شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1938-03-01
 

خطاب أول آذار 1938 الجزء التاسع

أنطون سعادة

إن موقفي في دائرة الأمن العام وعند قاضي التحقيق الفرنسي كان مشجعاً لرفقائي ولكن بعد الليلة الأولى في السجن عاد إليهم الشك والتفكير في المصير المبهم فأخذوا ينحون علي باللائمة ويعدون اتساع نطاق الحزب من الأغلاط، التي أؤاخذ عليها، وإني لو أصغيت لرأي بعضهم وعملت به لما كان الحزب بلغ هذا الاتساع ولما كان انكشف أمره ولما كنا دخلنا السجن، فلما تضايقت من هذا الملام حملت وسادة وانتحيت ناحية وقعدت لوحدي فشعر رئيس مجلس العمد بالغلط الذي ارتكبوه وجاء إلي واعتذر عن الضعف الذي أظهروه، وبعد أيام جاءت الأخبار عن تنبه الرأي العام وتقديره موقف الحزب فانتعشت الآمال داخل السجن وقويت المعنويات خارجه بما ظهر من عطف في الرأي العام، ومع ما ظهر على معاوني الأول والرفقاء الذين سجنوا معهم من ضعف أولي فلابد لي من التصريح بأن فترة الضعف كانت قصيرة وإنهم تحملوا الصدمة هم وعيالهم وأهلهم على أفضل ما أمكن.

بالموقف الذي وقفناه بين دخول السجن والخروج من المحكمة انتصرت روحية الحزب السوري القومي على عوامل الزمن العتيق وروحية العديمة الفضائل والمناقب.

بعد المحاكمة وصدور الحكم بالسجن ستة أشهر انصرفت إلى تأليف كتابي "نشوء الأمم" فأكملته في نحو ثلاثة أشهر بينما كنت أتتبع، ما أمكن أعمال الحزب وحالة البلاد.

مما لا مشاحة فيه أن ظهور الحزب السوري القومي بهذا المظهر الجريء السامي أطلق في جسم الأمة تياراً فكرياً قوياً وثورة خواطر لم يسبق لها مثيل في القرون المتأخرة. وكان من البديهي أن تنكسف أمام أنوار النهضة القومية الأنوار الضئيلة التي ظلت مدة من الزمن الأنوار الوحيدة في البلاد، ولكن اصحاب هذه الأنوار الضئيلة غاروا غيرة كبيرة من الحزب ورأوا أن يقوموا بعمل يحول اتجاه الأنظار إليهم بعدما أخذت تتجه إلى الحزب السوري القومي فحركوا الجماعات في الداخل وحملوها على الهياج وإقفال المدن والمطالبة بعقد معاهدة تحل محل الانتداب، ولكنهم لما تيقنوا من الخطر الذي أحدق بهم حين تدخل الجيش الفرنسي في الأمر أصدروا بياناً إلى الشعب يدعونه فيه إلى العودة إلى مجرى حياته العادية وترك الأمر لهم ليعالجوه بطرقهم السياسية ولكن الطلاب أبواً الاذعان لهذا البيان وكان بينهم عدد من أعضاء الحزب السوري القومي فأظهروا خرق رأي البيان ونادوا بالاستمرار في الإضراب إلى أن تحقق المطاليب، وخرج الطلاب يطوفون أحياء دمشق ويعيدون إغلاق ما فتح من مخازنها، إلى أن تقرر فتح المفاوضات التي انتهت بعقدة المعاهدة.

الحقيقة أن عقد المعاهدة لم يكن إلا استثماراً للتنبه الذي أحدثه ظهور الحزب السوري القومي، ولذلك جاءت معاهدة خالية من الشروط القومية الأساسية واقتصرت على بعض المطاليب، التي لا تعبر عن إرادة الأمة بل عن وجهة نظر رجال "الكتلة الوطنية" غير المنظمين وغير واضحي الأهداف القومية المنشئين سياستهم على الاعتباط والمناسبات.

وليس أظهر لسياسة "الكتلويين" الاعتباطية من حملة رجالهم على الحزب السوري القومي قبل درس مبادئه وأهدافه وسياسته ومن ابائهم الاتصال به والاعتراف به وبجدارته لمعالجة القضية القومية والمسائل السياسية والتضامن معهم فهم غاروا غيرة شديدة على كبريائهم من أن يمسها تفوق الحزب السوري القومي بنظرته القومية الجلية ونظامه البديع ونهضته الرائعة. ولم يريدوا أن يكتفوا بالمقدار الذي تمكنوا من إعطائه، إذ ليس ذلك من صفات الشركات السياسية بل أرادوا أن يدعوا كل شيء لأنفسهم وأن ينكروا على غيرهم مؤهلاتهم وابتكارهم، فبدلاً من أن يفتحوا الباب للتقارب بينهم وبيننا والتفاهم على خوض المعركة معاً، والمعركة تلك كانت تحتاج لوجودنا والاستعانة بنظرياتنا ونظامنا، تجاهلونا وتجاهلوا الحدث العظيم الذي قمنا به والثورة التي ولدناها وأهملوا الإمكانيات التي أوجدتها نهضتنا واقتصروا في مفاوضات سنة 1936 على المطاليب عينها التي قدموها سنة 1928 بل على أقل منها.

مع كل ذلك ومع أنهم بادأونا بهجوم اعتباطي فقد قررت التعاون معهم على الرغم منهم في سبيل المصلحة القومية وأصدرت تعليماتي في هذا الصدد من السجن وبناء عليها توجه من عينته نائباً إدارياً للزعيم وأخذ بصحبته أحد المفوضين إلى دمشق وعرف هذا الوفد بوفد صلاح لبكي ومأمون إياس، الذي قدم للوفد المفاوض مذكرة اقتصادية باسم الحزب، ثم عدت فأرسلت تعليمات من السجن بوجوب إرسال مذكرة باسم الحزب السوري القومي إلى الوفد الذاهب إلى باريس توصي هذا الوفد بوضع تحفظات في المعاهدة من أجل العقيدة القومية في لبنان وترك الباب مفتوحاً لاتصاله بالشام في المستقبل، وقد جاءني من إدارة الحزب جواب رسمي بأن مذكرة بهذا المعنى سلمت إلى الوفد في رياق قبل مسير القطار بدقائق قليلة، ثم أرسلت تعليمات جديدة في 25 شباط 1936 بوجوب وضع مذكرة باسم الحزب السوري القومي تعلن وجهة نظر الحزب في المسألة المعروضة للبحث في باريس، وقد كانت دهشتي عظيمة عندما قرأت في الجرائد أن الأستاذ صلاح لبكي، الذي كان آنئذ نائباً للزعيم، قدم باسمه الشخصي مذكرة إلى الجمعية الأممية عرفت "بعريضة الأستاذ لبكي" وقد علقت على هذه "العريضة" في كتاب أرسلته من السجن في 8 آذار سنة 1936 بهذه العبارة: "إن الحزب يجب ألا يظهر بأنه يقتصر على تمثيل لبنان وتمثيل إرادة لبنانية، بل يجب أن يمثل دائماً آمال الأمة السورية جمعاء" ولم أعلق آنئذ شيئاً على المظهر الشخصي الفردي الذي ظهرت به هذه "العريضة" التي أردتها أن تكون رسمية أولها، على الأقل، صفة الجماعة.

....

يتبع




 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه