إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"الإسلام السياسي" وآليات انتقال السلطة

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-08-13

إقرأ ايضاً


بينما كنتُ أراجع بعض محفوظات أرشيفي الشخصي، في إطار دراستي لمختلف تيارات "الإسلام السياسي"، وقعتْ بين يدي نسخة من مجلة "المستقبل العربي" العدد رقم 406، تاريخ كانون الأول سنة 2012. وقد تضمن العدد بعض الدراسات المقدمة في الأصل إلى "ندوة الدين والدولة في الوطن العربي" التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي في الحمامات بتونس بين 15 و17 تشرين الأول سنة 2012.

أبرز ما لفت نظري في أوراق العمل ما قدمه راشد الغنوشي رئيس "حركة النهضة التونسية" تحت عنوان "الدين والدولة في الأصول الإسلامية والاجتهاد المعاصر". وتكمن أهمية هذه الورقة في أنها تحمل أفكار رئيس حركة كانت شريكاً أساسياً في السيطرة على مقاليد الحكم في تونس آنذاك. وهذا ما يؤكده في مقدمة كلامه عندما يقول: "موضوع علاقة الدين بالدولة من أهم المواضيع التي تواجهنا الآن في تونس، ونحن في مرحلة بناء دستور ونظام جديدين، نطمح أن يكون نظاماً ديمقراطياً يحترم حقوق الإنسان".

وقد رأيتُ أن أفكار الغنوشي تستحق نقاشاً هادئاً لاعتبارات عدة:

ــ هو من أهم منظري جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي.

ــ أثناء إقامته في المنفى الأوروبي عمل كثيراً على "تبيان" العناصر الديمقراطية في "الإسلام السياسي".

ــ لعبت حركته دوراً محدوداً في المرحلة الأولى من الثورة الشعبية التونسية ضد نظام زين العابدين بن علي قبل أن تنخرط لاحقاً بفعالية أكثر، وهي الثورة التي افتتحت ما عُرف بـ "الربيع العربي".

ــ قاد "حركة النهضة" إلى السلطة بين 2011 و2014 كجزء من الترويكا الحاكمة بعد هرب بن علي إلى خارج البلاد.

ــ أقام علاقات وثيقة مع جماعات "الإسلام السياسي" في عدد من الدول العربية والإسلامية التي شهدت إضطرابات أمنية وما تزال.

ــ الأفكار التي يطرحها حول الإسلام والديمقراطية والحكم تشكل القاسم المشترك لغالبية جماعات "الإسلام السياسي".

ونقاشنا لورقة العمل المذكورة أعلاه لن يكون في مجال شرح الغنوشي لعلاقة الفكر الأصولي الإسلامي بالديمقراطية والعلمانية وما شابه فقط، بل سنتناول مسلمات ينطلق منها منظرو "الإسلام السياسي" للوصول إلى نتائج تبرر لهم ممارساتهم السلطوية. ونحن نرى أن "مسلماتهم" خاطئة في الأساس ولذلك فإن "نتائجهم" خاطئة بالضرورة.

يقول الغنوشي في مطلع ورقته: "منذ نشأ الإسلام جمع بين الدين والسياسة، بين الدين والدولة. فالرسول هو مؤسس الدين ومؤسس الدولة في نفس الوقت". وهذه مسلمة خاطئة من وجهة النظر الدينية ومن وجهة النظر التاريخية. القرآن كان واضحاً منذ بداية الدعوة في أسلوب مخاطبته الرسول: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (سورة الأحزاب ــ 45 و46)، {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} (سورة الفرقان ــ 56)، {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين} (سورة الأنعام ــ 48)،{ فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر} (سورة الغاشية ــ 21 و22). والسيطرة، كما نعلم جميعاً، هي أساس السلطة بكل تنوعاتها. ففي المراحل المبكرة اقتصرت "سلطات" النبي على التبشير والنذير والدعوة، مع نفي كونه مسيطراً على الجماعة المؤمنة.

هذا من وجهة النظر الدينية كما نعثر عليها في القرآن. وهناك العديد من الآيات المماثلة لم نعرض لها خوف الإطالة. أما من وجهة النظر التاريخية، فإن الرسول لم يبدأ ممارسة سلطات القيادة في مجتمع تعددي إلا بعد الهجرة إلى المدينة المنورة (يثرب) حيث تم التوصل إلى "الصحيفة الأولى" التي يعتبرها المؤرخون المسلمون "دستوراً" يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف المدينة وجماعاتها، وعلى رأسهم المهاجرون مع الرسول من مكة والأنصار واليهود وغيرهم. وقد كانت هذه "الصحيفة" نتاجاً طبيعياً حتمته التغيرات التي طرأت على المدينة من جراء: أولاً، قدوم جماعات سكانية ذات انتماء قبلي مختلف. وثانياً، مجيء دين جديد يختلف عما كان عليه أهل يثرب من اليهود والوثنيين.

والنقطة التاريخية هذه مهمة للغاية لأن معظم منظري "الإسلام السياسي" يتجاهلون ظروف الزمان والمكان عندما يتناولون نشوء الدولة الإسلامية. فمن الصعب، مثلاً، تصور أن الرسول كان يمكن أن يطرح ما يشابه "صحيفة المدينة" في مكة حيث لم تتأمن له قوة تدعم بنودها وتعمل لتنفيذها على أرض الواقع. لكن عندما إكتسبت الدعوة قوة بمن آمن بها في مكة وبمن جاء من يثرب مبايعاً، إنتقل الرسول إلى الطور الثاني الطبيعي وهو ممارسة القيادة الدينية والمدنية في المجتمع التوافقي الجديد.

إن التطور التدريجي في قيام السلطة النبوية مرتبط بمفهوم أقترح أن نطلق عليه اسم "التعاقد الرسولي". ذلك أن دعوة النبي محمد الأولى كانت على أساس الشهادتين "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله". هذا هو التعاقد الأول (المبايعة الأولى). فالذي يؤمن بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، سيؤمن دائماً بأن ما يأتي من الرسول لاحقاً هو من الله حتماً، وبالتالي سيقبل به كجزء لا يتجزأ من إيمانه بالدين الجديد. إن تطور التشريعات الإسلامية في المدينة يعطينا أكثر من دليل على ذلك، من أبرزها التدرج في تحريم الخمر، على سبيل المثال.

فلنحفظ هذه الفكرة في أذهاننا إذ ننتقل إلى "مسلمة" خاطئة أخرى تتعلق بنشوء السلطة وآلية انتقالها. إن سلطة الرسول الدينية والمدنية قامت على أساس "التعاقد الرسولي"، ولذلك لم تتعرض في حياة النبي إلى أية منافسة خطيرة في المجتمع الإسلامي الوليد. لكن ما أن توفي الرسول حتى انفجرت الخلافات أولاً بين الأنصار والمهاجرين، وثانياً داخل بطون قريش قبيلة الرسول، وثالثاً مع القبائل التي ظنت أن غياب محمد يعفيها من موجبات البيعة الأمر الذي دفع الخليفة الأول أبا بكر الصديق إلى مواجهتها في "حروب الردة".

لن ندخل هنا في الخلافات المذهبية المتعلقة بخطاب الوداع عند غدير خم، ولا في تفاصيل مواجهة سقيفة بني ساعدة التي شهدت إنتضاء السيوف بين المهاجرين والأنصار. بل يهمنا تصويب "المسلمة" الخاطئة التي تقول إن الإسلام منذ نشأ "جمع بين الدين والسياسة، بين الدين والدولة". ذلك أن أهم قاعدة في مفهوم الدولة هي طبيعة قيام الحكم وآلية انتقال السلطة. وهذا ما لم يعرفه المجتمع المسلم فوراً بعد وفاة الرسول. فقد تولى أبو بكر السلطة نتيجة تسوية بعد حادثة سقيفة بني ساعدة، فكانت هذه الآلية الأولى. ثم عيّن أبو بكر عمر بن الخطاب خليفة له، فكانت تلك الآلية الثانية. ووضع عمر الخلافة في ستة أشخاص فتم اختيار عثمان بن عفان، فكانت تلك الآلية الثالثة. وعندما قتل الجمهور الثائر الخليفة الثالث، وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب، فكانت تلك الآلية الرابعة. وشهد المجتمع المسلم آليات الحروب الأهلية والتحكيم وانقسام السلطة قبل أن يستتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان في دمشق حيث أنشأ النظام الوراثي.

لو أن النص الإسلامي المؤسِس تضمن آليات محددة لقيام الحكم وطرق انتقال السلطة، لما كانت فترة الخلافة شهدت حروب الردة، ومقتل ثلاثة خلفاء، وحروباً أهلية عدة قبل أن يستقر المُلك العضوض للأمويين... إن الآليات التي لجأ إليها الخلفاء لم تكن جزءاً من النص الديني، وإنما هي اجتهادات ترتبط بظروف مكان وزمان معينين. يقول الغنوشي في ورقته: "في مجال العقائد والعبادات، وعدد محدود من المسائل، العقل غير مؤهل لأن يدرك الحقيقة"! ومع أننا نختلف جذرياً مع عبارته تلك لأننا نؤمن بأن العقل هو الشرع الأعلى، فلا بد من القول إن نشوء الدولة وقيام الحكم وانتقال السلطة ليست شؤوناً دينية منفصلة عن تطور المجتمعات القومية في سياقاتها الزمنية.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024