إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ويستمرُ الفكر ُ السوري متألقاً بمبدأيه: "الدكتاتورية ُالعادلة" و"الديمقراطية ُالعاقلة"

يوسف المسمار

نسخة للطباعة 2012-09-25

إقرأ ايضاً


الديمقراطية والدكتاتورية كلمتان شائعتان ورائجتان عند الناس من أجهل وأغبى شخص وحتى أكبر حامل شهادات واجازات جامعية . والأغلبية الساحقة تصيح وتطبـِّل للديمقراطية وتريدها ، وتصرخ وتـندد بالدكتاتورية وترفضها . لكن اذا سألنا الصائحين والمطبلين للديمقراطية عن نشأتها ومضمونها وفائدتها ، وسألنا الصارخين والمنددين بالدكتاتورية وبزوغها ومحتواها ومضارها تلعثمت ألسنتهم ، وتعددت أجوبتهم بعدد مستوياتهم العمرية والمدرسية والثقافية والأنانية والفئوية والطائفية والقبلية والعشائرية والغرائزية والنزواتية والانتفاعية .

ولذلك تراهم دعاة ديمقرطية وديمقراطيين ما دامت الديمقراطية تخدم شهواتهم الفردية الآنية وكذلك تراهم في الوقت ذاته متعصبين ضد الدكتاتورية كلما وجدوا فيها جامحاً لأهوائهم المصلحية العابرة، أو كلما وجدوها رادعاً لشهواتهم ونزواتهم الخصوصية . فظهيرة النهار ومنتصف الليل في مفهومهم شيء واحد ، والنور والظلام يجتمعان في غرفة واحدة وفي نفس اللحظة لا يفترقان ، والعدالة والظلم ينامان على فراش واحد . فيختلط بذلك الحابل بالنابل ، والحق بالباطل . ونجد أنفسنا أمام مشهد ساخر هزلي، ومضحك مبكي يأخذ قليلي الوعي والادراك الى حيث لا يريدون،ويردهم الى حيث لا يرغبون.

فكلمة الديمقراطية وكلمة الدكتاتورية اصطلاحان قديمان يعودان الى عهد اليونان وقد اقتبسهما طلبة العلم اليونانيين من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو عن الثقافة السورية عندما أتوا الى سورية والتحقوا بمدارس المعرفة والحكمة والعلم في مدنها وتعلموا وتدربوا على أيدي معلميهم ومدربيهم المتنورين المستنيرين السوريين الذين كانوا قد بلغوا شأواً عظيما في ميادين الرقيّ والتمدن بعد أن اخترعوا حروف الكتابة والقراءة،وأرقام الحساب والأعداد، ورموز الهندسة والبناء ،والنوتات الموسيقية ، والمقاييس الفلكية ، وبعد أن مكـَّنهم ذلك الاختراع العظيم لحروف الهجاء من تدوين وتخزين المعارف والعلوم والفنون وتطويرها بما يتلاءم مع حاجة الحياة في تلك الحقبة من الزمن حتى اشتهر القول الذي نطق به مثقف سوري في تلك العهود الغابرة أماطت عنه اللثام احدى المكتشفات : " أنا أكتب وأقرأ لأنني سوري " .

ومن البديهي والمنطقي والعقلي أن الطالب الاجنبي عندما يذهب الى بلد آخر طلباً للعلم ولم يكن متمكناً بشكل جيّد من اللغة الجديدة ، فان أول ما يحتاج اليه هو دراسة وتعلـُّم اللغة التي هي المفتاح الذي لا غنى عنه ولا بد منه للدخول الى عالم اللغة الجديدة والاطلاع على ما تحتويه من معلومات ومفاهيم . حتى أن الذين يتكلمون اللغة من أبناء المجتمع ويفهمون بشكل سهل ومباشر ما تعنيه كلماتها لا يستطيعون استعياب مغازيها ومعانيها العميقة الحقيقية ان لم يكونوا على مستوى معيّن من النضوج والتثقــُّف والفهم . ولا تزال هذه الحقيقة ثابتة حتى أيامنا هذه . ويستحيل على أي طالب علم أن يقف على حقيقة ثقافة من الثقافات بشكل عميق عميق الا اذا تعلـَّم لغتها أو تـُرجمت بشكل جيّد علومها وآدابها الى اللغة التي يحسنها ويجيدها .

وهكذا يجب ان نفهم حال جميع طلاب العلم الذين قصدوا بلاد الهلال الخصيب لهدف الحصول على المعارف والعلوم والفنون ، وبخاصة الطلبة الأغريق المذكورين أعلاه والمعتبرين عالميا اليوم آباء للفكر والفلسفة وهم لم يكونوا أكثر من طلاب علم ومعرفة ، وفلسفاتهم وأفكارهم لم تكن الا ما دونوه في دفاتر مفكراتهم عن أساتذتهم السوريين في صيدا وصور وجبيل وبيروت واوغاريت وسومر وبابل ونينوى وتدمر وبعلبك،ليراجعوا ما دونوه على أوراقهم الخصوصية فيما بعد من نظريات ومفاهيم وأفكار وعلوم، ومن ثم ليصيغوها بلغتهم وبالشكل الذي قدر لهم أن يستوعبوها وأن يفهموها بينما لم يكن زملاؤهم السوريون بحاجة الى تدوين مثل تلك العلوم التي كانت تـُشرح لهم بلغتهم الأم التي كانت أول لغة للمعرفة الحضارية تـُكتب بحروف راقية ،وتـُقرأ وتُخـزّن فيها المعارف والعلوم والفنون . ولا يخفى على اللبيب البصير أن لكل أمة نفسيتها الخاصة وعقليتها المتميزة الناتجة عن تفاعلها مع بيئتها ،وتفاعل أبنائها فيما بينهم، واكتمال أهليتها أو عدم اكتمالها، وظروف علاقاتها بجيرانها ، والحوادث الطبعية التي تعرضت لها ، والأحداث التاريخية التي مرّت عليها بحيث أصبحت تتميّز بخصائص وصفات تنفرد بها عن غيرها .

وحتى يومنا هذا يمكننا ملاحظة أنه لا يمكن للمترجم مهما كان ملماً بأصول اللغات أن ينقل بأمانة كلية مطلقة روحية ونفسية وعقلية أمة من الأمم الى لغة أمة أخرى ، والى أبناء تلك الأمة . وحتى في الأمة الواحدة واللغة الواحدة يوجد هناك صعوبات في تفسير أفكار مفكر أو شاعر أو أديب أو فنان أو الوقوف على المغازي العميقة والبعيدة التي هدف اليها المفكر او الشاعر او الأديب أو الفنان .

فاليونانيون مثلا الذين تعلموا الحساب في بابل لم يستطيعوا أن يفهموا علم الحساب والعدد الا من درجة العدد أو الرقم واحد (1) بينما علم الحساب الحقيقي عند البابليين كان يعتبر الصفر(0) هو النقطة التي تقع ما بين الأقل والأكثر، ولذلك فهو في الحقيقة قيمة وله قيمة حقيقية تقع ما بين اتجاهين: اتجاه الى الزيادة والكثرة وآخر الى التناقص والقلة .وبناء على ما قدمناه يمكننا استخلاص نتيجة أن الكثير من الكلمات او الأفكار عندما تـُرجمت لم تـُعط ترجمتها المعنى الحقيقي المقصود في لغة الأصل،وانما كانت محاولة تقريب المفهوم الى الحد الممكن المعقول. ومن هذه الكلمات كلمة الدكتاتورية وكلمة الديمقراطية اليونانيتان بحيث يتوجب علينا العودة الى الأصل السوري والمعنى الحقيقي الذي رمزت اليه هذه الكلمات. فالعودة الى الأصل ومعرفة التاريخ الحقيقي يساعد كثيراً على فهم الأشياء فهماً سليماً وفي هذا يقول العالم الاجتماعي السوري انطون سعاده : " من أتعس حالات هذه الأمة أنها تجهل تاريخها . ولو عرفت تاريخها معرفة جيّدة صحيحة لاكتشفت فيه نفساً متفوقة قادرة على التغلب على كل ما يعترض طريقها الى الفلاح". ولمعرفة التاريخ معرفة صحيحة لا بد من رقيّ ثقافي ، وغنى فكري ، وانفتاح عقلي ، والتخلص نهائياً من عهود الجهالة والتخلف التي أدت الى عدم معرفة تاريخنا معرفة جيِّدة صحيحة، ولا بد أيضا من استقلال فكرنا وارادتنا لنتخلص من الفقر الرهيب الذي يكاد يودي بكل أمل بالنهوض والسير الى الأمام .

وهذا هو الفقر الحقيقي الذي يعصف بحياتنا ويجعلنا كأمة على حافة الهلاك . وكم كان حكيما وبليغاً الأمام علي بن أبي طالب حين قال : " لاغنى كالعقل ، ولا فقر كالجهل ". نعم ان الغنى الحقيقي هو في العقل الحر المحرِّر ، وان الفقر الحقيقي هو في الجهل المطبق المدمّر . فاذا سقم العقل ، فكل فكر ٍ صار هراءً . واذا اندحر الجهل ، فكل فعل ٍ صار ضياء . وكلما انفتح العقل على الوجود والحياة والكون ، ازداد خصباً وثراءً وابداعا ، وكلما انغلق العقل وانقبض صديء وأنتن وازداد رداءة وعفونة .

ولأن العقل الانساني تفتح أول ما تفتح في سورية ، فقد سُمِّيت سورية بهذا الاسم أي بلاد النور والمعرفة أي وطن العقل الناضج الخصيب. وطبيعي أن للعقل الناضج مفاهيمه وابداعته التي تعبِّر عن النضوج الفكري وتدل على التقدم والرقي الثقافي .

وأولى علامات النضوج والرقيِّ البارزة بروزاً ساطعا بدون ريبة أو شك كانت تلك العلامات التي تدل على نشوء الشرائع في سورية استجابة لحاجة الحياة المتطورة لتنظيم العلاقات بين أبناء مجتمع الهلال الخصيب ، والعلاقة بين الانسان السوري وبيئته، وبينه وبين ما عليها من حيوان ونبات وجماد ، وعلاقة هذا المجتمع بغيره من المجتمعات الى جانب الشرائع الروحية التي اهتمت بتنظيم العلاقة بين الانسان وبين القدرة التي يرى الانسان أنها أوجدت الخلق أي الإلــه الخالق ورسله من الآلـهة - الملائكة .

الأفكار والمفاهيم الراقية هي بنت المجتمعات الراقية ، والأفكار والمفاهيم المتخلفة هي نتاج الجماعات المتخلفة التي لا تنتج الا الآلـهة- الأبالسة . وحين تتبنى المجتمعات الراقية مفاهيم وأفكار متخلفة وتعمل بها تنحط وتتخلف . وكذلك عندما تعبث الجماعات المتخلفة بأرقى المفاهيم والأفكار، فلا يزيدها ذلك الا بعداً عن التقدم ومزيدا من الانحطاط والتقهقر ،ومثلها كما جاء في القرآن الحكيم : " كمثل الحمار يحمل أسفاراً " .

وكما لا يصير الحمار فيلسوفاً أو عالماً أو فناناً بحمله كتب الفلسفة والعلم والفن ، فلن يصير أبداً من انطفأ عقله ومات ضميره وتعطلت انسانيته انساناً راقياً بتأبطه عشرات آلاف الكتب، واستخدامه جميع وسائل التكنولوجية، واستعماله كل أساليب الخداع والاحتيال واللصوصية وإثارة الفتن ونشر جراثيم التخريب والتدمير.

المجتمعات الحضارية الراقية هي المجتمعات التي اكتملت أهليتها وحصل نضوجها فتطورت وخرجت من عهود شرائع الغاب وفوضى شرائع الغاب الى فجر قانون الحقوق والواجبات ، ونظام أحكام المحبة والعدالة التي تنشر وتعمم الرحمة بين الناس أفراداً وشعوباً ،ويُكتسب بها رضى الأفراد والشعوب ، فتنتقل بها الانسانية من مجد ٍ الى مجد ، ومن حَسَن ٍ الى أحسن . مصطلحا الدكتاتورية والديمقراطية اليونانيان هما ترجمة خاطئة لمبدأين سوريين يعودان الى ضحى تألق الحضارة السورية في التاريخ الذي ابتعد كثيراً عن ليل الجاهلية الطويل وظلماته الخانقة .

فالدكتاتورية والديمقراطية من حيث هما كلمات مركبة من حروف لاتعنيان شيئاً مفيدا الا اذا توضح معناهما بالتعريف والتعيين والتحديد ، فتـُفهم كل كلمة منهما كما ينبغي أن تـُفهم . اصطلاح كلمة "الدكتاتورية" اليوناني كما هو سائد اليوم هو حُكم الفرد المطلق المتفرد بجميع السلطات ، واصطلاح كلمة "الديمقراطية" هو حُكم الشعب أو حُكم العامة بواسطة ممثليهم .

وهذا كل ما استوعبه الطلبة الاغريق من الكلمتين وبنو عليه أفكارهم ومفاهيمهم مع أن المصطلحين في مفهوم المجتمع السوري الراقي يشيران الى حالتين نظاميتين أو يمكن القول أنهما تدلان على نظام ٍ حياتي واحد ذي بنيتين أو درجتين لا تستقيم حياة المجتمع باطراد الرقيّ الا باعتماد هاتين البنيتين أو الدرجتية .

الدرجة الأولى التي هي الاستبداد العادل أو التشدد العادل في الارشاد أو ما يمكن تسميته بدكتاتورية التوعية والعناية والرعاية والتربية والتدريب حتى التمكن من الوصول الى الدرجة الثانية التي هي النضوج المعبِّر عن اكتمال الشخصية العاقلة في الفرد المؤهلة ذاتيا للتمييز بين المنفعة الخاصة الآنية التي تقتصر على الجزء، والمصلحة العامة التي تعود بالفائدة والنفع على جميع أبناء جيله،وتمتد في الزمان لتطال الأجيال التي تلي ، فيحس باستمراره في المجتمع ويمارس خياره بحرية ودون اكراه ، لا خوفاً من سلطان جائر ، ولا طمعاً بمغنم عابر، بل يمارس خياره ويكـّثف جهاده ويستخدم كل قواه وطاقاته استجابة لمطالب الحياة الكبرى في التقدم، واعتماداًعلى اكتمال أهليته واستعداده لممارسة كل خيار وعمل ضروريين للنهوض بالحياة ورفع مستواها الى أبعد حد ٍ ممكن .

وهذا النضوج هو الذي يمكـِّن الأفراد في المجتمع الراقي من القيام بمسؤولياتهم وواجباتهم بكل وعيٍّ واخلاص، وممارسة حقوقهم على أفضل وجه ٍ ممكن في اختيار النظام الأمثل لحياتهم العامة ورقيِّها. وهذا ما يمكن تسميته "بالديمقراطية التعبيرية عن الأرادة العامة" التي تتناول حياة المجتمع بأكمله في جيله الحاضر ممتدة ومستمرة في الزمان، وواضعة أفضل الأسس والخطط لتحسين حياة الأجيال الآتية .

الديمقراطية التعبيرية هي تعبير عن ارادة الذات العامة المدركة الفاهمة المستوعبة مباديء النهوض ، ووسائل تحقيق الرقيّ، ومطامح الانسان المثلى .

وهذه الديمقراطية هي من ابداع الفكر السوري الذي ظهر منذ آلاف السنين في سورية كما يقول العالم الفيلسوف أنطون سعاده :" لقد ظهرت الديمقراطية لأول مرة في التاريخ بواسطة انتخاب الملوك في الدول السورية ، وأخذ الناس في الماضي المباديء الصالحة عن السوريين وحضارتهم ".

ويضيف على القول المتقدم :"أما الديمقراطية التي يفتخر بها العالم الآن فهي من صنع سوري أيضاً لأن أول فكرة ديمقراطية تعطي الشعب حقه في ابداء الرأي في سائر شؤونه ظهرت في سورية . وبلا شك هي الغرسة الأولى في هذا الباب التي أعطت الثمر الكثير للعالم كله ولا يزال البشر الى الآن يجاهدون في ايصال هذه الفكرة " حقوق الانسان" الى حد الكمال ". لكن النفسيات المريضة والعاجزة عن فهم واستيعاب المضمون الحقيقي التي تعبث هذه الأيام بمفهوم الديمقراطية وتشويهه ومسخه ليصبح سفسطة فردية أنانية فوضوية قد أساء كثيراً لمعنى الديمقراطية التي كانت وجهتها الأساسية الصالح العام، والارادة العامة،وبناء دولة - المجتمع وتطويرها وترقيتها لتصون حقوق جميع أبنائه دون استثناء أحد، وتعمل على وصل ماضي الشعب المجيد بحاضره الأمجد الذي يمكن أن يكون أساساً صالحاً لمستقبل أكثر جودة وأكثر صلاحاً، فتحولت الى اتجاهات لا تحصى تـتمركز مطامعها في الحصول على المنافع الأنانية او الفئوية او التجارية الضيّقة الحقيرة وتحقيق النزوات الشهوانية للذين يغشون ويخدعون العامة بديمقراطية تمثيلية شكلية غشاشة . ولذلك يضيف سعاده ما يلي : " ان الديمقراطية الحالية قد استغنت بالشكل عن الأساس ، فتحولت الى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها " تمثيل " الارادة العامة ، وصار ينتظر انقلابا جديدا . وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة الى الأساس ، والتعويل على " التعبير عن الارادة العامة" بدلاً من"تمثيل الارادة العامة" الذي هو شكل ظاهري جامد ". وهذا لا يمكن حصوله الا بيقظة روحية للأمة ، ونهضة عقلية رشيدة تشمل جميع نواحي حياتها ، وفلسفة قومية اجتماعية جامعة ، وعقيدة بطولية واعية تغيِّر الواقع المأساوي ، والحالة الزرية التي تعيشها أمتنا .

الدكتاتورية العادلة تأتي من خارج الأفراد أي من المجتمع الواعي ومن عباقرة ونوابغ المجتمع ، والديمقراطية التعبيرية الواعية تنبع من داخل أي من وعيّ الأفراد الذين بلغوا النضج والرشد ، ويتمتعون بمناقبية عالية، واحساس قومي مجتمعي راقي ، وأصبحوا مؤهلين وقادرين على الممارسة الصالحة . وبهذا تتناغم شخصية الفرد الواعي مع شخصية الجماعة الواعية وينتج عن ذلك ظاهرة الوجدان القومي الاجتماعية أي ظاهرة شخصية الأمة القومية الاجتماعية. الدرجة الأولى تركـّز على التشدد في العناية والرعاية ، ويمكن وصفها بالعناية الفائقة. ومن المعلوم أن العنايةالفائقة بالمريض تصل به الى السلامة، وكذلك العناية الفائقة بتربية الطفل أو الطفلة ورعايتهما وتدريبهما وتمرينهما جسداً وروحاً ومعرفة وعلماً وفناً تخلق من كل ٍ منهما عضواً سليماً فاعلاً في المجتمع ومواطناً صالحاً منتجاً يستطيع أن يصل بنجاح الى درجة أعلى في نظام الحياة المندفعة نحو الأفضل .

وفي هذا نلاحظ أن مرحلة الاستبداد العادل أو العناية الفائقة هي مرحلة مؤقتة وليس لها صفة الديمومة بينما مرحلة الحرية الناضجة أو الديمقراطية التعبيرية عن الإرادة العامة هي مرحلة دائمة وتتكفل بتطوير نفسها بنفسها وترتقي من حالة سليمة الى حالة أسلم . يقول العالم الاجتماعي السوري أنطون سعاده : " يخلط الناس كثيرا بين الديموقراطيه والبرلمانيه، ثم بين الاستبداد (الدكتاتورية) والطغيان، حتى ليجعلوا النظام البرلماني مرادفا للديموقراطيه ، والطغيان مرادفا للاستبداد الديموقراطي " . ويضيف أيضاً :" يمكننا ان نميز جيدا بين ما هو استبداد عادل وما هو طغيان، وبين ما هو ديموقراطي وما هو برلماني " ويزيد أيضاً على ذلك كلاما لا يترك مجالاً لجدال ومهاترة حين يقول : " مهمة الدكتاتوريه هي مهمة المعلم الذي يحجز حرية الطالب ليمرّنه في الاتجاهات الصحيحة الى ان يشتد جناحه ويقوى وهذا يعني ان الدكتاتورية لا يجب ولا يمكن ان تكون نظاما دائما انما هي نظام مؤقت لنقل شعب من حالة الى حالة اخرى، من حالة فوضى الى حالة نظام، ومن ضعف الى قوة، ومن موت الى حياة، وهذا ما يجعلها نظاماً لا بد منه في الامم التي اصابها شلل فكري وسياسي واقتصادي ".

لقد كان السيد المسيح مستبداً عادلاً أي دكتاتوراً معلـِّماً حين أعلن تعاليمه الراقية ولم يقبل أحداً أن يشاركه في آيات انجيله و تعاليمه ، وظل مستبدا عادلاً حتى آخر لحظة من حياته على الأرض ولم يترك وكالة لأي من تلاميذه أن يغيِّر مضمون رسالته التي تقوم على المحبة والسلام . وكذلك كان أيضاً النبي محمد مستبداً عادلاً أي دكتاتوراً رسالياً ولم يقبل أن يشاركه أحد ،لا من آهل بيته ولا من صحابته بآيات قرآنه واتمام رسالته، ولم يتساهل بها ويساوم عليها حتى لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ،واستمر مستبدا عادلا ً حتى لحظة وفاته وقال لمن علـّمهم ودرّبهم على طريق الصلاح : " اجعلوا الأمر شورى بينكم ، ولكن بدون أن تمسوا الرسالة بأي تحريف ".

ولم يترك لأحد من صحابته وصية ًبامكان حرف الرسالة عن الرحمة والخـُلـُق الكريم. الوالدان مستبدان عادلان لأنهما لا يسمحان لطفلهما أن يلعب بالنار لكي لا يحترق . الطبيب مستبد عادل عندما يحوِّل مريضه الى غرفة العناية الفائقة لكي يساعده على التعافي والشفاء. والقاضي مستبد عادل عندما يحكم على المجرم بالسجن لكي لا تنتشر الجرائم بين الناس . شرطي السير مستبد عادل عندما يمنع سائق السيارة من المرور عكس السير من أجل تجنب الحوادث القاتلة . الحكومة مستبدة عادلة عندما تحارب الفوضى بفرض احترام النظام وفرض الاحترام المتبادل بين الناس تجنباً للفوضى وأعمال الشغب وشيوع شريعة الغاب .

من الاستبداد العادل أي من الدكتاتورية العادلة حصل تطور المجتمع ورقيّه ، وبرقيّ المجتمع ارتقى أبناؤه ، وبرقيّ ابناء المجتمع تحرروا من التخلف لأن الحرية رقيّ والتخلف عبودية . واذا كان بامكان أبناء المجتمع الراقي الاحرار أن يمارسوا ديمقراطية الرقيّ والحرية ، فان ابناء المجتمع المتخلف العبيد للتخلف لا يستطيعون أن يمارسوا الا ديمقرطية التخلف والعبودية والفوضى والطغيان .

وبما أن الفرق بين مجتمع راقي ومجتمع متخلف هو أن المجتمع المتخلف يقوم على شريعة الغاب والباطل وممارسة العدوان على حقوق الآخرين، والمجتمع الراقي يقوم على شريعة القانون والعدل واحترام حقوق الآخرين ، فان معنى الديمقراطية التعبيرية ومضمونها يختلف اختلافاً كبيراً وجوهرياً بين ديمقرطية الحق والعدل والرقيّ وديمقراطية العدوان والطغيان والتخلف ، وكذلك أيضا يختلف مضمون الدكتاتورية بين الدكتاتورية الجائرة الطاغية التي تقهر الشعب وتفقره وتـُذله،وتعتدي على حقوق الشعوب، وبين الدكتاتورية العادلة المحبة التي تفرض على الشعب أن يتنبه لمصالح حياته، وتـُعلـّمهُ وتـُدرّبهُ وتقودهُ الى تحسين مستوى عيشه ورفاهيته وعزه، وتسعى الى ايجاد أفضل العلاقات بين مجتمعها والمجتمعات الأخرى.

وعلى هذا الاساس يمكننا الاستنتاج أن مفهوم نظام الدكتاتورية الديمقراطية او نظام الديمقراطية الدكتاتورية في المجتمع الراقي والفكر الراقي مناقض تماما لمفهوم أنظمة الدكتاتورية والديمقراطية في المجتمعات الهمجية المتخلفة . والفرق واضحٌ بين سلطان الفضيلة وطغيان الرذيلة . وكذلك الاختيار بيِّنٌ بين العاقل والجاهل . ولا ينكر هذا الفرق الا من تعطل عقله أو أصيب بعمى البصيرة .

لقد وُلدت الديمقراطية في سورية منذ آلاف السنين قبل أن تكون اليونان قد وُجدت ، وكان ذلك عندما انتخب السوريون ملكاتهم وملوكهم انتخاباً ، فكانت ملكات سورية أولى نساء العالم اللواتي تحملن مسؤولية ادارة شؤون الدولة ، وتبعات قيادة المجتمع للكفاءات التي كنّ يتمتعن بها من حكمةٍٍ، وبعد نظر ، وأمانةٍ ، ونبوغ ، وأثبتن أنهن كنَّ معبِّرات عن الارادة العامة بشكل ٍ عبقري تجلى في قيادة الملكة أليسار في بناء أمبراطورية قرطاجة واعطائها المثال القدوة في بناء الدولة ورسم مسار نموّها وتطورها. وكذلك الملكة زنوبيا التي كانت مثال العبقرية والنبوغ في قيادة المجتمع في حالتي السلم والحرب ومواجهة أعتى الامبراطوريات في عهدها، ووقفة العز التي وقفتها مختارة ومفضـِّلة الموت بالعز على الحياة بالذل .

لقد وُلدت الديمقراطية في بلاد الرافدين والشام عندما ظهرت الى الوجود الشرائع السومرية والبابلية والكنعانية فكانت سورية بشرائعها القانونية ،وتعاليمها الانسانية، ورسالاتها الروحية، أمّ الديمقراطية الحقيقية التعبيرية التي تعبِّر عن نفسية راقية تمتد مطامحها الى أبعد ما يكون الطموح، وأرقى ما يصل اليه الرقيّ .

ولهذا لن ينقذ الديمقراطية من حالة الوباء التي وصلت اليها الا العقلُ السوري الفضائلي أو عقلٌ فضائلي آخر يتمتع بمزايا شبيهة بمزايا العقل السوري الذي كان أُمـَّاً وأبـاً للمعرفة والحكمة والفضيلة في عالم الحضارة .

لقد ابتـُذل معنى الديمقراطية في العالم وتشوه مفهومها كثيرا ولم يبق منها سوى الاسم الذي تجتره الجماهير، أو تسوّقه أنظمة العدوان والطغيان، أو تـُعمّمه وتنشره وكالات الدعاية والخداع .

وكم نحن بحاجة اليوم لفهم وتدبر قول العالم الفيلسوف أنطون سعاده : " إن الأمم كلها تريد الخير والفلاح ، ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة . فالإرادة العامة إذا لم تجد التعبير الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح ُ عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب التمثيلية ".

نعم إن صحة الفكرة ووضوحها، وصلاح القيادة واخلاصها هما الشرطان الأساسيان الضروريان لمبدأ الدكتاتورية العادلة التي تقود الأمة الى الفلاح ، ومبدأ الديمقراطية التعبيرية العاقلة التي تجعل المجتمع قادراً على استيعاب الفكرة الواضحة، والثقة المطلقة بالقيادة الصالحة، فيتحقق بهذين المبدأين كل الخير وكل الفلاح وكل التقدم. لقد تألق النبوغ السوري بمزايا المعرفة والحكمة والعلم والفضيلة والصلاح والابداع فقامت دكتاتوريته وديمقراطيته على هذه المزايا فكانت ديكتاتوريته معلـّمة وهادية ، وكانت ديمقراطيتة عاقلة بانية ومحققة أبدع الانجازات .

وشتان ما بين دكتاتورية عادلة ومعلمة وهادية ودكتاتورية جائرة وطاغية ومضلـّلة .وما بين ديمقراطية واعية وعاقلة وبانية وديمقراطية جاهلة وفاسدة ومخرّبة . لقد شهد التاريخ البشري دكتاتوريات عدوانية كثيرة وكلها بادت وانقرضت ولم يبق منها للانسانية الا العبَر لمن يعتبر لأنها قامت على مباديء التوحش والهمجية والتعدي على حقوق الشعوب وتدمير الحضارات، وفي العالم اليوم الكثير من الانظمة والحركات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والطائفية تدّعي الدفاع عن حقوق الانسان وتموّه نفسها بالحرية والديمقراطية وهي في الحقيقة مكروب عدوان وطغيان وجور لاخير فيها ولا خير في هيمنتها وتعليمها وممارساتها .

أما الدكتاتورية السورية التي كانت مبادؤها ولا تزال تعليم الشعب وتدريبه على الارتقاء بنفسه والارتقاء بغيره من الشعوب ،والدفاع عن حقه في الوجود الجميل والحياة العزيزة،وخوض غمار الحرب من أجل استرجاع حقوقه المغتصبة مهما كانت الحرب فظيعة وعاتية ، فانها وحدها الدكتاتورية العادلة الباقية في هذا الوجود وفي هذا العصر ، ولا يمكن لسورية أن تتنازل عنها ولو قضيّ على الوجود بكل ما فيه ، لأن الوجود الانساني بدون احترام حقه في الحياة والصراع والحرية والتقدم والرقي هو وجود تافه ولا يليق بالانسان الذي شاءته العناية الالهية سيّد المخلوقات، وأهـّلته قوة عقله أن يجعل الحياة لنفسه ولجميع بني البشر كلها حقاً وعدلاً وخيراً وسلاما .

وهذه هي الديمقراطية الحقة التي أبدعتها سورية وقدمتها للعالم ليخرج من الظلمات الى النور وليعيش بأمن وأمان . فيا أيها الواعون الأحرار الأعزاء من أبناء الهلال الخصيب المقيمون والمهاجرون والمهجرون من أبناء فلسطين ولبنان ، والشام والعراق ، والأردن والكويت اياكم أن تتنازلوا عن دكتاتوريتكم في استئصال جذور الشر والأشرار ، وتجفيف مستنقعات الخيانة والخونة ، وتطهير بلادكم من نجاسة العدوان والمعتدين . واياكم أيضا أن تتخلوا عن ديمقراطيتكم في ثباتكم على الثقة بأنفسكم ، والايمان بعدالة قضية نهضتكم ، والمثابرة على ممارسة بطولتكم الواعية، وجعل ارادتكم هي الحاسمة في تقرير سيادتكم على أنفسكم ووطنكم، واختياركم قيادتكم الصالحة المعبِّرة فكرة نهضتكم الصحيحة الواضحة ليستمر الفكر السوري فاعلاً ومتألقاً بمبدأ سلطان العدل المستبد ومبدأ سيادة الوعيّ الحر الديمقراطي الرشيد الذي لا يتجه الا الى تحقيق أفضل الغايات والمرامي .


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024