إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أردوغان يؤسس لتركيا الجديدة على أنقاض التمرّد الانقلابي

د. هدى رزق - البناء

نسخة للطباعة 2016-07-23

إقرأ ايضاً


أثار تقصير الاستخبارات الوطنية التركية ضجة في الأوساط السياسية، فيما تحدثت معلومات عن تلقي هاكان فيدان تحذيراً حول إمكانية حدوث انقلاب قبل ساعات من تنفيذه. لم يأت تصريح أردوغان حول تقصير الاستخبارات عبثاً بل ليعبّد الطريق أمام القرار الذي اتخذ منذ أكثر من أسبوعين، أيّ قبل انقلاب 15 تموز الذي يرمي إلى إقالة هاكان فيدان من منصبه وإرساله إلى الخارج كملحق عسكري، وتعيين السفير التركي في واشنطن مكانه.

كما أنّ طرح الشكوك حول عدم كشف استخبارات الجيش للتحركات المشبوهة داخل المؤسسة العسكرية بالرغم من حيازتها لمعلومات، حول هيكلية الغولينيين أنصار غولن في الجيش وهويات الأعضاء المنضوين في الجماعة قادت إلى طرح مسألة إعادة هيكلة الجيش الذي أهين على يد الجماعات المسلحة التابعة لحزب العدالة والتنمية بعد الانقلاب، فيما جرى تسريب معلومات تفيد بأنّ خطة التطهير كانت قد اتخذت قبل الانقلاب، وأنّ اتهامات بالتجسّس كانت ستوجه لضباط في الجيش وكانت في طريقها إلى التنفيذ. حيث كان سيجري سجن البعض بتهمة الخيانة وإقالة البعض الآخر وإنّ القرار كان سيصدر عن اجتماع «المجلس العسكري الأعلى» في الأول من آب المقبل.

موضوع تطهير الجيش من جماعة غولن، كان قد طرح العام المنصرم على رئيس الأركان السابق الجنرال نجدت أوزال الذي طلب تأجيل الموضوع لعدم رغبته بافتعال مشكلة داخل الجيش، لا سيما أنّ حزب العدالة والتنمية متهم بتقليم أظافر الجيش بعد قضيتي بليوز وأرغينيكون، اللتين أدّتا إلى سجن جنرالات كبار من الجيش بحجة التآمر على الحكومة، التي كان يرأسها أردوغان آنذاك. لكن ومنذ شهرين تقريباً جرّت تبرئة هؤلاء بعدما حكم على بعضهم بالسجن مدى الحياة، وذلك بسبب غياب الأدلة.

الواضح أنّ المجلس العسكري لم يتوقع مثل هذه الانتفاضة، لكن ثمة اختراقات حدثت. افتقر انقلاب 15 تموز إلى أبسط قواعد الانقلابات، واشتراطات النجاح قياساً إلى الانقلابات السابقة في تركيا. فالانقلابيون لم يسيطروا على الحكومة والبرلمان ولا على وسائل الإعلام، لم يكن هناك أيّ تنسيق مسبق مع فروع «الدولة العميقة» من مؤسسات الشرطة والقضاء، فالانقلاب ولد ميتاً. لكنه أدّى وظيفة الانقضاض على جماعة محمد فتح الله غولن، حيث وجدوا في كلّ مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والشرطة والقضاء وفي قطاعي التربية والتعليم، وتمّ إغلاق مدارسهم وملاحقتهم تحت شعار الخيانة، وهي مسألة أخلاقية وسياسية بالنسبة للجماعة وسوف تؤثر على سمعتهم في الخارج. حيث يديرون المدارس المنتشرة في أفريقيا وآسيا الوسطى وأميركا، هذه المدارس التي طالب أردوغان الدول في فترة سابقة بتسليمه إيّاها ولم يلق آذاناً صاغية.

ومع استمرار إقالة ووضع قضاة في التصرف وأكثر من 50 ألف شخص وتحطيم صورة الجيش التركي أمام العالم أجمع، والشروع في إعادة هيكلته بعد فرض قانون الطوارئ، يتصرّف أردوغان وكأنّ هذا الانقلاب كان «هبةً من السماء»، من أجل فرض رؤيته لتركيا الجديدة التي كانت جزءاً من أجندته حتى العام 2023… ظهر إعلان حالة الطوارئ وإعادة هيكلة كلّ مؤسسات الدولة، وكأنه تنفيذ لخطة مرسومة كان ينقصها حصول هذا التمرد، فالنتيجة كانت انقلاباً على الدولة التركية الأتاتوركية وبنيتها التي أصبحت هشّة.

لعلّ المشكلة الكبرى هي تلك التي طالت مؤسسة الجيش التي كانت تعتبر علمانية قوية تحاكي التحديث الغربي. فالجيش يعيش أزمة هويّة منذ بداية حكم العدالة والتنمية. إذ تمّ إضعاف الطابع العلماني، ويمكن لهيكلة هذه المؤسسة أن تجعله أكثر حساسية للدين وأن يصبح أكثر بعداً عن الغرب.

تعود حرب السيطرة على تركيا بين جناحي الإسلام التركي السياسي والإسلام الاجتماعي إلى بداية عهد العدالة والتنمية في الحكم، فجماعة غولن سعّت للحصول على وظائف داخل الجهاز القضائي والشرطة وتغلغلت في كلّ مفاصل الدولة ومؤسساتها منذ السبعينات في ظلّ النظام العلماني المتشدّد في تركيا، من أجل إحداث تغيير تدريجي. استعان أردوغان بجماعة غولن كحليف طبيعي في بداية حكمه كونها داخل الشرطة والجهاز القضائي، وسعى إلى تقويتها بوجه العلمانيين، لكن بعد أن تمّ له الأمر، وتمكن من الحكم، عصفّت الخلافات بعلاقته معها، وهو صراع ايديولوجي وسياسي في آن، فحزب العدالة والتنمية أثبت في السنوات الخمس الماضية توجهاً عميقاً نحو الإسلام السياسي، بعد أن كان يدّعي البعد عنه لكنه عاد إليه تدريجياً في السنوات القليلة الماضية.

هذه الخلافات بدأت عام 2010 منذ إرسال «سفينة الحرية» إلى غزة حتى استدعاء القضاء لهاكان فيدان للتحقيق معه، بشأن المحادثات مع حزب العمال الكردستاني إلى محاولة أردوغان إقفال مدارسها، فدعمت الجماعة تظاهرات حديقة جزي وكشفت فضيحة الفساد عام 2013 التي طالت أردوغان وابنه ووزراءه في الحكومة مدعمة بالصور والوثائق والرشاوى.

كان ردّ أردوغان قاسياً إذ ضرب قطاعات الجماعة المالية والتجارية والإعلامية والتربوية، ووضعها على لائحة الإرهاب واعتبرها دولة موازية وبدأ بعملية تطهير في صفوفها من أجل وضع اليد على مؤسساتها. وطالب الولايات المتحدة الأميركية بتسليمه غولن أكثر من مرة، حتى إنّ إشاعات انقلاب عسكري كانت قد راجت منذ شهرين، بعد كتابة أحد المقالات في صحيفة أميركية أثناء وجود أردوغان في واشنطن، حيث قامت الجماعة بتظاهرات ضدّه. طالب أردوغان بعد الانقلاب واشنطن بتسليمه غولن، وهدّدت أوساطه بإغلاق قاعدة انجرليك، التي لم تعد تثير اهتمام الأميركيين الذين باتوا ينطلقون في حربهم ضدّ «داعش» من قاعدتهم في إقليم كردستان العراق، ومن المتوقع أن يقيموا في هذه المنطقة حوإلى خمس قواعد عسكرية.

لا يبدو أردوغان مهتماً برأي المعارضة التي وقفت إلى جانب الشرعية، والتي خشيت أنّ تطالها اتهامات الضلوع في الانقلاب، حيثُ شاع بأنّ الانقلابيين ليسوا فقط من جماعة غولن، إنما هم أيضاً من العلمانيين المتضرّرين من سياسة العدالة والتنمية.

شهِدت فترة ما بعد الانقلاب عراضة لقوة العدالة والتنمية، واتباعها من البوليس إلى القوات الخاصة إلى المسلحين الموالين للحزب، كما تشهد تركيا اليوم كمّاً للأفواه ورقابة على الإعلام، وخوفاً بسبب الرهبة من الحدث والحدّ من الحريات. ربما سينكفئ أردوغان إلى الداخل لكن الثمن الباهظ هو الحصول على السلطة كاملة في تركيا بعدما شرع في إقالة داود أوغلو وتحميله بشكل غير مباشر مسؤولية سياسة تركيا خلال خمسة أعوام، وسيقيل عاجلاً فيدان الذي سيتلقى على عاتقه تهّم أقلها التقصير. أما المعارضة العلمانية المتمثلة بحزبي الشعب وحزب الحركة القومية، فسيتمّ لحظ حصتها في التعينيات الجديدة حسب حجمها التمثيلي في تركيا الجديدة، من أجل التأكيد على «ديمقراطية» مشروع أردوغان!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024