إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الوطنية التي لا وطن لها

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1942-12-01

إقرأ ايضاً


يعتقد البعض أن الاكثار من ذكر المفاسد الروحية التي انتابت شعبنا في الوطن والمغترب، أمر ضار. ونحن نرى أن فتح الأعين على مبلغ انتشار الفساد النفسي الهائل ضرورة أولية. فالناس لا يتحولون عن الفساد إلا بعد ادراك ضرر الفساد. ثم أن هناك أمور واقعة لا بد من التعليق عليها لإعطائها المحل اللائق بها في ذهن المجموع ومعارك سياسية وفكرية يجب خوضها لانقاذ العامة من براثن البلبلة والفوضى.


اطلعنا في عدد جريدة "اوجرنال" الصادر في ريو دي جانيرو في الثامن عشر من نوفمبر الماضي على وصف حفلة تقديم النزالة السورية في تلك المدينة طيارة لمطارات التمرين البرازيلية أطلق عليها اسم "19 ابريل" الذي هو تاريخ مولد رئيس جمهورية تلك البلاد التي تضم مجموعاً سورياً كبيراً، وعلى الخطب التي ألقاها السيد رزق الله حداد، أحد كبار تجار السوريين في ريو دي جانيرو ووجهائهم، والسيد أزولدو أرنيا، وزير خارجية البرازيل والقاضي الأرجنتيني رامون باسكس، فوقفنا على حلقة أخرى من سلسلة مظاهرنا الاجتماعية – الروحية، اللاقومية، في المغترب التي فيها قليل مما يفرح وكثير مما يؤسف ويحزن. القليل المفرح هو التقارب الضعيف بين جماعاتنا المغتربة وشعوب الأقطار النازلة فيها، والكثير المؤسف هو الاكثار في تحقير الشخصية والنفسية السوريتين في المظاهر الرسمية التي يحصل فيها احتكاك نفسي أو روحي بين السوريين والجماعات التي أسست قوميتها في الأقطار الأميركية.


لسنا ندري إذا كان هنالك قرابة دموية بين السيد رزق الله حداد، نزيل ريو دي جانيرو، والسيد عبد المسيح حداد، نزيل نيويورك، ولكن القرابة الروحية بينهما أو العقلية، واضحة. هي قرابة النفسية القديمة، المشوشة، المضعضعة، التي ربيَ عليها أبناء العهد القديم الآخذ في الزوال الذين لا يضير النهضة السورية القومية الاجتماعية ان لا يكون لها رجاء حتى ولا بواحد منهم، اذا لم يكن هنالك واحد صالح لوضع رجاء به. ان رجاء النهضة القومية الاجتماعية هو في الأمة والأمة ليست فئة القيادة القديمة ذات النفسية الانحلالية ولا هي الجيل الحاضر كله وحده. الأمة هي الأجيال المتعاقبة بخصائص شخصية واحدة وميراث نفسي أصلي. فاذا كانت فئة القيادة القديمة في الجيل الحاضر فاسدة كلها فاظهار الفساد لا يقلل الأمل بنهضة الأمة، بل يزيده، لأنه يعني ادراك الحالة كما هي تماماً، وهذا الادراك يسهل المعالجة ويفتح الطريق في الأوساط الشعبية لقبول تعاليم العهد الجديد بلا تردد. واذا كان في المغترب بقية من الجيل السوري الحاضر يرجى حلول الأمل فيها محل اليأس فأول علاج لأنقاذها يكون بإيقاف هذا التيار الانحلالي الجارف الذي يجر الشعب في الوطن الى التسليم للارادات الأجنبية ولكل حال واقعة، ويدفع المغتربين في المهاجر الى انكار قوميتهم وخيانة واجباتهم الروحية والمادية نحوها، والاضمحلال السريع، بلا اثر خاص، في الأقوام النازلين في أوطانها. وكيف يمكن ايقاف هذا التيار المهلك من غير تعيين مصادره وعوامله ووصف طبيعته وحالاته وشرح أضراره الكلية والجزئية؟ وكيف يمكن تحويل الناس الى اتجاه جديد وهم لا يزالون يصغون الى آراء فئة التفكير الجامد العقيم؟


قلنا أن هنالك قرابة عقلية واضحة بين السيد رزق الله حداد، الخطيب الذي تكلم في الحفلة المذكورة آنفاً باسم المجموع السوري في ريو دي جانيرو، والسيد عبد المسيح حداد أحد القائلين بالوطنيْن، او اللعب على الحبلين، وشريك ايليا ابي ماضي في دعوة المغتربين الى خيانة الواجبات الروحية والمادية نحو الأمة التي عدوا من أفرادها وأخذوا نصيبهم من مزاياها، والوطن الذي ربوا فيه هم وآباؤهم وأجدادهم وفيه كنوز ثروة أمتهم النفسية. وتتلخص القرابة المشار اليها في اشتراك السيدين المذكورين في قاعدة حسبان السوريين دون مرتبة الحيوانات وجعلهم في معرض النباتات.


في عدد "السائح" الصادر في 9 مارس 1942 قال السيد عبد المسيح حداد "الشجرة التي تقلع من أرضها وتزرع في أرض غيرها لا تعترف الا بالأرض التي تحيا فيها وقد مر على شجرة هذا المهجر وغيره عشرات السنين فثبتت أصولها في تربة المهجر ونمت وأينعت وتفرعت. وعندنا أنه حان لها أن لا تعرف الا بالأرض التي فيها ترعرعت وأخذت شأنها في الحياة وأثمرت وبالأمة التي بها اندغمت فتنعمت باندغامها وتسامت وافتخرت"!


وفي الخطاب الذي ألقاه السيد رزق الله حداد في ريو دي جانيرو يإسم السوريين النازلين في تلك المدينة قال "ان المئة وخمسين ألف سوري (أو شامي ولبناني كما في الخطاب) الموجودين في البرازيل (لا ندري كم في هذا العدد من النقص أو الزيادة) هم بمقام مئة وخمسين ألف فسيلة انسانية أعيد زرعها نهائياً موزعة في جميع أنحاء البرازيل ... وهذه الفسائل الانسانية قد مدت جذورها وأعطت ثمارها. انها لم تعد تخص سورية (الشام) أو لبنان اذ هي الآن من البرازيل وللبرازيل".


اذا كان الأمر كما قال السيد رزق الله حداد، وهو ليس كما قال – انه لا يوجد سوريون، بل فسائل انسانية مزروعة في البرازيل فلماذا كل هذا الخداع للسوريين وللعالم بالقول. اما كان الأفضل ان يقول السيد حداد – ان الفسائل البرازيلية قد هدت الى الحكومة البرازيلية طيارة للتمرين من ريع ثمرها!


الا يشعر السيد رزق الله حداد بندى جبينه من الحياء حين يتأمل موقفه ويدرك أنه لم يكن ممثلاً للسوريين الذين أرادوا، بقلوب سورية، شريفة حية أن يظهروا للشعب البرازيلي أنهم في هذا الوقت الصعب، كما في أوقات الرخاء لا يتخلون عن صداقته ولا يتمنون الا تقدمه وفلاحه، وانه لم يكن ممثلاً لمجموع من الناس لهم نفسية وشخصية بل لأغراس ليس لها غير خصائص النبات فلا فكر ولا شعور ولا وعي ولا مقاصد ولا رغبات ولا عقائد ولا روابط نفسية قومية أو وطنية؟


نعتقد أن السيد رزق الله حداد يشعر معنا بالخجل من هذا الدرك الذي أنزلنا اليه في خطابه من غير تعمد. فما بلغنا عن السيد حداد في الماضي دل على رجل يحب خير مواطنيه وعلوهم. ولكنه ذهب ضحية العقلية العتيقة وطرق تفكيرها. وخدعه الأدب الزائف فجره الى مهاوي فساد الرأي. ووثق بأدباء الذل والمحاق فأقتبس تعابيرهم الشائنة التي يود الكريم العزيز لو يصاب بالعمى والصمم قبل أن يقرأها ويسمعها ويرى نتائجها القبيحة.


كلا، أيها المواطنون، ليس السوريون جثيث نخل أو فسائله أو أغراس كرم أو تين. ولا ربرب بقر أو رعال خيل أو غير ذلك. ولا تسودوا وجوهنا حيث يجب أن تبيض، ولا تعودوا شعبكم الذل لتشتموه في قلوبكم، انما السوريون شعب كريم له شخصية وله نفسية وله قومية وله وطنية.


......


يتبع



مقالة في نيويورك و خطاب في ريو دي جانيرو.الزوبعة: نوفمبر - ديسمبر 1942


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024