إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

صانع الأزمة... صانع الحل

أسامة عجاج المهتار

نسخة للطباعة 2016-05-26

في التاسع من الشهر الجاري، أيار (مايو) 2016، نشرت "الميادين" الغراء مقالاً للدكتورة بثينة شعبان عنوانه "الدلالات والخطوات"، يمكن قراءته على الرابط التالي:

http://www.almayadeen.tv/articles/decision-maker/35506/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%88%D8%A7%D8%AA


وقد استهلت الدكتورة شعبان مقالها – ولعله كان كلمة موجهة إلى "الهيئة التأسيسية لجاليات الاغتراب في بلاد الشام" بالقول:

إنّ أحداً في عالمنا العربي هذا لم يتوصل بعد إلى فكرة استراتيجية وخطة عمل تعمد إلى إلغاء الواقع الذي أوصل العرب كلهم إلى هذا الحضيض، وتضع الرؤى والتصورات التي يمكن أن تنقذهم منه، وتضع خريطة مستقبل مختلف وناجع لهم جميعاً. كي يحدث ذلك لا بدّ من الإيمان أولاً بفكرة أساسية بسيطة وسليمة وهي أن العروبة هي الحلّ.

في الواقع إن هذه العبارة هي العبارة الوحيدة المهمة في المقال. فكل ما عداها هو وصف عادي للوضع العام في العالم العربي، يليه وصف عن نهوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ببلاده في العقد الأخير، ومحاولة عقيمة ــ في رأينا ــ لإقامة مقارنة بين ما حصل بعد الانهيار السوفياتي وما يحصل بعد الانهيار العربي!

بلى، هناك عبارة أخرى ذات دلالة تقول فيها الدكتورة شعبان: "ومن المعروف أن صانعي الأزمة لا يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من يجد حلاً لها مهما كانت مواصفاتهم ومهما عظمت محاولاتهم، ولا يمكن للأطر ذاتها التي أنتجت هذه الأزمات أن تكون عوناً في تقديم حلّ لها".

نحن نوافق الدكتورة شعبان في عبارتها الثانية، فلا داعي لمناقشتها. ولكننا سوف نناقشها في فكرتها الأولى وهي من شقين: أولاً انتفاء وجود أية خطة استراتيجية وخطة عمل تعمد إلى إلغاء الواقع الحالي، والثاني هو أن "العروبة هي الحل".

إن الشق الأول من عبارة الدكتورة شعبان غير صحيح ولا ينطبق على الواقع إطلاقاً. فحزب البعث العربي الاشتراكي كان لديه خطة استراتيجية لا بد وأن الدكتورة شعبان على دراية بها تقوم على نظرة أساسية قوامها أن العالم العربي أمة واحدة من المحيط إلى الخليج، وأن هذه الأمة عليها واجب الوحدة انطلاقاً من شعار حزب البعث "وحدة حرية اشتراكية"، أو رؤيته العامة "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة". بل إن حزب البعث في شقيه اللذين حكما كلاً من العراق والشام (لمدة خمس وثلاثين سنة في العراق وأكثر من أربعين سنة في الشام) حاول الوحدة أكثر من مرة، إحداها كانت ما عرف بـ "اتحاد الجمهوريات العربية" بين الجمهورية العربية السورية وليبيا ومصر سنة 1971، والتي نالت موافقة شعبية قاربت المائة في المائة، حسب الإذاعة الرسمية في كل من هذه الجمهوريات آنذاك. كذلك كانت هناك محاولة للوحدة بين الشام والعراق قادها الرئيسان الراحلان أحمد حسن البكر وحافظ الأسد سنة 1978 والتي أجهضت بعد قيام الرئيس الراحل صدام حسين بانقلابه المشهور وقضائه على عدد كبير من قيادات حزب البعث العراقي. ويمكن مراجعة المقطع التالي من مذكرات العماد مصطفى طلاس لمزيد من المعلومات:

http://www.karemlash4u.com/vb/archive/index.php/t-54147.html

وهناك مبادرة ثالثة للوحدة وهي تبدو أكثر واقعية من تلك المصرية الليبية السورية، وفي نفس مستوى الوحدة الشامية العراقية من الواقعية فيما لو قامت تلك الأخيرة، ونعني وحدة دول مجلس التعاون الخليجي التي قامت سنة 1981.

إذن كانت هناك رؤية إلى الوحدة العربية الشاملة، وكانت هناك محاولات جدية لقيامها، نجح بعضها وفشل بعضها الآخر. ونحن إذ ندرس عوامل النجاح والفشل ننطلق من عاملين أساسيّين: النظرة والممارسة. فيمكن أن تكون هناك نظرة وخطة سليمتان ولكن لا تتوافر لهما عوامل النجاح بسبب ظروف موضوعية معينة. كما يمكن أن تقوم خطة عملية على نظرة فاسدة تتأمن لها ظروف النجاح، ولكن لا يمكن لها أن تستمر بسبب عيب في الأساس. ونعتقد أن وحدتي مصر ــ سورية سنة 1958 واتحاد الجمهوريات العربية سنة 1971 هما نموذج عن وحدات قامت على أساس غير سليم لأنه تخطى الواقع الاجتماعي فانهارت بسرعة. أما وحدة الشام ــ العراق فإنها، وبالرغم من قيامها على أساس علمي واجتماعي سليم، أجهضت، في تقديرنا وفي تقدير من أرخ لها من أمثال العماد طلاس، بسبب نزعة فردية طاغية التقت مع إرادات أجنبية طامعة. في المقابل، نرى أن وحدة دول الخليج، وبالرغم من عدم اشتمالها على اليمن، تبدو وحدة عملية ومستمرة، أقله حتى هذا التاريخ، وذلك يعود إلى أنها تستند إلى واقع اجتماعي منسجم هو مجتمع شبه الجزيرة العربية.

هل هناك من نظرات وخطط استراتيجية أخرى لم يكتب لها النجاح؟ الجواب: نعم. وسوف نلقي الضوء على نظرة وخطة وضعهما أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإن لم يكتب لهما النجاح بعد.

قامت نظرة سعاده على "طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى". (الصراع الفكري في الأدب السوري). ولتحقيق ترقية الحياة هذه، درس سعاده ما سماه "الحقيقة الأساسية الكبرى" أي حقيقة الفرد والمجتمع، ووضع مجموعة من الخلاصات بعد دراسات مفصلة في علم الاجتماع نعرضها هنا باختصار شديد.

رفض سعاده نظرة "الأمة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج"، بل رأى عالماً عربياً يتألف من أربع أمم هي الأمة السورية والأمة العربية (شبه الجزيرة العربية كلها، من هنا فصاعداً "العربة") وأمة وادي النيل (مصر والسودان) والمغرب الكبير (المغرب وتونس والجزائر وليبيا).

أما على صعيد الاستراتيجية، فكانت لدى سعاده استراتيجية من شقين داخلي وخارجي: الأول داخلي، أن تقوم كل من هذه الأمم في جمع أجزائها في وحدة قومية اجتماعية خاصة بها. والثاني خارجي، أن تقوم هذه الأمم الأربع بتشكيل "جبهة عربية" للدفاع عن مصالحها المشتركة والتصدي للمحاولات الخارجية الهادفة للنيل من مصالحها ومواردها، وضمناً لحل خلافاتها بأقل الأضرار الممكنة.

لم يكتف سعاده بوضع الأساس النظري والاستراتيجي للعالم العربي، بل وضع أساساً مناقبياً جديداً يقوم على ما سمّاه "الوجدان القومي" الذي هو النقيض "للنزعة الفردية" التي تشكل أساس المبادئ الأخلاقية السائدة اليوم في العالم العربي، والتي أدت وتؤدي في نظرنا إلى هذه الانهيارات الكبيرة. (يمكن مراجعة مقدمة كتاب نشؤ الأمم لأنطون سعاده ومقالتيه عن النزعة الفردية في الأعمال الكاملة، لمزيد من الاطلاع على هذين المفهومين). بالإضافة إلى ذلك، دعا سعاده أبناء شعبه وكل الشعوب الأخرى للأخذ بإيمان اجتماعي جديد قوامه المحبة: "المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بأكمله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً". (الصراع الفكري في الأدب السوري).

وفي موازاة ذلك، وضع سعاده الأساس العملي للوحدة الاجتماعية أقله في أمته السورية وذلك عبر مبادى أساسية تتعلق بالهوية والحقوق، وإصلاحية تتعلق بالعدالة الاجتماعية. فعرفّ السوريين بأنهم مزيج ناتج عن تفاعل كل الأقوام التي تمازجت في الهلال السوري الخصيب على مدى آلاف السنين، وأن حقوقهم في وطنهم ثابتة يقررونها هم أنفسهم ولا تقررها الإرادات الأجنبية. أما في العدالة الاجتماعية، فإن السوريين متساوون في الحقوق والواجبات استناداً إلى إزالة أخطر عوامل التجزئة الاجتماعية ونعني الخلط بين الدين والدولة، فدعا لفصل الاثنين أحدهما عن الآخر، ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين. كما عالج الموضوع الثاني من عوامل التفسخ الاجتماعي ألا وهو التفاوت الشاسع في مستويات الدخل بين طبقة حاكمة تتحكم بالثروات عن طريق الفساد والعنف، وطبقة محكومة مستعبَدة. فوضع مبدأ اقتصادياً يقوم على "إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة".

نحن فعلاً نستغرب هذا النفي القاطع من الدكتورة شعبان في القسم الأول من عبارتها أعلاه إذ أنه يلغي قسماً كبيراً من تاريخنا، نظرات وخططاً وعقائد بما فيها خطط حزب البعث، التي يجب دراستها نقدياً عوضاً من نفي وجودها.

نأتي الآن إلى القسم الثاني، أي الحل الذي تراه الدكتورة شعبان والذي هو "العروبة".

قلنا إننا لن نناقش الدكتورة شعبان في عبارتها الثانية، ولكن لا بد لنا من وضعها نصب أعيننا إذ يبدو لنا أن الدكتورة شعبان فيما هي تقدم حلّها، تنسى ما حذرتنا منه: "ومن المعروف أن صانعي الأزمة لا يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من يجد حلاً لها مهما كانت مواصفاتهم ومهما عظمت محاولاتهم، ولا يمكن للأطر ذاتها التي أنتجت هذه الأزمات أن تكون عوناً في تقديم حلّ لها".

والسؤال المنطقي هنا هو التالي: هل جُرِّبت العروبة، وهل نجحت أم فشلت، وهل يجوز إعادة التجربة بها أم أنها جزء من "الأطر ذاتها التي أنتجت هذه الأزمات"؟

تستطرد الدكتورة شعبان في وصفها للحل فتقول في مقالها:

"العروبة هي الحلّ للنزاعات القائمة بين البلدان العربية، والعروبة هي الحلّ لمواجهة الإرهاب في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وهي الحلّ من أجل بناء المستقبل، ولكن هل يمتلك العرب جميعاً الحرية أو الإرادة الحرّة للبحث عن سبل جريئة وعميقة للردّ الحاسم والنهائي على واقعهم المتردّي"؟

في الواقع أن هذه العبارة مليئة بالتعاميم المائعة التي تجعل من محاولة الاستناد إلى أساس صلب نقف عليه في محاولة تتبع الفكرة - الحل الذي تريدنا الدكتورة شعبان أن نأخذ به، عملية شاقة.

إن أكثر المنادين بالعروبة اليوم وأعلاهم صوتاً في العالم العربي والعالم الخارجي هم المملكة العربية السعودية وحلفاؤها المنتشرون في مختلف أقطار العالم العربي. بل إن هذا الصوت العالي يهدف إلى محاولة تقديم المملكة نفسها وحلفاءها على أنها المدافع الوحيد عن "العروبة والإسلام" في مواجهة محاولات "التفريس والتشيع" من قبل خصمها اللدود إيران. وها هو تيار "المستقبل" اللبناني يتبنى المقولة نفسها، فيقدم نفسه المدافع عن العروبة في لبنان "العربي" ضد حزب الله "الشيعي الفارسي"!

ونحن لا نشك لحظة في أن المملكة العربية السعودية فيما هي ترفع لواء العروبة شعاراً لها، ترى أنها إنما تفعل ذلك انطلاقاً من "حريتها" ومن الدفاع عن تلك الحرية، وأنها بسبب تمسكها الكبير بحرية "العرب والسنّة" في مواجهة العدوان "الفارسي الشيعي" قد استلت من قواها النفسية والمادية ما يكفي من "الإرادة الحرة" بل والعزيمة لبذل مليارات الدولارات و"الشهداء" من سعوديين وخليجيين في معركة الحرية هذه.

بل يمكن للسعودية الاستطراد ما شاء لها ذلك والقول إنها إنما تعاون "العرب والمسلمين" المضطهدين في سوريا والعراق ضد الأعاجم الكفّار، وكل ذلك باسم "العروبة" وتحت رايتها طبعاً!

ولا شك عندنا في أن نظرة العروبة لدى الدكتورة شعبان تختلف جذرياً عن تلك التي للسعودية. وهنا لب المشكل والسؤال العصي: إن لم يكن هناك من تعريف واحد للعرب والعروبة، فكيف يمكن للعروبة أن تكون "الحل للنزاعات العربية ولمواجهة الإرهاب"؟ ذلك أن السعوديين لا ينظرون إلى السوريين على أنهم عرب بالضرورة، بل "شوام".

إن موجة الإرهاب التي تطال "العروبة" السورية تموّل من قبل دول "العروبة" العربية! ولا يزايدن أحد على عروبة السعودية أو حلفائها والناطقين باسمها، فكلهم يدافع عن العروبة السعودية وكلهم يدافع عن إرهابها، مسمياً إياه "ثورة تحرر ضد النظام العلوي الظالم"!

غير أن المشكلة ليست حتى في الاتفاق على تعريف موحد للعروبة، بل إنها أعمق بكثير وتتناول المصالح المتضاربة بين أمم العالم العربي.

إن المراقب المتجرد والدارس الموضوعي للتاريخ يرى أن ثمة علاقة تاريخية ملتبسة بين ثلاث من أمم العالم العربي هي وادي النيل والعربة والأمة السورية، وأن هناك مناطق تنازع نفوذ بين هذه الأمم الثلاث أهمها سيناء وفلسطين وخليج العقبة وقوس الصحراء حيث تلتقي الصحراء العربية بالعمران السوري.

ومن الثابت التاريخي أيضاً أنه لا مصلحة داخلية إطلاقاً لا لمصر ولا للعربة في قيام وحدة سورية تشمل دول الهلال الخصيب السوري كلها. فالخوف التاريخي متبادل: كلما قامت وحدة في سورية تمددت جنوباً باتجاه مصر إذا سنحت لها الفرصة بذلك، والعكس صحيح من جهة مصر. أما السعودية، فإسكندر رياشي ينبئنا في كتابه قبل وبعد ورؤساء لبنان كما عرفتهم (ص: 243 و244) عن المساعي السعودية لمنع قيام وحدة بين أي من اقطار الهلال الخصيب:

".... سياسة إبن سعود الأساسية التي اشتغلت دوماً لمنع أي تقارب بين العراقيين والسوريين والأردنيين ودون اتصالهم ووحدتهم، وعلى الأخص اتصالهم ووحدة لبنان معهم.... إذ أن السياسة السعودية بطبيعة الحال تريد لبنان مستقلاً استقلالاً تاماً عن سوريا والبلدان العربية الأخرى، مما يتوافق مع سياستها العربية العامة في محاربة كل اتحاد يقوم على حدودها، ويستطيع به خصومها الهاشميون أو السوريون التوسع والزيادة في القوة".

لقد كنا نتمنى لو أخذت الدكتورة شعبان بعض الوقت للتأمل في الحقائق الاجتماعية التي لا غنى لأي باحث وسياسي من التأمل فيها واستيعاب أبعادها من جهة، ومراجعة الخطط الاستراتيجية والسياسية القاتلة والقرارات الخاطئة التي شاركت هي نفسها فيها، والتي أوصلتنا إلى حيث نحن. ليست الدكتورة شعبان متفرجاً محايداً أو باحثاً علمياً مجرداً. إنها جزء من منظومة عقيدية سياسية استلمت الحكم لأكثر من أربعين عاماً، وإن لم تكن هي ــ أي المنظومة ــ مَنْ صنع كل أزماتنا، فإنها ساهمت فيها إلى حد كبير.

إن صنّاع الأزمة معروفون، وكذلك صنّاع الحل. وقد آن الأوان للاعتراف بالأخطاء التاريخية القاتلة التي أوصلتنا إلى حيث نحن، عوضاً من إعادة تدوير حلول أثبت التاريخ فشلها.


* أسامة المهتار باحث في شؤون المشرق وخبير في الإدارة الاستراتيجية مقيم في كندا. من مؤلفاته: إدارة الاستراتيجية في المؤسسة العقائدية، بيروت 2009؛ منحاز بلا حدود، دمشق 2005؛ خوفاً من ولكن، دمشق 2002؛ المستحيل الممكن، كندا 2000. كما ترجم كتابي العلامة المرحوم إبراهيم متري رحباني The Syrian Christ و The Five Interpretations of Jesus من الإنكليزية إلى العربية.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024