شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2017-01-26
 

مفهوم الحرية في فلسفة أنطون سعاده - المدرحية القومية الإجتماعية 3

يوسف المسمار

النظرات التي اعتمدها المنظرون في فهم الانسان

ان توضيح مفهومنا للإنسان يتطلب ، بالضرورة ،إيضاح نظـرتنا الى الحياة الإنسانية في نشوئها ونموّها وتطورها وارتقائها . وهذه النظرة هي نظرة أنطون سعادة التي انبثقت منها فلسفته المدرحية القومية الاجتماعية التي لها مفهومها الخاص في تفسير معنى الانسان ومعنى الحرية الانسانية ومعنى قيمة الحرية العليا وغيرها من القيَم .

وبما ان هذه الدراسة لا تـتسع لبحث اجـتماعي وفـلسفي كامل يفي الموضوع حقه من جميع جوانبه ، فإننا نـكـتـفي بالإشارة والتـنـويه بأهم النظـرات والنـظـريات التي استـنـد اليها أو التـزم بـها النـوع

الإنســاني وجماعاته الثقافية في خـطـوط وخِـطـط تـفـكيرها التاريخية التطـوريـة ،لـنـشـيـر بـعــدها الى نـظـرتـنا الجـديـدة الى الانسان التي يـمكـن تـسـمـيـتـهـا بالنظرة المجتمعية الانسانية العقلية المادية - الروحية (المدرحية) التي ينبثق عنها مفهوم الحرية الاجتماعية الانسانية العقلية وغيره من المفاهيم. فالانسان الاجتماعي العاقل هو الحر ولا وجود للحرية الا بالعقل والوعيّ ، والوجدان الاجتماعي.

1 ـ النظرة الـروحية التكهنية الغيـبـيـة

هي نظرة تكهنية تصوّرية تقرر انبثاق " الوجـود من العـدم " ويـرى اصحابها ودعاتها الإنسان في كمال وجوده فـردا ً ، ويـرون ايـضا ً البـشــر في كل بيئاتهم ومجتمعاتهم عائلة واحدة وأصل البشر فرد واحد ، ويتركز بنظرهـم أسـاس المثال الأعلى للقـيـَم الانسانية في الأسـاس الغـيـبي الذي تكهنوه والـذي جاءت القـيـَم الإنسانية تعـكس بحسب تكهّنهم بعـضا ًمن ارادتـه ، وتـتـحـرك بأوامـره تبعا ً لنواميسه وقـوانينه التي يخرقها بمعجزاته ، ويعطّل سـيـرها حـيـن ومتى يشـاء . وهـذه النـظـرة هي أرقى ما تـوصل اليـه الإنســان قـديـما ً في ثـورته على بدائـيته ووحشيـته على الرغـم من كـونها نظـرة ماورائـية افـتراضية تكهـنيـة جزئـية أدت الى مفهـوم فردية القـيـَم وماورائـيتها ، بحـيـث تكهّنت ورأت الحـرية مـثـلا ً حـرية فــردية. ورتـّـبت على الفـرد الانســاني مســؤلية تـجـاه قـيـَـم ماورائـية مـجـردة تـهـيـمـن على كل تـفـكيـره ، وتسـيـطـرعـليه سيـطـرة تامة . وهذه النظـرة تتعلق بمسألة نشوء النوع البشري التي كما ورد في كتاب نشوء الأمم للعالم الاجتماعي أنطون سعاده " من المسائل التي شغلت عقل الانسان منذ ابتدأ الانسان يشعر بوجوده ويعقل نسبته الى مظاهر الكون ونسبة هذه المظاهر اليه . فأخذ يتكهن صدوره عن عالم غير هذه الدنيا يعود اليه بعد فناء جسده . ولم يكن هذا التكهن الراقي في التصوّر مما تنبه له الانسان كما يتنبه للموجودات الواقعية ، بل كان درجة بارزة في سلّم ارتقاء الفكر سبقتها درجات من التخرصات الغريبة ".وهذه النظرة التوهمية التكهنية الافتراضية لا تـزال تتحكم بالمـجـمـوع الأعظم من البشر في كل مجتمعاتهم .

التمييز بين النظرة التكهنية والايمان بالله

ولا بد هنا من التمييز بين النظرة الروحية التكهنية الغيبية التي تقول:بانبثاق الوجود من العدم والنظرة الايمانية بالله رب العالمين . فالعدم عدم. والوجود وجود . والله أو إلـه العالمين هو الوجود الباقي وليس عدم . ولو كان عدماً لما استطاع أن يكون وجوداً .والايمان بالله قد يكون بالاكراه كما يكون بالرغبة والترغيب . كما ان عدم الايمان قد يكون بالقسر كما يكون بالطمع والاغراء . وأعلى درجات الايمان الصحيح ما عبّر عنه الامام عليّ بن أبي طالب حين خاطب الله بقوله " ما عبدتك طمعاً بجنتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ". وانطون سعاده لم يكن مؤمنا وحسب حين قال: " كلنا مسلمون لله رب العالمين ..." بل تجاوز سقف الايمان الى الشعور والاحساس بوجود الله وقدرته فقال " أمي وبلادي ابتداء حياتي وستلازمانها الى الانتهاء ، فيا أيها الإلـه أعني لأكون باراً بهما " .

الايمان بالله يبدأ بالتلقين والاقناع والاقتناع والشك والترغيب والاكراه ويمكن أن يتراجع ويتقهقر الايمان الى الريبة والشك بالتضليل والتشويه والجبر والترغيب والقهر. أما الاحساس المادي-الروحي (المدرحي) الصحيح فلا يتراجع ولا يتقهقر بل يعمق ويتسع ويمتد بلا حدود أو سقوف. فلا يخلطن أحد بين التكهُن والايمان بالله فقمة الايمان الصحيح بالله الذي هو الاحساس بالله الذي يجعل الايمان مطلقاً لا تقهقر بعده .

2 ـ النظرة المادية التكـهـنـية الافتراضية

هي نظـرة تصوّرية افتراضية تكهنية أيضاً تـقـرر انبثاق الـوجـود من" تـطـور مادي تلقائي ". وقــد رأى أصحابـها ودعاتها وفلاسفـتها الماديـون الإنسان في تمام وجـوده ايضا ً وجـودا ً فــردا، ورأوا البشــر رغم تمايـز وتـمـيـّز بيئاتهم ومجتمعاتهم مجـتمعا ً واحـدا ً ، واعـتـقـدوا أن المثـال الأعلى للقـيـَم الإنســانية بحسب مفهـومهم ، يـتـركـّز في الأســاس المـادي الـديالكـتيكي الجدلي الـذي جاءت القـيـَم الإنسانية تـعـكس بعـضا ً من جـدليته وتـتـحــرك تـبـعا ً لنامـوس تكهّن وافتراض حـتـمـيـتـه الـذي لا يخضع لتـغـيـيـر الا تـغـيـيـر القـانون الجـدلي .

وهـذه النظـرة كانت رد فعـل على النظرة الـروحـية الغـيـبـيـة الإفـتـراضيـة التكهنية . فـتـناقـضت معها من حـيث النتائـج الأخيـرة ، وانسجـمـت النظرتان التكهنيتان الروحية والمادية من حـيـث التصوّر التكهني وأسلوب المواجهة ،وموقفهما من علة الكون.فـحـل إفتراض " التطـور التلقائي "عـنـد الفلاسفة الماديين مـحـل افتراض " واجب الوجود"عـنـد الفلاسـفـة الروحـيـيـن وكلا الافتراضين تكهّن . مما أدى الى مادية القـيـَـم بـدل ماورائـيـتـهـا ، وثنائـية التناقـض في المثال الأعلى المادي بـدل الوحدانية الغيبية في المثال الأعلى الروحي .

نشوء المفهوم الجزئي

وعن هاتين النظرتين الجزئيتين نشأ مفهوم الانسان الجزئي فرداً ومجموعة، ونشأ مفهوم الحرية الجزئية الفردية والمجموعية أيضاً فاختلط مفهوم الحرية بالحقوق .حقوق الفرد وحقوق المجموعات الدينية المؤمنة الطقوسية والمجموعات العلمانية غير المؤمنة، واختلط الحابل بالنابل ،وحلّ التنابذ والتباعد في الآراء والمفاهيم. وكذلك هاجت حروب الالغاء والتكفير بين الجماعات الانسانية مهددة البشرية بمصير الفناء والتلاشي باسم مفهوم الحرية الجزئي التفتيتي الذي تأرجح وتراوح وتناثر بين حالتي الانكماش والانفلاش أدتا الى تعقّد وتقوقع واختناق نفسيات الاقليات الاتنية والطائفية والفئوية ، وتغطرس وانتفاخ وتورّم نفسيات الاكثريات الملية والطائفية ....

3 ـ نظرة سعاده الى الحياة الانسانية

وهذه النظـرة هي عنوان نظرتنا المجتمعية الإنسانية الواقعية التي هي ليست رد فـعـل على النظرة الروحية،وليست رد فـعـل على النظرة المادية. وانما هي نظرة عملية واقعية علمية شاملة الى الواقع الإنساني في نشوئه ونموّه ، ونشوء المجتمعات وتطورها ، ونشوء الأمم وتمدنها وارتقائـها،ونشوء التاريخ والحضارة، ومعـنى القومية ووعيّ مضامينها وفهم واستيعاب القـيـَم الإنسانية العليا وممارسة الصراع لتـحـقـيقها. وذلك انطلاقاً من قاعدة الواقع الطبيعي المحسوس التي اكتشفها واستند اليها العالم الاجتماعي والفيلسوف انطون سعاده وأشار اليها في كتابه "نشوء الأمم" بعد بحث ودرس وتحقيق " لا بشر حيث لا أرض ، ولا جماعة حيث لا بيئة ، ولا تاريخ حيث لا جماعة "

هذه النظرة لا تبـدأ مما قـبـل الإنسان . ولا تـهتم بما هو خارجه او بعده بل تهتم بكل ماله علاقة به وبتحسين مستوى حياته . ان هذه النظرة تـبـدأ من وبالإنسان . وتهتم به ، وبكل ما من شأنه تـحسين حياة الإنسان وتجويدها وتـشريفها وتوسيع آفاق تقـدمها وترقـيتها، وهي تـنـتهي فيه وفي ترقية حياته باستمرار. وهي ترى أن الإجتماع كما ذكر المعلم أنطون سعاده في مـؤلفه العلمي نشوء الأمم "حـتـمي لـوجـود الإنسان، ضـروري لبقائـه ".

وعلى هذا فـقـد قـررت هذه النظرة أن الإنسان في كمال وجـوده هو انسان ـ مجتمع وليس انسان ـ فـرد،وأدركت من البداية أن أساس الإرتقاء الإنساني ليس أساساً روحياً وحسب ،ولا هو أساس مادي خالص بـل هـو أساس مادي ـ روحي . أي مـدرحي دون ثنائـية . أي انساني اجتماعي.

وهذه النظرة تنطلق من نظرة المعلم أنطون سعاده وتـعـمل بقوله الشهير"ليس المكابرون بالروح بمستغـنيـن عن المادة وفلسفتها وليس المكابرون بالمادة بمستغـنيـن عن الروح وفلسفته . إن أساس الإرتـقاء الإنساني هـو أساس مادي ـ روحي وإن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه".

وهي ترى بعين الوضوح واليقين والعلم مجتمعية الإنسان ومدرحيته لا فـرديته المادية ولا فـرديته الروحية، وترى أيضا ًبعين الواقع والعلم أن الكرة الأرضية الكروية هي واقع بيات أرضية جغرافية متعددة ومتنوعة وان العالم الإنساني هـو واقـع شعوب ومجتمعات قـومية متمايزة . وهذا ما يتفق مع ما ورد في القرآن الجليل:"يا أيها الناس إنَّـا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم قبائل وشعوباً لتعارفوا. إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم ".

انه واقـع أمـم.واقـع مجتمعات انسانية ثقافية حضارية متعايشة متعاونة ولا يمكنها ان تعيش وتـتـطور وترتقي وهي المعتزلة الواحدة منها عن الأخرى، بل عليها ان تكون على اتصال بعضها بـبعض.

وهذه النظرة ترى أيضا ً أن مطلقية القيَم الإنسانية هي في كونها قـيـَم مـجـتمعية قـومية مـدرحـية انسانـية مـتــنوعة في انسجام ، ومـتـعــددة في تناغـم ، ومـتـمايزة في تفاهم .

وبناء على ما تـقـدم فإن مسؤلية الفـرد الإنساني النهائـية ليست ولا يمكن ان تـكون تجاه القـيـَم الماورائـية الغيبية المجـردة ، ولا تجاه المثال المادي في الحياة ، وإنما هي مسؤولية تجاه المجتمع الذي ينتمي اليه الفـرد "ولا يستـطـيع اختياره إلا بـقـدر ما يختار والديه" كما عبَّر عن ذلك أنطون سعاده . فالمجتمع هـو مـصـدر الأفراد وهـو بالتالي مـصـدر القـيـَم وغايتها ، وهـو أيضا ًالمدى الصالح والحيوي الذي يـفـسح المجال لبروز الشخصية الـفردية ونـمـوّها ورقيّها واطلاقها الى أبـعـد مـدى .

وعلى هذا الأساس فإننا نجد أن القيَم الفـردية أو الفـئوية أو المذهبية أو الطبقية لا تستـطـيع مهما ارتقت أن تـصل الى مستوى القـيـَم الحقيقية الإنسانية ، لأنها لا تـقـدر أن تـتـعـدى في اهتماماتها نطاق الفرد أو الفئـة أو الملّة أو المذهب أو الطبقة أو الأقلية أو الأكـثرية . وبما أن المجتمع يحضن الفرد والفئة والملّة والمذهب والطبقة والأقلية والأكثـرية وكل الشرائح ، فإن القـيـَم القومية الإجتماعية الإنسانية هي قـيـَم جميع الأفراد والفئات والملل والمذاهب والطبقات والأقليات والأكثريات وكل الشرائح الإجتماعية.

** يتبع


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه