شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1945-01-01
 

القنبلة الجهر فردية وتفوق الأمم

انطون سعادة

كان الجوهر الفرد (Atom ) موضوعا من مواضيع الفلسفة عند فلاسفة الأقريك الأوائل، وعلى التخصيص، عند فلاسفة الطبيعة اللاحقة (بعد مدرسة طاليس) وقد تقدمهم أمفدوكلس (Empedocles) الذي أدخل معنى "العنصر" الكيمي في التفكير الفلسفي وتكلم على " جذور كل شيء"، التي صارت "العناصر الأولية" في التعاريف التالية، التي تعاقبت ووصلت إلينا.

من قبيل الفلسفة تصور ديمكريتس أجسام مادية صغيرة جدا فلا ترى ولا تتجزأ تتحرك منذ الأزل وإلى الأبد، هي أجزاء المادة الصغرى التي لا يمكن تجزئتها، لأنه لا يعود يمكن تركيبها، لان التكون المطلق والاضمحلال المطلق غير مقبولين في دائرة الفكر. وقد سمى ديمكريتس الأجسام الصغيرة المذكورة (Atom ) جواهر فردة، وتصورها أشكالا هندسية تتماثل في مادتها، ولكنها تختلف في إشكالها وهيئاتها، في أحجامها ومواقعها، وتقرر نوعيتها بموقعها المكاني. وقد ظل الجوهر الفرد موضوع نظريات فلسفية متضاربة وظلت النظريات عرضة للهواجس والتكهنات إلى أن استولى العلم على الموضوع وانتزعه من نطاق الفلسفة، من حيث المعرفة والفائدة وبلغ به إلى القنبلة الجهر فردية.

إن اختراع القنبلة الجهر فردية يعني فتحا إنسانيا جديدا لأسرار الطبيعة، يعني سيادة الإنسان على زخم قوة الجوهر الفرد ونظامه. وهذا الزخم يعني مورد قوة لا ينضب لأنه زخم القوة الطبيعية كلها. أليس موردا محمودا، كالنفط والفحم الحجري اللذين

يتعرضان للنفاذ، وأن يكن لا يزال محدودا بمادة الأورانيوم، بل هو مورد ثابت قائم ما دامت الطبيعة قائمة.

عند هذا الحد يعرض للبعض سؤال: إذا كان الإنسان قد أصبح متسلطا على زخم الجوهر الفرد- على قوته المكنونة- فلماذا لم يستخدم زخمه العظيم الفعالية في الشؤون السلمية، في الحاجات المدنية، بدلا من شؤون الحرب والتدمير؟ أليس الأفضل أن يترك الإنسان التدمير ووسائله وينصرف إلى التعمير وأن يشيح بوجهه عن الحرب ويتجه إلى السلم؟ والذين يميلون إلى السلم غافلين عن الأخطار التي تكمن فيه للأمم المستسلمة ويطلبون إحلاله بأية طريقة وبدون اكتراث لمصير الأمم التي يقوم السلام على تأخرها وانحطاطها في ميدان الحياة والبقاء والتقدم يمطرون العلماء وابلا من النقد اللاذع لاهتمامهم بتحويل الاكتشافات والاختراعات الكبيرة إلى وسائل للتدمير والفتك.

ويوجد بين العلماء أنفسهم من تأخذه شفقة الغفلة عن مصير الأمم فيأخذون يميزون بين العلم لأجل العلم والعلم لأغراض الأمم الكبرى ومراميها وبقائها في معركة الحياة والتفوق ويتأوهون تأوهات ساذجة غريبة عن معركة الأمم ومصير الشعوب.

لماذا حول العلماء زخم الجوهر الفرد إلى قنبلة تصهر مدينة بكاملها بوهج انفجارها، بدلا من أن يحولوه إلى وسائل لمنافع الإنسان السليمة.

على حساب من من الأمم سيوطد السلام الأبدي؟

أقل ما يقال في هذا السؤال أنه بعيد جدا عن كيان النوع الإنساني وقضاياه- عن واقع الأمم وقيام مدنيات وثقافات وسقوط مدنيات وثقافات- عن تنازع الأقوام الحياة والتفوق. قد قلت في "نشوء الأمم الكتاب الأول" (ص 87): " فالمجتمع الإنساني ليس الإنسانية مجتمعة" وأعني بذلك أن الواقع الإنساني هو واقع مجتمعات- واقع أمم تتصادم وتتنازع موارد الحياة وتتحارب وتظهر مواهبها ومؤهلاتها للبقاء في تأمين سلامتها وسلامة أهدافها قبل تأمين السلام. فكل تفكير في أعمال الإنسان وأغراضها يجب أن يبتدئ من أساس هذه المعرفة- من فهم الواقع الإنساني وفهم تاريخ الأجناس والأمم والمدنيات.

تكثر شواهد التاريخ على أن تفوق شعوب على شعوب ومدنيات على مدنيات كان، غالبا، نتيجة تفوق سلاح على سلاح. إن الذين اكتشفوا المعادن وصنعوا الأسنة من النحاس والشبهان غلبوا أصحاب الثقافة الحجرية وأنشأوا تمدنا جديدا وثقافة جديدة.

وأهل ثقافة الحديد والفولاذ تفوقوا على أهل ثقافة النحاس والشبهان وأنشأو تمدنا جديداوهكذا دواليك.

ليس التفوق في السلاح عبارة عن تفوق في الشراسة وانحطاط في الثقافة، بل عبارة عن تفوق نفسي يمكن الأمة من التفوق في الحياة والانتصار في معركة التقدم.

والتعاليم السورية القومية الاجتماعية تقول في شرح المبدأ الإصلاحي الخامس :"إن القوة المادية دليل قوة نفسية راقية" إن النفس الخاملة لا تنشئ سلاحا جديدا، ولا تقدما جديدا، بل تقبل بالأمر المفعول والحالة القائمة وتستسلم. أما النفس الفتية الجبارة، فترفض كل أمر مفعول لا يكون وليد إرادتها ومحققا رغائبها، وتنشئ سلاحا جديدا لنقضه وتنهض سلاحها في يدها، لتملي إرادتها وفعل الأمر الذي يرضى نفسها ويحقق أهدافها، وتقيم نظاما جديدا يضمن تقدمها.

الولاء القومي هو الشرط الذي لا غنى عنه لنهوض الأمة وتحقيق خير المجتمع القومي. وفي هذا الولاء يتساوى العامل والصناعي والتاجر والأديب والفنان، وتساوى أيضا العالم والجندي. أن العالم أيضا يشعر ويحس قضايا أمته ويفهم أن علمه جزء من ثقافة مجتمعه وأن في مواهبه مزايا جنسه وأمته.

إن القوة هي التي تقرر المصير حيث تتصادم الإرادات وتتضارب المصالح وقد سبق لي القول في مواضع أخرى أنه لا يمكن الإجماع على حقيقة أمر ولا أوجه الحق في أية قضية من القضايا التي تواجهها المجتمعات الإنسانية إلا حيث ينتفي تنوع النظر واختلاف المصالح وتضاربها. وفي هذه الحالة يحرم المجتمع الأعزل المسالم، المستلم، من تثبيت حقه.

إن الزارع يعمل لحفظ الحياة ضمن الحالة القائمة والأمر المفعول ولا يمكنه أن يزيد على إمكانيات الحالة القائمة أكثر مما تسمح به ولا يستطيع أن يقرر مصير الإنتاج الذي ينتجه. إن أمرا من هذا النوع يتوقف على الجندي وصناعة السلاح. "فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره"(التعاليم المبدأ الخامس الإصلاحي).

إن الأمة التي تتفوق بسلاحها وتكون لها الحكمة الضرورية تقدر أن تفرض السلام الذي تقرره. فحين نهضت الدولة السورية الآكادية بسلاحها فرضت سلامها على العالم الذي حدده مداها ثم كان فرض سلام الدولة السورية الآشورية وسلام الأسطول السوري الفينيقي في البحر وشواطئه.

لا يمكن التفكير، وجدانيا، يإيقاف اختراع الأسلحة الممتازة بقوة فتكها إلا يوم يمكن التفكير بانعدام الحرب.

على حساب الأمم المستسلمة التي تعني، في ذلها وعبوديتها، غناء القناعة والسلام.

"إن النهضة القومية الاجتماعية تعترف بأنه ليس أفضل من تنازل بعض الأمم عن حقهن في الحياة، لتوطيد سلام دائم، وبأن سورية ( سورية القومية الاجتماعية) ليست، ولا تريد أن تكون من هذا البعض". (مقال شق الطريق لتحيا سورية).

كتب هذا المقال عام 1945

أنطون سعادة


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه