إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

فوضى الديموقراطيّة الطائفيّة

علاء اللامي-الاخبار

نسخة للطباعة 2010-01-01

تتوالى الأمثلة، أحداثاً ومواقف وقرارات، الآتية من قلب الحياة اليومية العراقية، لتؤكد مقدار الفوضى والتحلل الذي تنتجه طريقة الحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، التي تأخذ بها وتعتمدها مجموعة أحزاب الائتلاف الطائفي والعرقي الحاكمة والمتحالفة مع الاحتلال الأجنبي. فالطريقة تلك التي يحاول أنصارها ـ دون كبير جدوى ـ التدليل على أنها من النمط الديموقراطي والتعددي المتقدم، هي وباعتراف القائمين عليها أنفسهم، تقوم على أكثر الركائز السياسية والدستورية تخلفاً ورجعية، وتتمثل في آليات وطرائق حكم المحاصصة الطائفية والعرقية والحزبية، ومنظومة القيم والأساليب البالية التي تصاحبها.

وبما أن هذا الحكم، في واقع الأمر، ليس إلا تحالفاً هشاً ونفعياً بين مجموعة أحزاب دينية طائفية سنية وشيعية، إضافة إلى مجموعة أحزاب كردية قومية، فهو سيكون بالنتيجة حكماً ضاجّاً بالأضاليل والتزويرات والتجاوزات التي لا حصر لها من حيث العدد، والمتنوعة من حيث الشكل، لكنها من ناحية المضمون والكيفية السلبية فاقت كل التوقعات والأمثلة المعروفة في تجارب الحكومات المرتبطة بالاحتلال الأجنبي.

ومع أن هذا المسخ السياسي والاقتصادي المركّب أوجد مَن يتمرّد عليه ويرفضه ويدعو إلى استبداله حتى من داخله وفي نواته القيادية الصلبة، كالمالكي مثلاً، إلا إنه يُظهر في كل يوم قدرته على الحركة والتجدد والاتساع ليشمل مجالات أخرى ظلت بعيدة عن شروره حتى الآن. بل هو قدم في الآونة الأخيرة أمثلة عن الفساد والرجعية الاجتماعية تكاد تمثّل ذروة عالية في مجالها. ومن هذه الأمثلة التي تناقلتها وسائل الإعلام أخيراً، في خضم صراعات ومنافسات ما قبل انطلاق الحملة الانتخابية التشريعية نتوقف عند مثالين. الأول، هو تراجع المجلس المحلي لمحافظة البصرة عن قرار سابق بمنع بيع الخمور وكل أنواع المشروبات الروحية. وقرار التراجع ليس بحدّ ذاته بيت القصيد، بل هو التبرير الذي سيق لاتخاذه.

فقد قيل إن قرار المنع صدر أثناء «وجود رئيس المجلس في الخارج، لكن بعد عودته من السفر أعاد الجلسة والتصويت على القرار، فحصلت الموافقة على إلغاء القرار لأنه يتعارض مع مادة في الدستور تعنى بكفالة الحريات والحقوق المدنية لجميع المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الديني والاجتماعي، إضافة إلى أن منع الخمور قد يؤدي بالبعض للتوجه إلى المخدرات». وحتى الآن يمكن إمرار الحادثة، على ما فيها من غرابة وتناقض، ومع أنها تشير بوضوح إلى نوع من السلوك لا علاقة له بالديموقراطية ومشتقاتها، بل بتحيُّن الفرص ونصب الكمائن والمؤامرات واستغلال الغياب الشرعي، وغير ذلك من تصرفات تجيدها عصابات الفساد والسرقة، لا المنظومات الحاكمة.

لكن نائب الرئيس، الذي قاد عملية إصدار قرار المنع في غياب رئيسه، يمعن في سلوكه بما يؤكد أن فوضى «الديموقراطية الطائفية» بلغت درجة التهريج السياسي حقاً. فهو أعلن أن «بيع الخمور يتعارض مع ما جاء به الدستور العراقي من أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للبلاد، وأن القرآن هو أساس التشريع». وأضاف: «ما زلنا نعارض بيع الخمور في الشوارع والأحياء في محافظة البصرة». ومعنى هذا الكلام هو أن لكل مسؤول تفسيره الخاص للدستور، ولكل مسؤول حريته في اتخاذ قرار يخص حياة الناس اليومية، ليأتي بعده مسؤول آخر ويبطل قراره ويستبدله بقرار آخر معاكس.

فوضى القرارات وتضاربها والتدخل الفظّ في حياة الناس على الطريقة الشمولية، لا تتوقف عند حدود محافظة البصرة. ففي محافظة واسط المحاذية لجنوب العاصمة بغداد، اتخذ مجلس المحافظة قراراً مفاجئاً لا سابق له في العراق، بل وفي دول العالم الإسلامي قاطبة، بما في ذلك إمارة طالبان السابقة في أفغانستان. يقضي هذا القرار، الذي صوت عليه أعضاء المجلس المحلي للمحافظة بالإجماع، رجالاً ونساءً، بتعيين عدد من الرجال بوظيفة «محرم» يصاحب قريبته العضو في مجلس المحافظة في حلّها وترحالها. والمحرم صفة دينية تُطلَق على من تحرم عليه المرأة كالأب والابن والأخ من نسب أو رضاعة، إضافة إلى الزوج، وهو أيضاً مَن يحلّ للمرأة أن لا تتحجب أمامه.

وقد صوّت جميع أعضاء المجلس البالغ عددهم 28 عضواً لمصلحة هذا القرار الذي جاء باقتراح وطلب من العضوات النساء في الأحزاب الإسلامية «الشيعية»، وهي المجلس الأعلى والدعوة بجناحيه والتيار الصدري، إضافة إلى امرأتين من قائمة علاوي «العلمانية»، وأخرى من حزب وزير الداخلية «الدستوري» الذي يصفه مؤيدوه بالليبرالي. وعرضاً نهمس بآذان «العلمانيات والعلمانيين» في محافظة واسط ممن دافعوا وصوتوا لهذا القرار المتخلف أن الجهات الرسمية في المملكة السعودية، رغم تشددها في هذا الميدان، قررت بتاريخ 1/4/2008 إلغاء وجوب حضور المحرم مع المرأة التي ترتاد المكتبات العامة وبررت قرارها بأن المكتبات العامة أماكن مفتوحة لجميع المواطنين.

إن قرار تعيين «مَحْرمين» لنساء في مناصب حكومية أو تشريعية يعني أولاً إهانة للمرأة بوصفها أنثى ضعيفة وعاجزة ومستهدفة وصفات أخرى يكررها التكفيريون ونربأ عن ذكرها، وثانياً هو استغلال صريح للمنصب وتعيين الأقارب لأسباب لا علاقة لها بالسياق الحكومي الذي تعمل به المرأة وبرواتب من المال العام، مع أنهم يقدمون خدمة شخصية لمواطنات عاديات، كذلك فإنه يعني ثالثاً، ضمن ما يعني، أن المجتمع عموماً، والذكور فيه خصوصاً، لا يثقون بالمرأة، ولا هي تثق به وبهم، وأن الدولة تريد من طريق قرارات كهذه ترسيخ أجواء انعدام الثقة.

وهكذا نجد أن الديموقراطية الطائفية التي جاء بها الاحتلال ليست إلا فضيحة عريضة بين حدَّين: الأول شكلي ومتطرف في رمزيته، حيث يأمر المتنفذون وصنّاع التجربة مثلاً بأن يكون للنساء «كوتا» تمثل ربع وحتى ثلث عدد المقاعد في البرلمان والمجالس المحلية، الأمر الذي يتعذر وجوده حالياً في أعرق الديموقراطيات الغربية كفرنسا وبريطانيا، والحد الآخر يمثله تعيين محرمين لهن على حساب الدولة والمجتمع.

المثير للاستهجان وللتساؤل معاً هو مسارعة السيدات اللواتي ينتسبن إلى أحزاب تسمي نفسها علمانية وليبرالية إلى الموافقة على هذه المهزلة والتصويت لمصلحة القرار، بل والمطالبة بأن يكون لهنَّ هنَّ أيضاً محرمان خاصان بهنَّ! لم لا؟ أليس الجميع متساوين ومتساويات في نيل ثمار «الديموقراطية الطائفية» المتخلفة؟



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024