شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2016-01-12
 

ثلاث دوائر متداخلة في الحل السوري!

أحمد أصفهاني

الدعوة إلى عقد "جنيف 3" أو "فيينا 3" أو "نيويورك 1"، في محاولة لدفع مسيرة الحل السياسي في سوريا، ستحقق غايتها إن عاجلاً أم آجلاً على الرغم من التحفظات والشروط المسبقة التي يطرحها هذا الطرف أو ذاك. فالصراخ الديبلوماسي في العواصم المختلفة، والتصعيد الميداني على أكثر من جبهة، والجولات المكوكية لممثل الأمم المتحدة في سوريا، لن تغير شيئاً في القرار المتخذ دولياً لبدء مفاوضات تهدف إلى إعادة صياغة التركيبة الحكومية الداخلية في سوريا أولاً، ومن ثم في الدول المعنية بالأزمة السورية ثانياً.

لا نقدم للقارئ معلومات جديدة إذا قلنا إن تقرير مصير سوريا لم يعد بأيدي السوريين أنفسهم. فهم باتوا مجرد أدوات في صراع مصالح إقليمية ودولية تجاوزت "مطالب المعارضة" التي على أساسها انطلقت التحركات في مطلع سنة 2011، كما تجاوزت أيضاً "حرص الحكومة" على حماية مؤسسات الدولة وكيان المجتمع والحفاظ على الدور الإستراتيجي المركزي الذي بلغته سوريا خلال العقود الأربعة الماضية.

نحن الآن أمام ثلاث دوائر، منفصلة في نقاط محددة ومتداخلة في نقاط أخرى، لكنها تتضافر معاً لرسم صورة الحل السياسي المرتقب... قصُرَ الزمان أم طال. الدائرة الأولى تحتوي الأطراف السورية كافة بما فيها الحكومة وأنصارها والمعارضة بكل تفرعاتها، ومعها القوى غير السورية التي تقاتل ميدانياً إلى جانب أحد الطرفين السوريين. أما الثانية فهي الدائرة الإقليمية التي تضم دولاً مثل تركيا وإيران والسعودية وقطر والإمارات ومصر، وقد لعبت أدواراً مؤثرة جداً سواء في التحريض على الصراع الداخلي أو تأجيجه بالتدخل المباشر. (الأردن ولبنان والعراق تتأثر بهذه الدائرة لكن من حيث انعكاس الأزمة السورية على أوضاعها الداخلية).

نصل الآن إلى الدائرة الثالثة ونطلق عليها اسم "الدائرة العالمية". وهي دائرة لم تكن موجودة وفاعلة منذ بدء الأزمة السورية، غير أنها أخذت في التبلور قبل أشهر قليلة في ضوء التقارب الأميركي ــ الروسي في ما يتعلق بأساسيات معالجة الملف السوري تحديداً. وقبل بروز هذه الدائرة، سيطرت الدائرة الإقليمية على مسار المواجهات الميدانية الشاملة في سوريا. بعض دول هذه الدائرة كان يتحرك وفق مصالحه الذاتية، أما بعضها الآخر فلعب دور البديل أو الواجهة لدول كبرى فوضّت وكلاءها الإقليميين مهام تدمير مقومات الدولة السورية وتفكيك نسيج المجتمع السوري.

تقاطعت الدائرتان السورية والإقليمية في مجالات متعددة خلال السنوات الأربع الماضية، ولكنهما فشلتا في تحقيق إنجاز حاسم على مستوى الهدف الإستراتيجي. ثم تضافرت عوامل مختلفة (بينها: صعود الحركات التكفيرية، وفشل "تجارب الربيع العربي" في تونس ومصر وليبيا، وتدهور العلاقات بين روسيا والغرب الأميركي ــ الأوروبي... وغيرها) لتنفتح الساحة السورية أمام التدخل الدولي المباشر بالتنسيق مع أطراف الدائرة الإقليمية. وظلت المبادرة في يد المعسكر الغربي وحلفائه الإقليميين إلى أن اتخذت موسكو قرارها الحاسم في الانخراط العسكري... فتبدل ميزان القوى الذي كان قد تعرض لخلل خطير في الأشهر السابقة للمبادرة الروسية.

إن التغير الفاصل الذي أحدثته موسكو في الساحة السورية هو الذي أوصل إلى قيام "الدائرة العالمية" بفعل "التفاهم" الروسي الأميركي على أن الأزمة في سورية بلغت مرحلة باتت تتطلب حلاً سياسياً. صحيح أن موسكو وواشنطن لم تتفقا بعد على كامل بنود التسوية المنشودة، لكن من طبيعة الأزمات المعقدة ذات التشعبات الإقليمية والدولية أن تتشكل عناصر الحل تدريجياً في سياق خطوات ديبلوماسية وعسكرية متلازمة. ويبدو لنا الآن أن "الدائرة العالمية" أعطت روسيا الضوء الأخضر لرسم معالم حل يأخذ في الاعتبار مصالح الأطراف الإقليمية والأطراف الدولية... وإن على حساب مصالح "الدائرة السورية"!

ستواجه المفاوضات المرتقبة عمليات شد وجذب بين مختلف الأطراف. وستشهد تصعيداً سياسياً هنا وميدانياً هناك. وستتغير التحالفات والمواقف بين الأطراف المحلية بما يعكس ضغوط القوى الإقليمية والعالمية. غير أن التسوية آتية لا محالة، وسيكون البند الأساسي فيها وضع "دستور جديد" للدولة السورية. وهذا ما أكده بوضوح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريحه الأخير لإحدى الصحف الإلمانية... وهنا مكمن الخطر المصيري على مستقبل سوريا!

إن السوريين المقترحين للمشاركة رسمياً في وفدي الحكومة والمعارضة لمفاوضات "جنيف 3" (في حال عقدها) هم من الذين أوصلوا الوضع السوري إلى مداه الكارثي الراهن، في حين يتم تغييب القوى القومية والعلمانية والديموقراطية والليبرالية المستقلة. وإذا ما أصرّت القوى الدولية والإقليمية على خياراتها التفاوضية هذه، وفق المشاريع المعلنة حتى اللحظة، فيمكننا أن نتوقع تسوية سورية تثبت الأمر الواقع الذي أفرزته سنوات المواجهة. فسوريا تعيش الآن حالة من الفرز الاجتماعي (دينياً ومذهبياً وعرقياً)، والفرز الجغرافي من حيث تشرذم السيطرة العسكرية على الأرض. ومن الطبيعي، في مثل هذه الأحوال، أن تأتي التسوية الدستورية السياسية على قياس الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية... ومعهم أمراء الحرب طبعاً.

أقترح أن نستعيد، ولو بشكل جزئي، الأجواء التي سبقت ورافقت ولحقت إقرار "اتفاق الطائف" الذي كان من المفترض أن "ينهي" الحروب الأهلية اللبنانية. لكنه لم يفعل، بل أسّس لجولات أخرى من المواجهات لمّا تنتهِ لغاية اليوم. ولذلك نقول إن الفرصة لم تفت بعد أمام القوى السورية المخلصة، التي نرى أن واجبها يستدعي منها التخلص من قيود وهمية تكبلها إلى هذا الطرف أو ذاك، وتبادر إلى التحرك بهدف تقديم رؤية قومية وطنية جذرية تأخذ في الاعتبار الواقع السوري المأزوم... لكنها لا تقبله قدراً محتوماً للشعب السوري. وبهذه الطريقة وحدها يمكن لـ "الدائرة السورية" أن تستعيد قرارها من براثن الدائرتين الإقليمية والعالمية!


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه