شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2014-09-01
 

كلينتون و"داعش"... والحقائق الغائبة!!

أحمد أصفهاني

لم يكن كتاب "خيارات صعبة" الصادر باللغة الإنكليزية قبل مدة حاملاً بعض مذكرات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على لائحة قراءاتي العاجلة، لولا الضجة التي أثيرت حول ما تردد من أن سيدة البيت الأبيض السابقة، والطامحة حالياً لأن تكون أول سيدة تصل إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة، أوردت في كتابها الترويجي معلومات عن علاقة إيجابية ما بين الإدارة الأميركية وتنظيم "داعش"!

أحد المواقع الإلكترونية العربية، ولن نذكر هويته كي لا يتحول الكلام إلى نوع من المهاترات، نشر خبراً منسوباً إلى الكتاب جاء فيه بالحرف الواحد: "وكانت المفاجأة أن كلينتون قالت إن الإدارة الأميركية قامت بتأسيس الدولة الإسلامية (داعش) من أجل مخطط تقسيم الشرق الأوسط". وسرعان ما وجد هذا النص طريقه إلى عشرات المواقع الإلكترونية المماثلة، مع إضافات من هنا ومن هناك مما يناسب مقام كلينتون ومقام الإدارة الأميركية... ومقام "داعش" طبعاً.

هذه المعلومة، وما أدخل عليها من توابل دسمة، تحولت إلى مادة للنقاش والحوار والتحليل والاستنتاج في عدد كبير من وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية الناطقة باللغة العربية. وكنت واحداً من الذين فوجئوا أولاً بالمعلومة، ثم فوجئوا ثانياً بما أثارته لدى قطاع مثقف يُفترض فيه أن يكون نقدياً ودقيقاً في تناوله مسائل مصيرية مثل هذه. وهذا بالتحديد ما أقنعني بتأجيل مشاريع عدة أعمل عليها حالياً، والتركيز بدلاً من ذلك على تبيان ما قصدته كلينتون، أو بالأحرى ما نسبته المواقع الإلكترونية العربية لها.

لنعد إلى ما نشره ذلك الموقع الإلكتروني، وهو اعتراف كلينتون بأن الإدارة الأميركية هي التي أسست "داعش". طبعاً هذا كلام خطير وحساس كان يجب أن يثير تساؤلات عدة قبل أخذه على علاته وجعله مسلمة أولى للنقاش: لماذا تعترف كلينتون بهذه "الحقيقة" في هذا الوقت بالذات؟ وهل يُعقل أن تقدم على مثل هذه الخطوة غير المحسوبة العواقب وهي تنمي في نفسها طموحاً لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية في سنة 2016؟ وهل وافقت إدارة أوباما على "كشف" علاقتها بـ "داعش" مع ما يعنيه ذلك من تأثير على المصالح الأميركية الاستراتيجية في منطقتنا؟

عندما أعدت قراءة ما نقله ذلك الموقع الإلكتروني، خامرني شك مبدأي في أن تكون كلينتون أوردت تلك العبارة صراحة في كتابها. ولا أقصد هنا أن أنفي عن الإدارات الأميركية المتعاقبة دعمها وتأييدها وتمويلها لجماعات الإسلام السياسي المتطرف والتكفيري على مدى عقود، فالتاريخ القريب يؤكد ذلك كما تؤكده الأحداث الراهنة. لكن هذا التأييد شيء و"الاعتراف" به علناً شيء آخر مختلف تماماً. لذلك وجدتني أفكر في احتمال من إثنين: إما أن الموقع الإلكتروني إياه اختلق الموضوع برمته، ولحقته المواقع الأخرى على "العمياني". وإما أن من كتب الخبر أساء فهم النص الإنكليزي كما سجلته كلينتون في معرض تناولها لدور جماعات الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي.

كتاب "خيارات صعبة" الضخم (أكثر من 630 صفحة) دفعني إلى التصفح السريع للفصول غير ذات الصلة بموضوعنا، ومنها على سبيل المثال: بدايات كلينتون السياسية زوجة للرئيس وعضواً في مجلس الشيوخ، منافستها للرئيس أوباما في الانتخابات التمهيدية للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي، العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، التغير المناخي، كارثة هايتي، حقوق الإنسان، الديبلوماسية والعلاقات الدولية في العصر الرقمي... وغيرها.

وإذا كان "اعتراف" كلينتون بدور الولايات المتحدة في تأسيس "داعش" موجوداً بالفعل في مذكراتها هذه، فإن الإشارة إليه لا بد أن تكون في أحد الفصول المخصصة لباكستان وأفغانستان والشرق الأوسط والربيع العربي وليبيا وإيران وسورية وغزة... إلخ. وهكذا انكببت على القراءة المتمعنة والدقيقة آخذاً في الاعتبار أن كلينتون سجلت مذكراتها ونشرتها واضعة في ذهنها مسألتين أساسيتين: الأولى حماية طموحها الرئاسي الصريح وتعزيز حظوظها بانتظار سنة 2016، والثانية الحرص على عدم الكشف عما يمكن أن يضر بالأمن القومي الأميركي والمصالح الحيوية للولايات المتحدة.

الحقيقة أنني لم أجد أي أثر لذلك "الاعتراف الخطير". ولكي أكون أكثر إنصافاً، أشير إلى مقطعين في الكتاب قد يكون الموقع الإلكتروني إياه قد "أساء" فهمهما. في الصفحة 136، تتحدث كلينتون عن إقدام قوات الاحتلال الأميركي في العراق على تجنيد حوالي مئة ألف من مقاتلي العشائر السنية لمواجهة تنظيم "القاعدة" في العراق، في ما بات يُعرف بـ "الصحوات"... ولا أظن أن هذه المعلومة المعروفة على نطاق واسع يمكن، ولا بأي شكل من الأشكال، أن تعني اعترافاً أميركياً بتأسيس "داعش"! أما في الصفحة 475 وما بعدها، فإن كلينتون تتحدث عن احتضان قطر لجماعة "الإخوان المسلمين" وغيرها من تنظيمات الإسلام السياسي الأخرى (من دون أن تحدد هوية تلك الجماعات). ثم تقول بعد مقاطع عدة العبارة التالية المترجمة بتصرف: "وفي بعض الأحيان كانت جهود قطر تتراصف مع أهدافنا".

لعل هذه الجملة هي "الأقرب" إلى ذلك "الاعتراف" الذي روّج له الموقع الإلكتروني، وذهب ضحيته عدد كبير من الكتاب والمحللين السياسيين والمفكرين الاستراتيجيين. ربما قصدت كلينتون "داعش" من بين الجماعات الأخرى، لكنها لم تذكرها بالاسم قط. وحتى لو سلمنا جدلاً بأنها تعنيها فعلاً، فهي تقول إن جهود قطر "تتراصف" مع أهداف الولايات المتحدة "في بعض الأحيان"... وبالتالي من الخطأ الوصول إلى النتيجة التي أوصلتنا إليها المواقع الإلكترونية العربية.

إن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية لا تتورع عن التعامل مع أشد جماعات الإسلام السياسي تطرفاً ودموية إذا كان في ذلك مصلحة إستراتيجية لها. لقد قدّمت الدعم لتلك الجماعات في ليبيا من أجل إسقاط القذافي، وتستعد الآن لمحاربتها حماية لمصالحها النفطية. تستنفر قواها لوقف تقدم "بوكو حرام" في نيجيريا (النفطية أيضاً)، لكنها تغض النظر عن الدعم غير المباشر للإيغوريين المتطرفين الذين يحاربون السلطة المركزية في الصين... ويمكننا أن نعدد عشرات الأمثلة المشابهة، إلا أنها ليست محور مقالنا هذا.

لقد جعلتني طريقة اختلاق خبر كلينتون و"داعش" أنظر إلى الأمر ليس فقط من زاوية التزوير الإعلامي المنتشر على نطاق واسع هذه الأيام حتى في أعرق الدول "الديموقراطية"، بل أيضاً من زاوية دور الكتاب والصحافيين والمحللين والمعلقين والمفكرين والمنظرين الذين سرعان ما أشادوا عمارات استراتيجية شاهقة قامت على أساس معلومة وزعها موقع إلكتروني لا أحد يعرف من يموله أو من يقف وراءه!

أخطر ما خرجتُ به من هذه الحادثة هو أن ثقافتنا الإعلامية، وبالتالي ثقافتنا السياسية الاستراتيجية، تخضع في كثير من الأحيان لمؤسسات إن لم تكن هي ذاتها رهينة جهات غير منظورة فإنها أوصلت الفكر السياسي القومي إلى حضيض الإسفاف والإنحطاط. صدمني أن الذين نظرّوا وحللوا وتوصلوا إلى نتائج حاسمة صارمة، لم يعودوا ولو مرة واحدة إلى النص الأصلي! ليس هدفنا أن نبرئ كلينتون والولايات المتحدة (فهما مدانتان سلفاً)، وإنما نريد أن يحترم الكتاب والصحافيون والمحللون والمعلقون والمفكرون والمنظرون عقول المواطنين فلا يتم التعامل معهم كقطيع من الخراف يقودهم تيس... ميزته الوحيدة قرناه الشامخان!!



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه