إلى الحوادث الدينية المعروفة "بحركة الستين" وهي حوادث القتال بين المسيحيين والدروز، التي انتهت بتدخل الدول الكبرى ذات المصلحة في تفكيك السلطة العثمانية وبسط نفوذها على هذه الأرجاء ووضع نظام خاص لجبل لبنان يحصل بموجبه الأمان للمسيحيين المقيمين فيه الذين يؤلفون أكثريته. وقد عفا نظام لبنان اللبنانيين من واجبات الدفاع عن حقوقهم وعودهم الاتكال على الغير في إدارة شؤونهم، وبقاء هذا النظام نحو نصف قرن عوّد اللبنانيين الكسل وحبب إليهم حالة الاستكانة وجعل قسماً منهم يرى فيها المطلب الأعلى للحياة الاجتماعية والسياسية وولد عند الطائفة المسيحية الكبرى التي استفادت من نظام لبنان حب استبقاء الحالة اللبنانية وإيجاد "قضية لبنانية" على أساسها.


على أساس هذه الرغبة في إبقاء الحالة الراهنة وتوافق هذه الرغبة مع العوامل السياسية الأجنبية أنشئ لبنان الكبير ثم أعلنت الجمهورية اللبنانية، التي هي كيان يجد مبرراته في حوادث الإضطرابات الدينية في أواسط القرن الماضي وفي حالة الخنوع التي آل إليها اللبنانيون في ظل نظام لبنان السيئ الطالع.


هذه البلبلة الفكرية الروحية التي نرى مظاهرها في "القضية العربية" وفي "القضية اللبنانية" ساعدت على تجزئة سورية وتفكيك وحدة حياتها ووحدة مصالحها وتوليد صعوبات جمة في سبيل نشؤ قضيتها القومية التي جاء بها الحزب السوري القومي الاجتماعي.


إن الذين تبلبلت أفكارهم وعقولهم يظنون أن قضية الأمة تحقق من غير طريق الأمة، فالذين يرون بلوغ الأرب في قضية إسلامية يخمنون أن ستر القضية الدينية بستار من جامعة عربية يخفي دوافعها الباطنية عن المسيحيين في هذا الوطن ويقود الجميع في اتجاه واحد فهم لا يفهمون نفسية الجماعة وطبيعة العوامل الاجتماعية، ويجهلون كل الجهل إنه مهما تظاهر المسيحيون بأنهم مقتنعون بقضية "الجامعة العربية" فلن يألوا جهداً في الاعتصام بقضية تناقض هذه الجامعة الدينية. والذين يرون الفلاح في قضية مسيحية يتوهمون أن ستر هذه القضية الدينية بستار من شكل أرض يسمونه "استقلال لبنان" يخفي عن المسلمين دوافع هذه القضية الباطنة فتجوز عليهم الحيلة وينضوون تحت لواء هذه القضية. وهم أيضاً لا يفهمون نفسية الجماعة وطبيعة العوامل الاجتماعية ويجهلون كل الجهل أنه مهما تظاهر المسلمون بأنهم مقتنعون بقضية "استقلال لبنان" أو الانعزال في لبنان فلن يألوا جهداً في العمل لقضية تناقض هذا الاتجاه الديني والغباوة من الجانبين ترى الفريقين أنه يمكن التعويض عن الحقائق الاجتماعية وحاجات الجماعة بشيء قليل أو كثير من المنطق الكلامي.


على أساس هذه الغباوة نشأت الشركات السياسية لاستثمار النزعات المختلقة باسم "الوطنية". وقد عملت هذه الشركات طويلاً لغايات مبهمة من الوطنية بعيدة عن تنظيم الشعب وعقائده وعن إيجاد المؤسسات الصالحة للعمل القومي وعن وضع قواعد تربية اجتماعية سياسية جديرة بتوليد المعنويات القوية الكامنة في نفسية الأمة. فكان من جراء ذلك إقصاء الكفاءات السورية الجديدة، الآخذة في الظهور، عن الاشتراك في عمل منظم يعطي النتائج المرغوبة واتجاه الشركات المؤلفة نحو الاحتكار...


"... فالمسألة اللبنانية هي مسألة تتعلق بظروف بعض الجماعات الدينية، لا يمكن أن تصير قضية عقائدية لأنها مسألة ظرفية هي من آثار زمن العصبيات السياسية التي سميت "القضية العربية"، وتحويلها إلى قضية عقائدية هو نوع من محاولات العبث، لأنه إذا كان هنالك بعض المسائل الظرفية التي يشترك فيها عدد من أمم العالم العربي فالإرادة الناشئة عنها هي إرادة ظرفية أيضاً، ليست ثابتة ولا دائمة، لأنها ليست وليدة وحدة حياتية اجتماعية ووحدة مصالحها الدائمة. فمصلحة التعاون على تحرير الأقطار العربية ليست مصلحة قومية لأنها تنتهي بحصول الحرية وتزول لتترك المجال للمصالح القومية الخاصة الدائمة الناشئة عن وحدة الحياة الدائمة التي منها تتولد إرادات قومية خاصة دائمة والتي تتعين بنعيين المجتمع وتتميز بتميزه، كما تتميز بجموعها مصالح الزارع والصناع والتجار وأهل الفنون والأدب السوريين وحقوقهم ومطالبهم العليا عن مصالح الزراع والصناع والتجار وأهل الفنون والأدب المصريين وحقوقهم ومطالبهم العليا في مجموعها.


إن اشتراك أمم العالم العربي في طلب الحرية والاستقلال لا يولد وحدة قومية، بل يولد وحدة اتجاه سياسي تظل قائمة ما دام هناك حاجة إليها. فإذا تم التحرر السياسي عادت كل أمة من هذه الأمم إلى حاجاتها ومصالحها الناشئة عن وحدة حياتها. ونحن لا نريد أن قصيري النظر إلى حد أن تختلط علينا المصالح القومية والحاجات السياسية.


نحن لنا وحدة حياتنا في هذا الوطن الذي هو وطننا وتراثنا ولنا مصالحنا التي لا نخلط بينها وبين مصالح الوحدات الأخرى ولنا إرادتنا التي لا نقبل إرادة غيرها.


إن الذين يقولون عنا: إننا نريد غاية ما يريدونه هم وسيلة، هم مصيبون جداً في هذا القول. ولكن هذه الإصابة تزيد في قوتنا بدلاً أن تضعفنا؛ كما يتوهمون،لأنها تدل على أننا نرى مصلحة أمتنا وحقها في السيادة على نفسها ووطنها غاية جهادنا وعلى أنهم يريدون مصلحة أمتنا وحقها في الحياة والسيادة وسيلة لبلوغ مصالح أخرى غير هذه المصلحة. إنهم يرون مصالح السوريين وسيلة يخضعونها لمصالح أمم ودول أخرى يحلمون بتشييد إمبراطورية منها. أما نحن فنقول أن مصلحة شعبنا هي غايتنا. فنحن ننهض في سبيل مصالحنا وحقنا في الحياة والسيادة ونقول للأمم الأخرى أن تنهض هي بدورها في سبيل مصالحها وحقها في الحياة، فإذا فعلت فإننا ندعوها لتأليف جبهة تعاونية لبلوغ الأهداف لا تقضي على شخصيتنا ولا تجردنا من حقوقنا ومصالحنا القومية.


وإن تأسيس قضيتنا القومية في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، التي كنت حريصاً جداً على أن تكون معبرة عن حاجاتنا وإرادتنا، أنقذنا من حالة اليأس وبدل من حالة التخبط حالة الجلاء والعمل الجدي المنتظم في الحزب القومي. ونحن الآن جادون في هذا الطور العملي لوضع الأمة السورية كلها على طريق الفلاح...


"... وتمكنت في مدة قصيرة من حمل الحكومة على الاقتناع بأن الوحدة القومية التي نريدها هي شرط أساسي للوحدة السياسية التي صرح لنا كبار المسؤولين في الجمهورية اللبنانية أنهم لا يمانعون بها على هذا الأساس. وقد أكدت للحكومة اللبنانية أن غرضنا ليس هدم الكيان اللبناني، بل بناء سورية، وكانت الحكومة قد تعبت هي من هذه المشادة على غير طائل، فرأت الإفراج عنا على هذا الأساس، وهكذا استطعت أن أصل بالحزب إلى هذه الحالة السلمية التي تسمح لنا بتجديد معنوياتنا ومتابعة أعمالنا الإنشائية التعميرية.


بيد أنه يجب أن لا يساء فهم غرضنا من ترك الكيان السياسي اللبناني، فنحن أمة واحدة وسواء كنا دولة واحدة أم عدة دول. وكل من يعتدي على قسم منا فقد اعتدى علينا جميعاً.



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه