إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أردوغان «العثماني» يستنزف إمكانات «تركيا الحديثة»

د. وفيق إبراهيم - البناء

نسخة للطباعة 2016-12-08

إقرأ ايضاً


نجحت تركيا في السنوات الـ 15 الأخيرة في التحوّل إلى الدولة الـ18 في العالم، باقتصاد قوي جداً وصلت أرقامه إلى ما يزيد عن 800 مليار دولار، من دون امتلاك ثروات ونفط ومعادن أولية. وتمكنت من بناء جيش يُعتبر من الجيوش القوية في العالم. كما ربطت تفاعلاتها بشبكة علاقات سياسية بمشارق الأرض ومغاربها. لم تعد عضواً في «الأطلسي» فقط، أصبحت قوة مركزية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وصديقة لأوروبا ونصيرة التركمان في العالم وملهمة الدول الإسلامية الفقيرة.

ماذا عن تركيا اليوم؟ ماذا فعل بها أردوغان؟

سؤال جدير بالبحث، لأن تركيا هي البلد الإسلامي الوحيد الذي تبنى سياسات تحديثية جمعت بين إسلام منفتح وإيمان بالتطور الاقتصادي العلمي، لكنها وما إن نجح مشروعها السياسي ـ الاقتصادي، حتى ابتثليت برجب طيب أردوغان، الذي تطور من عمدة اسطمبول إلى وزير للخارجية، فرئيس مجلس الوزراء ورئيساً للجمهورية، من خلال قيادته لحزب العدالة والتنمية الإسلامي، القريب من كونفدرالية «الإخوان المسلمين» في العالم. وللتمويه، نسج أردوغان علاقات جيدة مع سورية ارتدت طابعاً سياسياً ـ إقتصادياً ناجحاً. ولم تتراجع إلا مع تطور علاقات تركيا مع «إسرائيل».

انكشاف أردوغان تطور مع بدء ما سُمي زوراً «الربيع العربي». ومارس أداءً أوصل تركيا إلى خسارة معظم دوائر حركتها: دائرة المشرق العربي، الدائرة الإسلامية، الدائرة الأوروبية، علاقاتها بأميركا وروسيا، الدائرة التركمانية وأخيراً الدائرة التركية.

لعب في الدائرة العربية ورقة «الإخوان المسلمين» ساعياً إلى استيلاد كونفدرالية إٍسلامية، بنفس عثماني، يترأسها السلطان رجب الول… ففتح حدود بلاده مع سورية والعراق لكل مجاميع الإرهاب المتنوع في بقاع الأرض. وأمَّن نقل عشرات آلاف الأطنان من الأسلحة للتكفيريين المنتشرين في البلاد العربية. وموّلهم بشراء النفط السوري والعراقي المسروق وإعادة بيعه لـ«إسرائيل» والسوق العالمية. وهي عملية دائمة ومستمرة تؤدي إلى تمويل المنظمات التكفيرية والتركمانية في سورية والعراق، من دون أن ننسى الدعم التركي لإخوان مصر وإخوان اليمن وتونس. فماذا كانت النتيجة؟

سقط مشروع «الإخوان المسلمين» بالضربة القاضية في مصر وسورية وسقط معه المشروع الععثماني. وأنتجت قطيعة بين مصر وتركيا، التي لا تزال تدعم ما تبقى من «الإخوانجية» في مصر.

كما أدت سياسات أردوغان، إلى ولادة أجواء عداء عميق بين سورية والعراق، من جهة وتركيا من جهة ثانية. علماً أن هذين البلدين العربيين هما المعبر الإلزامي الوحيد لتركيا، لتدخل إلى العالم العربي من طريق البر. والنتيجة، خسارة تركيا للورقة العربية بشكل كامل.

أما لجهة الدائرة الإسلامية، فالحركة التركية فيها محدودة، لأن المساحات فيها مشغولة بالنفوذين الأميركي والسعودي، اللذين لا يريدان شريكاً ثالثاً يقدم نفسه محوراً أحادياً لا شريك له.

بالإضافة إلى أن السيد أردوغان» يقدم نفسه سنيّّاً إخوانياً، ما يستعدي، على الفور، المذاهب السنية غير الإخوانية والوهابيين وخوارج عُمان والجزائر والشيعة بمختلف أصنافهم، من دون أن ننسى المسيحيين العرب والقاطنين في بلدان إسلامية غير عربية.

وهكذا، تسقط، أيضاً، الدائرة الإسلامية وتقفل أبوابها أمام الحركة التركية، التي يبدو أنها استسلمت وعادت إلى توسيط قوى غربية وعربية لمصالحة مصر.

ماذا إذاً عن الدائرة الأوروبية؟

منذ 1986 تحاول تركيا التسلّل إلى الاتحاد الأوروبي، بذريعة أن قسماً من أراضيها يتبع القارة الأوروبية جغرافياً اسطمبول . ثلاثة عقود مرت ولم تفهم تركيا أن أوروبا لا تريدها بلداً أوروبياً. وفعلت وكأنها لم تستمع إلى مستشارة المانيا ميركل وهي تلعلع قائلة: تركيا ليست بلداً أوؤروبياً ونقطة على السطر.

لكن تركيا أردوغان، الطامحة إلى الاندماج في اقتصاد أوروبي مزدهر والموعودة من واشطن بالانتساب إلى هذا الاتحاد، لا تزال تامل بذلك. وهو السبب الذي جعلها تحاول ابتزاز الأوروبيين، بالتهديد بفتح حدودها مع أوروبا، للاجئين السوريين والعراقيين والمصريين. يحاولون ترويع أوروبا بهذا القدر من النازحين، الذي تبيّن أن قسماً منه إرهابي. وقد يكون هؤلاء منتمين إلى تنظيمات أصولية مدعومة من تركيا.

يحاول أردوغان، إذاً، لعب دور «الجنتلمان» الذي يأوي لاجئين و«القرصان» الذي يستخدمهم والإرهابي الذي يمولّهم ويفجرهم. وشعاره أدخلوني إلى الاتحاد الأوروبي وإلا، فإن الإرهاب سينتشر في مدنكم كالفطر.

ونتيجة لقرف أوروبا من أسلوب رجل العصابات أردوغان، جمّد برلمانها المباحثات لانتساب تركيا إلى الاتحاد. وتكون الدائرة الأوروبية قد سقطت بسبب أسلوب أردوغان وعنجهيته.

ماذا عن العلاقات التركية بكل من أميركا وروسيا؟

هي دوائر بالغة الأهمية: لأن تركيا شكلت جزءاً محورياً من الجيوبولتيك الأميركي منذ 1945 وحتى 1990 . استعملتها واشنطن سداً في وجه الاتحاد السوفياتي لمنعه من الوصول إلى المشرق العربي بسهولة. المضائق من بحر أنروف الأسود، مرمرة، إيجه والمتوسط، مفتوحة لكنها مراقبة من قبل الأميركيين والأتراك. وبالإمكان إقفالها في الأوقات الحاسمة. لذلك، اهتمت واشنطن بتركيا وأقامت فيها قواعد عسكرية ضخمة، فيها سلاح نووي. وسهلت لها شؤون التطور الاقتصادي.

لكن أهمية تركيا أميركياً تراجعت، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. واتجهت نحو التراجع التدريجي، على الرغم من ازدياد قوة تركيا اقتصادياً وعسكرياً في هذه المرحلة.

إن استشعار تركيا بتراجع الاهتمام الأميركي بها، جيوبوليتيكياً، جعلها تحسن علاقاتها بروسيا، كوسيلة لابتزاز الأميركيين. وتسارع إلى استعمال ورقة «الإخوانجية» للبحث عن دور بحجم أهمياتها. لكن روسيا المتبصرة بالاهتمامات التركية، لعبت في المساحات غير الخطرة. لبّتْ بعض القلق التركي في نشر وحدات تركية في منطقة سورية، تطيح من خلالها مشروع كردستان كبرى، تصيب أنقرة بالذعر.

لكنها لجمتها في مناطق أخرى، كان الطموح الجنوني للسلطان يريد التقدم إليها.

لذلك، تبدو تركيا محصورة، بين أميركيين لا يريدون لها دوراً خارج حدودها في سورية والعراق. وبين روس، يستعملونها لضرب الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

ويمكن، هنا، إضافة خسائر تركيا مع أميركا وروسيا إلى مسلسل الدراما الأردوغانية المتتالية، التي لا تنفك تستولد النكبات تلو النكبات. لقد حاولت أنقرة ربط الدائرة التركمانية بها، أي إقامة علاقات مع الناطقين بالتركمانية خارج تركيا أو ذوي الأصول التركمانية. أثارت حنق الصين لمحاولتها نسج علاقات مع أقليات «الإيفورا» الإسلامية. ونقلت المئات منهم إلى سورية كإرهابيين خطرين، في تنظيمات تركمانية صرفة، ما أدى إلى توتر العلاقات بين بكين وأنقره. وسعت إلى التأثير على التركمان والدول التركمانية في آسيا الوسطى وأذربيجان، فأثارت غضب روسيا وأميركا في آن معاً، لأن المناطق المذكورة هي مقفلة لغير الروس والأميركيين. لأن فيها ثروات غاز ونفط ومناطق استهلاك وأهميات جيو استراتيجية.

ولم ينسَ أردوغان بعض الأقليات التركمانية في سورية والعراق، فنظمها في أطر عسكرية وجعلها تستعدي المستضيفين العرب من سنّة وشيعة.

وبذلك يكون اردوغان قد ألحق الدائرة التركمانية بمعظم الدوائر التي أقفلت في وجهه مسالكها.

وبالمحصلة، فإن أردوغان يواصل تدمير تركيا الحديثة، محاولاً إعادتها إلى عصر الدكتاتوريات والسلطنة والطغاة. وبحجة مكافحة انقلاب قام ضده، اعتقل الطاغية نحو 150 ألف عسكري وموظف وشرطي وإداري وقاضٍ. وهو رقم يكفي لإشغال دولة ينيف عدد سكانها عن عشرة ملايين نسمة. ويتندرون في تركيا قائلين: إن أردوغان اعتقل كل الأتراك باستثناء السيدة أمينة وهي زوجته .

وبذلك تجتمع سقطات أردوغان الداخلية القاتلة، مع التدمير لمواقع النفوذ التركية في العالم، إنه يحاول إقامة ديكتاتورية سياسية، تمهد لإعادة إعلان نظام رئاسي يستلهم صلاحياته من صلاحيات السلطان العثماني.

أردوغان العثماني استنزف تركيا الحديثة، نعم استنزفها بإلغاء دوائر حركتها وبإعادتها إلى نظام قرون وسطى، لا يوجد فيه إلا القمع والقتل والإساءة إلى العرب والمسلمين، كالدب الذي حاول أن يرقص فدمّر كل ما يحيط به.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024