إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

نسر الزعامة السورية القومية ووحل تكمان وذبابها < الباب الثاني جزء 3>

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1945-03-26

إقرأ ايضاً


لا متسع لنا من الوقت لمراجعة جميع ما كتبه جبران مسوح وتعيين كل فكر وكل قول من الأفكار والأقوال التي هي للزعيم او لغيره واستعملها من غير أن يشير إلى صاحبها ولكننا نضرب أمثلة تكفي للدلالة على غيرها:

كان الزعيم أول من أشار إلى فساد مبدأ الوطنـَيْن، وهو مبد تمسك به عدد من الصحافيين والأدباء السوريين المهاجرين لأنهم وجدوا مبرراً لانفلاتهم من قضية أمتهم ووطنهم الحقيقيين وتخليهم عن المواقف الجهادية التي لا وطنية ولا قومية بدونها، وعلّم الزعيم انه لا يمكن أن يكون للانسان إلا وطن واحد يشغل قلبه وقومية واحدة تملأ نفسيته. وألقى على جبران مسوح من الدروس والشروح في هذا المعنى شيئاً كثيراً. فكتب جبران مسوح مقالات في انتقاد فكرة "الوطنين" وأصحابها كأن الفكر له. ويتراجع عندنا انه سبق الزعيم الى الكتابة في هذا الموضوع ولكنه أغفل شروط أمانة التلمذة التي توجب اسناد التعليم الى المعلم فلم يقل "كنت عند الزعيم يوماً وكان يقرأ بعض أعداد جريدة "السمير" وغيرها ويستاء جداً مما يقرأ؟ فالتفت إليَّ وقال: ما أسوأ هذه الكتابة القاتلة للروح القومية والشعور الوطني وما أشد ما تحمل من الاثم بانزالها معنى الوطنية الى حضيض فكرة السكنى. وما أغرب أمر هؤلاء الكتاب الذين يطالبون الشعب بنهضة قومية وأعمال وطنية بينما هو يعلمونه أن الانسان يقدر ان يجد وطناً آخر يستعيض به عن وطنه وقومية اخرى ينتسب اليها ويتسغني بها عن قوميته! ما أشد خطأهم! ان الوطن الحقيقي يقدر ان يرى جمال وطن مضيفه وخيره ولكنه لا يقدر أن يجعله في مقام وطنه وأن يساوي بين الوطنين في المنزلة في قلبه وفي المعنى الوجودي والارتباط المعنوي والفيزيائي. ولا يقدر القومي الحقيقي عن قبول مبدأ القوميتين الذي يجيز له الانشغال بالثانية عن الأولى مرة وبالاولى عن الثانية مرة أخرى" كلا. كلا لم يقل جبران مسوح شيئاً من ذلك بل أخذ يحمل على دعاة فكرة الوطنين كأن ذلك كل واجبه.

ليس تعليم الزعيم بفساد مبدأ الوطنين والقوميتين للانسان الواحد أمراً شكلياً يختص بظاهر الأمور، بل من التعاليم القومية الأساسية ولذلك يجب على التلامذة اثباته في صلب تعاليم الزعيم التي لم يتمكن من تدوينها بنفسه. أما جبران مسوح، الذي اعترف للزعيم على حدة انه كان يجد أفكار استعمال أفكار الآخرين بلباقة تخفي المصدر الحقيقي فناً عالياً في الأدب، لم يكن يرى شيئاً أهم من مقاتلة من كان هو في صفوفهم بسلاح الفكر القومي المنبثق في دماغ سعاده، فتختلط كتاباته بكتابات الزعيم ويجاري قلمه قلمه ويسير "فكره" هو الى جنب فكر الزعيم فيظهر أمام الناس ليس بمظهر من يأخذ أفكار الزعيم التي كان يعلنها صحباته بل بمظهر من رقى الزعيم تفكيره فصار يستنبط من تلقاء نفسه تعاليم ومعاني هي في منزلة تعاليم الزعيم ومعانيه. وهذه هي الروحية اللاقومية الممقوتة عينها التي تفتك بمعنويات الأمة وتلغي القيم الحقيقية التي يجب ان تتمسك بها نفوس الشعب الحي.

وقبل ان يصل الزعيم الى الموقف الفاصل مع جبران مسوح كان يوم أحد في المحل التجاري ينظر في بعض الأمور. وبعد الفراغ من المسائل التجارية سأله جبران مسوح رأيه في بعض القضايا الانترنسيونية ومرامي المانية وغيرها فأجابه الزعيم، على عادته، وأخذ يشرح له وجوه المسائل السياسية الانترنسيونية ويحلل موقف بعض الأمم البارزة في هذه الحري فأظهر نظرة الالمان في قضايا العالم من وجهة نظر المانية ونظرة الانقليز في هذه القضايا من وجهة نظر انقلترا وتظرق الى تحليل نفسية الانقليز وأساليب عملهم بنظرتهم والأمور التي يرمون اليها وهي مستترة بستار تقواهم. فأخذ جبران مسوح أفكار الزعيم ونسج بها مقالته الأخيرة التي نشرتها له "الزوبعة" التي عنوانها "صلاة انقليزي". ولما اكملها عرضها في صباح اليوم التالي على الزعيم ليمرّ عليها نظرة قائلاً: "ان التفكير في هذه المقالة كله لمعاليكم فليس لي فيها الا الأسلوب" فمدح الزعيم اسلوبه الحسن في اظهار الفكرة وأشار بارسال المقالة الى "الزوبعة" وقد ظن جبران مسوح، على جارى عادته، انه قد نجح هذه المرة أيضاً بستر غايته، باعلان الحقيقة حيث لا يجب اعلانها واخفائها حيث يجب اظهارها!

ان الزعيم يقدر ان يعرف افكاره من غير ان يقدمها اليه مقدم معرّف. أما الذين لا يقدرون على معرفة ذلك دائماً فهم عامة الناس غير المطلعين. هؤلاء يجب أن تقال لهم الحقيقة كلها كما هي تماماً لا نصفها ولا ثلاثة أرباعها. ولكن المصلحة الخاصة لم تكن ترى وجوباً لذلك!

حوالي الوقت الذي كتب فيه جبران مسوح مقالته "صلاة انقليزي" مر بالمحل التجاري الرفيق عباس زمعه احد الأعضاء غير المحمودي السيرة القومية اسمه ادوار نمر، فشاهدا الزعيم في الشارع فحيياه ثم عطفا ودخلا المحل ليسلما عليه. فبدأ ادوار نمر بتحية سورية ومد يده ليصافح الزعيم من غير أن يتروى في ما يصح ان يفعله او لا يصح بعدما ظهر من تخاذله ومن تصرفاته الأخرى غير اللائقة بالقومي. فاستنكر الزعيم مدّه يده بكل جرأة ولم يمد يده بل قال له "ماذا تقصد بقولك لي تحيا سورية؟ ولماذا لا تقول تحيا الفوضى ويحيا الخلط؟" فاندهش ذاك الشخص من صراحة الزعيم وارتبك وسأل عما أتاه متجاهلاً او غافلاً فأظهر له الزعيم عدم انطباق أعماله على الروحية القومية والواجب المناقبي والنظامي. فلم يكن من ذاك الرجل إلا ان أخذ يبرر موقفه بحجج وأعذار متنوعة. فسأله الزعيم هل يرى موقفه الأخير جيداً وأعماله صالحة فأجاب بالايجاب. حينئذ خاطبه الزعيم قائلاً: "إذا كنت أنت تعين صلاحك بنفسك فما حاجتك إليَّ وإلى الحزب السوري القومي؟ ان هذا الحزب هو حزب من يطلبون من يطلبون الهداية والاصلاح فشأنك هو غير شأننا فدعنا وشأننا وسر في طريقك فهي غير طريقنا. إن طريقينا مختلفان فاذا طانت طريقك إلى السماء فطريقنا إلى جهنم وإذا كانت طريقنا إلى السمماء فطريقك إلى جهنم. وكان جبران مسوح واقفاً يسمع فقال لنمر "أن كلام الزعيم هو الحق ونحن كلنا كنا لئاما في حادث الكردي" ولكن التصرف الأشد لؤماً هو أن يأخذ جبران مسوح عبارة الزعيم بعينها ويختم بها دفاعه الأثيم موجهاً اياها إلى الزعيم نفسه كأنه هو صاحب هذا القول الذي تتمثل فيه عزيمة الزعيم النافذة وليس عزيمة جبران المطاوعة. فالزعيم هو الذي أطلق جبران مسوح فانطلق وليس جبران مسوح هو الذي أطلق الزعيم. وجبران مسوح نفسه يشهد بذلك في دفاعه كما يشهد الذين حضروا طرد الزعيم اياه من حضرته. فالعبارة ليست له بل للزعيم، ولكنه انتهز فرصة عدم نشرها فأسرع الى اعلانها كما لو كانت له ولم يكن له حياء او خجل يردعه عن انتحالها!

هذه كانت دائماً طريقة جبران مسوح في "اكتساب الفكر". وفي بادىء امر استعماله المعاني والتعابير القومية الاجتاعية كان ينتحل الفكر انتحالاً من غير اشارة على الاطلاق إلى مصدره، إلى أن أخذ الزعيم يضع له الملاحظات على مقالاته ويوجب الاشارة إلى مصدر بعض الفكر، فحينئذ رأى مسوح أنه لا مناص من الاعتراف ببعض الحقيقة فجعل يشير تلك الاشارات الاجمالية، التعميمية التي كانت شيئاً وسطاً بين اظهار مصدر الفكر وانتحاله.

....

للبحث صلة


الزوبعة، العدد 84 في 26 آذار 1945


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024