إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

سلامة سورية من سلامة عقلها وسلامة عقلها من سلامة كيانها

يوسف المسمار

نسخة للطباعة 2012-08-07

إقرأ ايضاً


قيل قديماً : " العقل السليم في الجسم السليم " . وأضيف على هذا القول لاستقامة المبتغى وتحقيق المنعة والمناعة للانسان الذي لا يمكن أن يكون جسماً بلا عقل ولا عقلاً بلا جسم ، بل أكثر من ذلك أرى أن العقل بلا جسم هو وهم ، وأن الجسم بلا عقل ليس أكثر من هباء،فأقول: لا يمكن المحافظة على الجسم السليم الا بالعقل السليم. وحتى لا نضيع في فوضى الألفاظ وتشوش الكلمات لا بد لنا من توضيح كل كلمة ننطق بها وكل عبارة نعتمدها لأن التعيين كما يقول المعلم أنطون سعاده : " التعييّن هو شرط الوضوح . والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات المدركة الواعية الفاهمة . كل مطلق ليس واضحاً هو نسبي مهما قيل أنه مطلق غير نسبي"لذلك،عندما نقول في هذا المقام كلمة "جسم" أو كلمة "عقل" أو كلمة "سلامة " ، ينبغي أن نعيّن ونوضح أي جسم نعني وأي عقل وأي سلامة . فاذا لم نحدد ونعيّن المقصود دخلنا في بحر مبهم المطلق الذي يعرضنا لتقاذف أمواجه ويلقينا في عالم من الشبهات والارتيابات والظلمات. وبما أنه لا وجود لعقل في الوجود الذي نعرفه الا للانسان ، فان المقصود هو عقل الانسان . والمقصود أيضا بالجسم هو جسم الانسان وليس أي جسم ، وكذلك المقصود بالسلامة هي سلامة الانسان وليست أية سلامة . ولكن ما المقصود بالانسان ؟ ومن هو هذا الانسان الذي نقصده ؟ وكيف نفهمه ؟ هل هو الفرد - المرأة أم هو الفرد-الرجل ؟ هل هو الأسرة الثرية أم الأسرة المعدمة ؟ هل هو الفرد الذي لظروف ما مكنته من السيطرة على غيره فاعتبر نفسه سيدا والآخرين عبيداً له يأمر وينهي ويفعل بهم ما تمليه نزواته وشهواته ؟هل هو فئة توافقت على اعتناق مذهب اجتماعي أو ديني أو اقتصادي أو سياسي استطاعت به ان تتغلب وتقهر عدداً من الناس أو من المتحدات الأضعف منها بسبب عدم امتلاكها لامكانات الفئة او الجماعة المسيطـرة الحاكمة بأمرها كما تشاء ؟ ان كلمة " انسان " هي كلمة مبهمة لا معنى لها ولا قيمة ولا تفيد بأي شيء الا اذا بان وتوضح معناها ، وتعيَّن مضمونها ، وتحددت الغاية منها . يقول المعلم عالم الاجتماع السوري أنطون سعاده في مؤلفه نشوء الأمم: " فالاجتماع صفة ملازمة للانسان في جميع أجناسه ، اذ اننا حيثما وجدنا الانسان وفي أية درجة من الانحطاط أو الارتقاء وجدناه ، وجدناه في حالة اجتماعية . وهكذا نرى أن المجتمع هو الحالة والمكان الطبيعيان للانسان الضروريان لحياته وارتقائها " . نستنتج من هذا الكلام العلمي أن الانسان في معناه العميق والسليم ليس انسانا - فرداً رجلاً كان أو امرأة ، وليس انسانا - أسرة ثرية كانت أو معدمة ، وليس انسانا - فئة أو طائفة متسلطة مستكبرة أو مقهورة مستعبدة . بل ان المجتمع هو مكانه وبيئته الطبيعية ، والاجتماع هو حالته الطبيعية الفطرية ، والاجتماعية هي الصفة الملازمة لوجوده والاساسية لحياته والضرورية لارتقائه وبقائه . وهذا ما جعل سعاده يؤكد بكل يقين في في مؤلفه المشار اليه : " ولما كنا لم نجد الانسان الا مجتمعاً ووجدنا بقايا اجتماعه في الطبقات الجيولوجية أيضاً ، فنحن محمولون على الذهاب الى أن الاجتماع الانساني قديم قدم الانسانية، بل اننا نرجّح أنه أقدم منها وانه صفة موروثة فيها " . استنادا الى ما تقدم يمكننا الوقوف على معنى الانسان ، ومضمون كلمة الانسان ، وفهم قيمة الانسان الذي هو : الانسان -المجتمع لا الفرد ، ولا الأسرة ، ولا الفئة ، ولا الطائفة ، ولا الطبقة حتى ولا الجيل ، لان الانسان الحقيقي هو النوع الدائم الذي تغيب أصوله في الطبقات الجيولوجية التي تعود الى بداية الخلق وليس بمقدور أحد من الناس كائنا من كان ان يصل الى معرفة نشوئها وكيفية تكونها، كما أنه يمتد في الزمان الآتي الى أبعاد وآفاق ليس بمقدور بشري أن يستشرفها ويتنبأ بنهايات حدودها . فالافراد والأسر والفئات والطوائف والطبقات والمذاهب والافكار تأتي وتذهب ، تكمل آجالها وترحل بينما الانسان باق جيلاً بعد جيل ، وعصراً اثر عصر ، ومدنية تنطلق من مدنية وتكون قاعدة لنشوء مدنية أرقى . لكن هذا الانسان الدائم لم ينشأ في فراغ ، ولا يعيش في فراغ ، ولا يستمر ويرتقي في فراغ ، ووحدة حياته لا تـتم في فراغ ، بل هو ابن بيئة طبيعية نشأ فيها ، ويعيش بالتفاعل معها ،ويستمر ويرتقي بقدر ما يتفاعل معها ،وتتم وحدة حياته بقوة الترابط بينه وبينها.فاذا تراخى الترابط ،وانشل التفاعل،وانقطعت العلاقة بينه وبين بيئته الطبيعية، فقد بطل أن يكون انساناً- مجتمعا ، وبطل أن يكون وجوداً وتاريخاً وحضارة . وكم كان مصيباً المعلم سعاده حين قال : " لا بشر حيث لا أرض ، ولا جماعة حيث لا بيئة ، ولا تاريخ حيث لا جماعة " . فسلامة الانسان ، اذا ، هي بسلامة كيانه في بيئته الجغرافية الطبيعية ، وسلامة كيان بيئته بسلامة وحدة جماعته ووعي تلك الجماعة لوجودها وحياتها ومقاصدها الكبرى في الحياة ورسم مثلها العليا في وجود أجمل وحياة أرقى وتطلعات أسمى فينعكس الوجود الأجمل والحياة الآرقى والتطلعات الأسمى على كل فرد من أبناء الانسان التام الذي هو الانسان-المجتمع الذي نسميه الأمة،أي المجتمع التام الكامل الطبيعي أرضاً وبيئة ًوجماعة وثقافة ًوتاريخاً وتطوراً ورقياً. فان لم يكن وجود الأمة جميلا وحياتها راقية وتتطلعاتها سامية فلا جمال ولا رقيّ ولا سموّ لأي فرد من أبنائها نساءً كانوا أو رجالاً. وكل الدعايات والترويجات التي تدعي المطالبة بحقوق الانسان وحقوق المرأة وحقوق العمال وحقوق المذاهب والطوائف والجمعيات والمنظمات وغير ذلك من الفبركات الاصطناعية ليست سوى "حصان طروادة " للتمويه واخفاء النوايا السيئة التي يدعيها المطالبون . وكلام الباطل مهما كان جميلا لا يمكنه أن يحل مكان الحق ،كما أن تبريرات الظلم مهما كانت منطقية لا يمكنها أن تكون بديلا عن العدالة.فالحق الحق هو أن يكون كيان البيئة- الوطن سليماً ، والعدل العدل هو أن يكون مجتمع الانسان - الأمة موحداً وسليماً في ذاتيته وروحيته ونفسيته وعقليته فتشمل السلامة كل أبنائه نساءً ورجالاً ، ويفيض الخير على كل تنظيماته واداراته وفي كل ميادينه الانتاجية في المعرفة والعلم والفلسفة ، وفي الزراعة والصناعة والتجارة،وفي الاكتشاف والابتكاروالابداع. فيعظم تراث الهدى والتنوير الذي يفيد الأمم ويرافق الأجيال . واستنادا الى ما بدأناه في مقدمتنا هذه من أن : " التعييّن هو شرط الوضوح "، فان كلامنا لا يستقيم معناه الا اذا عيَّـنا وحددنا البيئة وعرفــّنا هوية المجتمع المعنى . لكن" المعرفة التي لا تفيد هي كالجهالة التي لاتضر " على حد تعبير المعلم سعاده . ولذلك نحن ملزمون بتعييّن ومعرفة ما يفيدنا فنتمسك به،وملزمون أيضا بتعييّن ومعرفة ما يضرنا فنتجنبه ونأمن ضرره.اذ ماذا ينفعنا اذا عرفنا ولم نستفد من معرفتنا ؟ وماذا تنفعنا معرفة شؤو ن العالم وقضاياه اذا كنا غير قادرين على معرفة بيئتنا ومجتمعنا وهويتنا وقضيتنا وغير مستعدين على بذل كل غال في سبيل انتصار حقيقتنا وصنع تاريخنا ومستقبلنا وتقرير مصيرنا في السيادة على أنفسنا ووطننا؟ تعييّن وطننا ،اذاً،هو أول الأولويات. وتوضيح حقيقتنا هو ما يتوجب علينا استيعابه وفهمه بأعمق وأوسع ما يكون . فلا وجود لنا كأنسان- مجتمع . كـأمة لها وجود في هذا العالم الا في وطننا . في بيئة هلالنا الخصيب . ولا قيمة لنا في التاريخ أمام أنفسنا وأمام الأمم الا بتفعيل مواهبنا واطلاقها الى أبعد ما تسمح به طاقاتنا المادية والروحية لتوليد العقلية الممتازة الرائدة فيتم التفاعل الخلاق بين وطننا الفريد الممتاز وعقليتنا الراقية الممتازة التي برهنت في كل مراحل التاريخ عن أهليتها وجدارتها واستعدادها الدائم الى تحقيق الابداع الذي يعبر عن السلامة الحقيقية لكياننا الطبيعي وطناً وأمة ً . كياناً وعقلاً . فكان العقل السوري السليم هو الذي حقق وضمن سلامة وحدة الكيان السوري الذي يشمل كل بلاد الشام والرافدين التي ما فتأ أعداء أمتنا يعملون كل ما بوسعهم من أجل اجتثاثنا منها والقضاء علينا قضاءً مبرماً للتمكن من الاستيلاء عليها فيما بعد . وقد تمكنوا من تجزأة وطننا الى كيانات واستطاعوا من خلال نقاط الضعف فينا أن يمزقوا مجتمعنا فئويات وطائفيات ومذهبيات تنذر بويل كبير . هذا ما دفع حتى كبار مفكرينا ومبدعينا أمثال جبران خليل جبران الى شيء من الحزن والكآبة حين قال : " وبينكم أيها السوريون من يعلم أن لفظة سورية وحدها كافية لابدال ابتساماتي بالدموع ، وتحويل مسرتي الى الشوق والحنين ". أليس جبران هو نفسه القائل : " لقد كان فجر النهوض في بابل ومساؤه في نيويورك " ؟ ولا يخفى على الفهيم ما في هذا القول من الخطورة على حضارة انطلق فجرها من بابلنا فشع على الدنيا كلها عبقريات ونبوغات،ومساؤها اليوم يميل الى الغروب في نيويورك لتهبط على الانسانية الظلمات والويلات . لكن مواهب أمتنا أنقذت جبران نفسه من حالة الاحباط التي وصل اليها لتنطلق على لسانه صيحة الأمة هادرة في أرجاء الكون ومحركة ملايين الأنفس : " كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم أمة ولا وطن، ويسوع الناصري لم يزل ناهضا ً. وكان محمد نهضة العرب ومحمد لم يزل ناهضا ً... ان النهضات بالمصادر لا بالفروع ، وبالجوهر الثابت لا بالأعراض المتقلبة ، وبما ينشره الوحي من غوامض الحياة لا بما يحوكه الفكرمن الرغائب ، وبالروح المبدع لا بالمهارة المقلدة . فالروح خالد وما يبنيه الروح خالد ، أما المهارة فقشورمصقولة تزول،وما تعكسه على أديمها المصقول فأخيلة تضمحل ". نعم النهضات بالمصادر لا بالفروع . بالنور لا بالظلمات. بالعقل لا بالغريزة.بالابداع لا بالتقليد.بالحقيقة لا بالباطل.بالبطولة لا بالجبن. بالخروج من همجية ما قبل التاريخ الى حضارة بناء التارخ، فنعي ان عقلنا لن يكون مبدعاً وسليماً الا اذا كان وطننا موحدا وسليماً ، وأن وطننا لن يستمر ملكاً لنا ولأجيالنا القادمة الى أبعد ما سوف تكون الأجيال ، الا اذا استمرت عقليتنا سليمة خلاقة مبتكرة . وهذا ما كانته الأمة السورية في الماضي، حين كان كيانها سليماً قبل أن تتكالب عليها همجيات الشعوب المتوحشة من الخارج وتنخر فيها طفيليات الأنانيات الفردية من الداخل، وحين كانت العقلية السورية سليمة من شوائب الأنانيات والمذهبيات والطائفيات التي كانت من أهم الأسباب التي جلبت على شعبنا الويلات والكوارث .

فيا أيها السوريون الأحرار الأعزاء في بيئة بلاد الشام والرافدين في جميع كيانات الهلال السوري الخصيب : في فلسطين ولبنان . في الشام والعراق. في الأردن والكويت. واينما كنتم في مهاجركم حذار حذار حذار مما يخططه أعداء الانسانية لكم . بيئتكم الطبيعية هي كيانكم . فاذا لم يكن كيانكم سليما ، فلن تكون لكم سلامة في عقلكم وعقليتكم . واذا لم تحافظوا على سلامة عقلكم وعقليتكم فلن يسلم لكم كيان ولن يدوم لكم وجود . واعلموا أن لا عقلية سليمة بدون كيان ولا قيمة لكيانات هزيلة بدون عقلية عبقرية.فسلامة سورية من سلامة عقلها ووعيّ أبنائها ، وسلامة عقلها من سلامة وحدة كيانها .هكذا يستقيم معنى القول ليصبح : العقل السوري السليم هو في الكيان السوري السليم ، وأن الكيان السوري لن يبقى سليماً الا اذا استمر العقل السوري قوة ديناميكية متحركة فاعلة تـُجدد ذاتها كلما أدركها النعاس أو وصلت الى حافة الهاوية ، وتـُجدد نظرتها الى الكون كلما أشرفت أبعاده على التقلص وكلما بدأت آفاقه بالانفراط .

يا أحفاد النوابغ الذين رعوا طفولة البشرية ومهدوا الطريق أمام شعوبها الى مطالع النور، وانتشلوا الانسانية من ظلمات جاهلية الغرائزوانحطاط همجية البشر بحروف هجائهم ،وخيرات حِكَمهم ، ونظم قوانينهم،ومنارات علومهم وآدابهم ،وابداعات ابتكاراتهم ، ومناقب أخلاقهم، وصلاح سلوكياتهم وممارساتهم ، اياكم اياكم اياكم التخلي عن نور العقل ، وعن تنكب الصراع والدفاع عن وجودكم وحياتكم ومصيركم أو التنازل عن حقوقكم في الحياة الكريمة ، فكل أمة تتنازل لأعدائها عن حقها في الحياة الكريمة ، وتتخلى عن الصراع ولا تجاهد في سبيل تقدمها ورقيّها وعزتها هي أمة كتبت على نفسها الانحطاط والذل والهلاك . ان أعظم المعاصي والمحرمات على الاطلاق هي التي تكمن باستخفافنا بالعقل وتتولد من حماقتنا وتسترنا على عيوبنا وتبرير أخطائنا،وان أعظم العثرات والمصائب هي التي أتت وتأتي على أيدينا وبارادتنا ، فاذا لم نغيّر ما بأنفسنا ونتحرر من مثالبنا ومفاسدنا،فلا قوة في الوجود تستطيع أن تصلحنا وتحررنا من أمراض العصبية الجاهلية والأنانية الفردية والفئوية الطائفية ، ولا شيء على وجه البسيطة يحمينا من شرور عدوان المعتدين . ان سوريتنا السليمة هي في عقلنا السليم ، وان عقلنا السليم هو في سلامة سوريتنا الشاملة لكل شبر من بلاد الشام والرافدين وطناً وأمة ، وحدودا وأجيالا ،وشطوطا وفضاءً ، وثقافة وتاريخاُ ،وقيماً وتراثاً وحاضراً ومستقبلاً .


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024