شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1942-09-15
 

الصراع الفكري في الأدب السوري : تجديد الأدب وتجديد الحياة الجزء الرابع (1)

أنطون سعادة

الفكرة البارزة في جميع الأمثلة المتقدمة من تفكير نفر من أشهر أدباء اللغة العربية في العصر الحاضر هي: ترك البكاء التقليدي والتحسر والتلهف والنواح والندب التي أغرقت الشعر العربي القديم في عبابها وتغرق الشعر السوري والمصري الحديث في العباب عينه، اللهم إلا بعض استثناءات نادرة تطفو عليها الصفات المذكورة ويحتاج محب الاطلاع لمجهود كبير في الغوص عليها. هذه الفكرة هي فكرة سلبية يدفع إليها الملل من الجمود والضرب على وتيرة واحدة. ولكنها ليست بالفكرة الجديدة في أدب اللغة العربية. فقديما أظهرها الشاعر الفارسي المزيج، السوري البيئة والحضارة، أبو نواس بأسلوبه المجوني البديع:

قل لمن يبكي على رسم درس ** واقفا ما ضر لو كان جلس

وقال أيضا:

عاج الشقي على رسم يسائله ** وعجت أسأل عن خمارة البلد

فأبو نواس تهكم على الوقوف على الطلول والبكاء والعويل، لأنه ابن بيئة تختلف عن بيئة شاعر الصحراء ولأنه متحدر من شعب خبر من الحياة ألوانا غير ألوان حياة الصحراء. وقد استيقظ أبو نواس لهذه الحقيقة ووجد في البكاء والندب وسؤال الطلول عجزا مضحكا. فقال قوله الذي سبق به جميع دعاة "التجديد" من أدباء اليوم. وأدباء العصر الحاضر، مع كل اجتهاداتهم، لم يتجاوزا موقف أبي نواس. من العويل والانتخاب على الطلول وعلى العهود إلا قليلا.

كل اجتهاد أمين الريحاني بلغ إلى القول أن الشاعر يجب أن يكون "مرآة الجماعات" ومبلغ اجتهاد حسين هيكل هو أن التجديد في الشعر "هو أن يشعر الشاعر أو الكاتب بشعور العصر الذي هو فيه ويعبر عن ذلك تعبيرا صادقا ممثلا لصفات ذلك العصر الذي وضع فيه هذا التعبير" وكل اجتهاد خليل مطران بلغ إلى قوله "أريد أن يكون شعرنا مرآة صادقة لعصرنا في مختلف رقيه". وهذا الرأي هو أرقى ما وصل إليه تفكير أدباء سورية ومصر حتى اليوم. فإذا كان هذا هو غاية الشعر والشاعر فلا حاجة لكل ذلك الكلام الكثير على التجديد وترك التقليد، الذي هو من قبيل تحصيل الحاصل.

أن أدباء العصر الذي نعيش فيه يمثلون بأدبهم عصرهم أصدق تمثيل. إنهم لا يحتاجون إلى تغيير أسلوبهم ليمثلوا عصرهم، كما يتوهم حسين هيكل في تخبط فكري للخروج بالأدب والفنون الجميلة من الحالة التي هي فيها أو كما يظن خليل مطران. أليس العصر في سورية، إلى أن بزغت أنوار النهضة القومية الاجتماعية، عصر جمود وذهول وتقليد واستكانة؟ أليس العصر في مصر عصر تقليد شرقي ومسخ غربي؟ بلى، إن العصر في سورية لكذلك وأن العصر في مصر لكذلك. إذن فالأدباء في سورية وفي مصر، هم "مرآة جماعاتهم" تماما وممثلو عصرهم تمثيلا صادقا، والمطلوب من كل الكلام الذي ملأ به طالبو التجديد صفحات ومجلدات هو حاصل. ومع ذلك فالحاجة إلى التجديد أو التغيير باقية وهي على ازدياد والتوق إلى حاجة جديدة، يقوى يوما بعد يوم. فأين السر في هذا التناقض وهذا التباين؟ هو في بعد الأدباء الذين عالجوا الموضوع عن صلبه وعن قضاياه الكبرى التي ليست هي قضايا أدبية بحت.

خذ مثلا كلام حسين هيكل على "العصر" الذي يعيش فيه الشاعر. فكأني بحسين هيكل يفهم العصر من خلال مطالعاته في الأدب الفرنسي وليس من درسه وضعية مصر. وكأني بأمين الريحاني يرى أن عكس نفسية الجماعة هو شيء اصطناعي أساسه الغش أو الرياء، كأن يمثل الشاعر السوري نفسية شعبه وحالته الروحية بالاقتباس أو الاكتساب من أدب شكسبير وأدب غوته اللذين يمثلان أدب شعبين آخرين فيظهر شعبه بغير مظهره الحقيقي. وهذا ما يفعله كثير من الأدباء في مصر وبعض الأدباء في سورية فيمسخون نفسية شعبيهما مسخا. وكأني بخليل مطران الذي اطلع كثيرا في الأدب الفرنسي يجهل أن العصر في أوروبة شيء وفي سورية ومصر شيء آخر. أنه يعمى عن الحالة التي عليها الشعب السوري والحالة التي عليها الشعب المصري فيحسب أنهما في حالة الشعوب الأوروبية عينها، ويبدو لقارئ عبارته أن الأدباء وحدهم في سورية ومصر بقوا متأخرين عن حالة العصر وهو غير الحقيقة.

ماذا ينتظر من الشاعر الذي ولد في بيئة يغشاها الجهل ويغمرها الذل والخنوع ولم يفتح عينيه إلا ليرى ظلمة الفوضى والبلبلة والتسكع في المادية، وربيت نفسه على تأوهات العجز وحسرات الفوات ومثل الشهوات وأمثلة الجمال المادي وميول الغرائز البيولوجية، خصوصا الشاعر الذي يجب أن يكون، في عرف كتـّاب "التجديد" مرآة الجماعات أو مرآة عصره؟ أينتظر منه غير اتباع ما شب عليه ووعاه من أمثلة الأدب الذي وصل إليه؟ كلا.كلا.

إن الأدب، كله، من نثر ونظم، من حيث هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور بأكثر ما يكون من الدقة وأسمى ما يكون من الجمال، لا يمكنه أن يحدث تجديدا من تلقاء نفسه. فالأدب ليس الفكر عينه وليس الشعور بالذات. ولذلك أقول أن التجديد في الأدب هو مسبِّب لا سبب- هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر وفي الشعور- في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية سياسية تغير حياة شعب بأسره وأوضاع حياته وتفتح آفاقا جيدة للفكر وطرائقه وللشعور ومناحيه.

يلاحظ مؤرخو الأدب ودارسو عناصره وعوامله أن التغيرات أو الانقلابات السياسية يعقبها تغير في الأدب وأساليبه. ويذهب جمهورهم إلى أن النهضات أو التغيرات السياسية هي سبب نهضة الأدب المؤثر أو الفاعل الأساسي في تغيير إلى النهضات أو التغييرات السياسية هي سبب نهضة الأدب المؤثر أو الفاعل الأساسي في تغيير مجرى الأدب لاني أرى الأحداث السياسية نتيجة لابتداء تغير النظرات إلى الحياة أو لحصول اعتقادات ومثل عليا مادية - روحية جديدة في شعب من الشعوب فتدفعه النظرة الجديدة أو التعاليم الجديدة إلى استنباط الوسائل التي يتحقق بها مطالبه. ومن هذه الوسائل أساليب السياسة وأشكالها وخططها وأهدافها. فالسياسة، في حد ذاتها، شبيهة بما حددت به الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في السياسة لا توجد سياسة جديدة ولا نهضة سياسية، وكذلك في الأدب. فحيث لا فكر ولا شعور جديدين في الحياة لا يمكن أن تقوم نهضة أدبية أو فنية.

يذكرني بحث وسائل إنهاض الأدب السوري والأدب المصري ببحث وسائل ترقية فن التمثيل في سورية. فقد سألني أحد هواة هذا الفن، منذ عدة سنين، عن كيفية ترقية تمثيل الروايات في سورية. فقلت أن الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب نفسه. فإن تمثيل أدوار الحب والشهامة والبطولة بألوان راقية يحتاج إلى شعور الممثل بهذه الصفات شعورا راقيا. والذين لم يتعودوا من الحب غير اتجاهاته الفيزيائية لا يمكنهم أن يمثلوا حالاته النفسية السامية. وقد شاهدت مرة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنور، يحاول تمثيل دور التعارف مع فتاة ينتظر أن يقع حبه في قلبها ويقع حبها في قلبه، فجاء الدور بعيدا عن إعطاء النتيجة المرغوبة على مستوى راق من الشعور والتصرف. وواحد آخر كان من نصيبه أن يمثل دور الوالد الذي نأت به الأقدار عن ابنته وحسب في عداد الأموات ثم عاد سالماً موفقاً ليضم ابنته إليه. فلما جاء حين المقابلة مع ابنته وظهرت الفتاة التي تمثل دور الابنة حبطت جميع المحاولات لجعل ذراعي الوالد تمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيرا على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تمثيله. ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تمثيل دوره.

الأديب والشاعر والممثل هم أبناء بيئاتهم ويتأثرون بها تأثرا كبيرا ويتأثرون كثيرا بالحالة بالراهنة الاجتماعية – الاقتصادية - الروحية. والفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الانفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها. ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حد الأدب والصور الجزئية التي تشتمل عليها صناعته. والشاعر الذي هو "مرآة الجماعات" أو "مرآة عصره" لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب، لأن هذا النهوض يعني ضمنا: النهوض بالحياة وبالنظرة إلى الحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالمرآة ليس بالمرء الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره. فهذا شأن المعلم، الفيلسوف، الفنان، القائد، الذي يقدر أن يخطط تاريخا جديدا لأمته ويضع قواعد عصر جديد لشعبه. وله أن يكون أديبا شاعرا إذا شاء وليس عليه أن يكون ذلك. وللشاعر أن يكون معلما فيلسوفا فنانا قائدا إذا قدر وليس عليه أن يكون ذلك.

إن من الظلم للشاعر أن يطلب منه تمثيل عصره أو جماعته تمثيل المؤرخ والعالم الاجتماعي. فكلام الريحاني وخليل مطران وحسين هيكل هو ظلم للشعراء وتكليف لهم أن يكونوا غير ما هم. وقد يكون في شعر الشعراء ما يستدل به على حالة عصورهم والأفكار والاعتقادات الشائعة فيه ولكنه ليس حتميا أن يدرس الشاعر عصره حين يحاول نظم قصيدة في فكرة أو عاطفة أو منقبة أو حادثة. إن قصائد الشاعر التي ينظمها غير مفكر بعصره أو بغيره من العصور هي التي يغلب أن تجيء أكثر انطباقا على حالة عصره وأدبه، ولذلك قلت أن شعراءنا يمثلون عصرنا تمثيلا صادقا. وأعني بعصرنا العصر الذي تعيش فيه سورية وليس العصر الذي تعيش فيه بريطانيا أو ألمانية أو فرنسة أو روسية. وفي رأيي أن عصر سورية الحاضر هو غير عصر هذه الأمم الحاضرة وان كان الزمان واحدا. فحالة سورية الاجتماعية – السياسية - النفسية تختلف عن حالة الأمم المذكورة. فكأنها تعيش في عصر غير عصر تلك الأمم. ولذلك لم يمكن أن يكون نتائج شعرائها مطابقا لعصر أرقى الأمم الأوروبية التي خلّفت وراءها ثورات عظيمة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وفي العلم والفلسفة، بينما سورية تتخبط في دياجير تاريخها الأخير الفاجع، وقد نسيت فلسفات أساطيرها وثوراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الغابرة التي أضاء نورها أرجاء العالم المعروف آنئذ وكانت إصلاحاتها مثالا لِاثينة ورومة.

سبق لي القول، في مكان آخر: أن الشاعر، في عرفي، هو الذي يعني بإبراز أسمى وأجمل ما في كل حيز من فكر أو شعور أو مادة. وأزيد هنا أني أرى من أهم خصائص الشعر، إبراز الشعور والعاطفة والإحساس في كل فكر أو في كل قضية تشمل عناصر النفس، وإعطاء الشعور والإحساس والعواطف صوراً مجازية أو خيالية عناصرها القوة والجمال والسمو مع عدم مفارقة الحقيقة والغرض الإنساني. وأكرر القول أن الشعر ليس الفكر بعينه، من غير حرمان الشاعر حق إبداء الأفكار الكلية أو الجزئية كلما شاء وأمكنه ذلك.

... يتبع

"الزوبعة"، العدد 52، في 15 سبتمبر 1942



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه