إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

نتائج الانتخابات الفرنسية: ترامب يطيح بشبيهته!!

د. وفيق إبراهيم - البناء

نسخة للطباعة 2017-05-09

إقرأ ايضاً


لكلّ انتخابات غربية طابقان منفصلان: داخلي يعكس الاهتمامات المحلية في الاقتصاد والضرائب والمجنّسين والبطالة والأقليات، فيما يجسّد الطابق الثاني السياسات الخارجية للدولة.

ويبدو أنّ النصف الثاني من ولاية الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في مطلع هذا القرن، هو الذي يؤرّخ لمحورة الانتخابات في عموم الغرب حول الطبقة الداخلية مع ثبات عميق في الالتزام بالسياسة الأميركية ومن دون مناقشة أو تبديل.

أسباب هذه الوجهة شديدة الوضوح، تعود إلى سقوط سياسة تعدّد الخيارات عند الأوروبيين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتحوّل واشنطن مرجعية عالمية حصرية. ما جعل دولاً أوروبية بعراقة بريطانيا وفرنسا تستجدي أدواراً اقتصادية من «الأنكل سام» ذي الأصول الأوروبية.

لذلك تحوّلت الماكينات الحزبية في أوروبا إلى الغوص في تفاصيل الشؤون الداخلية لبلدانها بكامل تشعباتها، وصولاً إلى تأييد «المثلية الجنسية» وإطلاق وعود بمكافحة البطالة والعمال الأجانب والتضخم ومبادئ النظام الحر والديمقراطية. وذلك لمزيد من الاستقطاب وصرف الاهتمام عن الأسباب الفعلية التي تؤدي إلى التراجعات الاقتصادية العميقة.

من هنا يجب التنبّه إلى أنّ السيدة مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية، دخلت منذ أيام عدّة في انتخابات خسرتها أمام ماكرون الذي أصبح رئيساً للجمهورية الفرنسية في مرحلة شديدة الحساسية تلت نجاح ترامب بأشهر عدة فقط، وخسرتها لأسباب داخلية جداً تمّ البناء لها خارجياً. في هذه المدة البسيطة فقط، قدّم السيد الجديد للبيت الأبيض صورة يكشف عن قوته في التغيرات الداخلية وعجزه عن مقاربة السياسة الأميركية في الخارج، مع تغيير بسيط وهو رفعه مستوى فرض الأتاوات على الحلفاء.

داخلياً، أثار ترامب هلع المجتمعات المتشابهة التكوين في الغرب، وآخرها تعاونه مع مجلس النوّاب الأميركي على إلغاء الـ»أوباما كير»، أي التأمين الصحي الذي يستفيد منه الفقراء والطبقات الوسطى، واستمراره في الهجوم على المجنسين الأميركيين من ذوي الأصول المكسيكية واللاتينية والإسلامية، والسود أيضاً.

وهذا ما أرعب الفئات المتشابهة في معظم البلدان الغربية، وفي طليعتها فرنسا، لأنّ الرئيس الأميركي عاود التموضع على سياسات أسلافه على المستوى الخارجي، اتحاد أوروبي «إسرائيل» السعودية اليابان شرق آسيا، مع محاولات إرساء قواعد للتفاهم مع الصين وروسيا باعتماد سياسة العصا والجزرة.

ضمن هذه الأجواء، وبعد يومين فقط من إلغاء التأمين الصحي الأميركي، جرت الانتخابات الفرنسية، واستطاع ماكرون أن يحظى بتأييد توليفة لا يمكن أن تجتمع إلا في الأحلام: كبار المصارف، مالكو وسائل الإعلام، الطبقات العليا… وغالبية الطبقة الوسطى والمجنسين من ذوي الأصول الإسلامية وسود أميركا. أمّا السيدة لوبان، فنالت أجزاء من اليمين الفرنسي، لكنها لم تكسب تأييداً كبيراً لدى فقراء فرنسا وطبقتها الوسطى. وهذا يكشف فشل برنامجها الانتخابي الذي استند إلى موضوع رئيسي، وهو أنّ فرنسا تعاني من انهيار اقتصادي سببه العمالة الأجنبية المجنّسة ورحيل الرساميل الفرنسية للاستثمار في بلدان الشرق الأقصى، حيث العمالة رخيصة والضرائب قليلة.

وكان يُفترض أن تجذب هذه الشعارات الناخبين في الطبقات الوسطى والفقيرة، فلماذا فشلت؟

تجربة الرئيس ترامب على حداثتها انعكست بالخيبة على الناخبين في فرنسا، للتشابه العميق بين ترامب ولوبان، فكلاهما حاول استثارة الحمية الوطنية، وركّزا على بناء هجمات على المسلمين والسود اللذين يشكلان جزءاً أصيلاً من مجتمعاتهما، وكلاهما اتهم الرأسمالية الوطنية عندهما بتبني عولمة أدّت إلى عرقلة الاقتصادين الأميركي وفرنسا.

وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العولمة التي تعني فتح الحدود السياسية أمام حركة انتقال السلع، كان الغرب يريد منها إزالة الضرائب وأنظمة الحماية أمام تحرّك سلعه نحو العالم الثالث الذي لا يمتلك سلعاً ولا ينتج كفاية، وتحوّلت العولمة إلى نقمة للأسباب التالية: صعود صيني عمودي بسلع رخيصة، ونجاحات ألمانية ويابانية تمكّنت من الحفاظ على استمرار الاقتصاد الداخلي والانتشار خارجياً. أي ظلّت المصانع فيها تنتج وتؤمّن أعمالاً للطبقات الوسطى والفقيرة، ونافست عبر العولمة في اختراق الحدود الاقتصادية للدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية.

بالمقابل، هاجرت الرساميل في فرنسا وأميركا للاستثمار في البلدان الرخيصة، فأقفلت مصانع كثيرة في فرنسا أدّت إلى تراجع الإنتاج، وبالتالي إلى خسارة الحركة التصنيعية، ما أنتج تصاعداً في البطالة والتضخّم والديون العامّة.

قدّم ترامب نفسه على أساس أنّه الوصفة الضرورية لإعادة الازدهار الأميركي، لكنّه استهدف بالمقابل فقراء أميركا والمجنّسين، وفعلت مثله لوبان. وما أن ألغى ترامب التأمين الصحي، حتى شعر فقراء أميركا «الأميركيون» أنّهم مستهدفون أيضاً. وكذلك شعر المجنّسون في فرنسا والفرنسيون «الفقراء الأصليون»، الذين أصيبوا بخيبة أمل من شبيهة ترامب الفرنسية، وأحسّوا أنّهم مستهدفون بدورهم. لذلك تمكّن ماكرون من تجميع كلّ الفئات الطبقية بشكل يثير التساؤل والريبة، فهل تعمّد مجلس النوّاب الأميركي إلغاء التأمين الصحي بطلب من ترامب قبل الانتخابات الفرنسية مباشرة بهدف ترحيل مؤيّدي لوبان من بين الفقراء إلى تأييد ماكرون؟

أمّ أنّ الأمر مجرّد مصادفة؟

إنّ مَن يرى الذبابة على سطح الأرض بأقماره وأجهزة تجسّسه، ليس عاجزاً عن صناعة مواقف تضعضع اتجاهاً انتخابياً وتجذب آخر بين ليلة وضحاها. بالمقابل، يجب الإقرار بأنّ لوبان تعرّضت لهزيمة انتخابية، لكنّها نجحت في بناء أقوى جبهة معارضة فرنسية تتسلّمها جهة واحدة بمفردها، وهي الجبهة الوطنية الفرنسية ذات الشعور العميق بفرنسيّتها تجاه المجنسين، وتجاه السيطرة الأميركية أيضاً.. وهذا أمر جديد، أنّ هناك تبعيّة فرنسية إزاء السياسة الأميركية بدأت مع فشل الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك مطلع هذا القرن، في محاولة بناء سياسة فرنسية مستقلة، فأسقطت محاولاته وانتمى إلى المعسكر الأميركي.

ومنذ ذلك التاريخ أصبحت سياسة فرنسا الخارجية ملحقة بسياسات واشنطن، لا تشذّ عنها، حتى أنها تسبقها في التعبير عن مصالح أميركا في معظم الأحيان. هكذا كان حال الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي لم يسجّل مرة واحدة اعتراضاً على موقف أميركي مهما كان قاسياً.

وتميّزت ولايته بتراجع الدور السياسي الفرنسي عالمياً وبدء أزمة اقتصادية عميقة. أما وريثه فرنسوا هولاند فلم يبدّل في السياسات، ولم يترك أثراً في السياسات الداخلية والخارجية، حتى أن مواقفه لم يأخذها طرف على محمل الجدّ. كان يقول إنّه سيهاجم سورية ويتراجع بعد تراجع واشنطن، يهدّد الرئيس الأسد وسرعان ما يعود إلى نغمة التعاون مع الأسد، وذلك حسب اتجاهات الريح الأميركية… يعادي موسكو ويصالحها استناداً للحركة الأميركية التي اتّخذها مؤشراً لحركته، ما حدا بالإعلام الفرنسي إلى وصفه بالأحمق.

يتبيّن بالمحصّلة أنّ حكّام فرنسا منذ جاك شيراك وحتى ماكرون، لم يمارسوا سياسات متناقضة رغم الاختلاف في انتماءاتهم الحزبية. شيراك كان ديغولياً، وكذلك ساركوزي الذي كان يمينياً بنكهة اشتراكية. أمّا هولاند فكان عضواً في الحزب الاشتراكي، وكذلك ماكرون الذي ابتدأ في الحزب الاشتراكي وانتهى رئيساً للجمهورية ولحركة سياسية اسمها «إلى الأمام»، بعد أنّ مرّ في إدارات مصارف روتشيلد متعاوناً مع عشرة مليارديرية من أغنى أغنياء فرنسا، ما أدّى إلى تنصيبه وزيراً في عهد سلفه هولاند الذي أفسح له الطريق إلى الرئاسة.

وهذا يدلّ على سقوط الاتجاهات الحزبية في فرنسا، ونجاح حزب وحيد هو العولمة المطيعة للسياسات الأميركية واستمرار فرنسا جزءاً من المشروع الأميركي الذي يتطلّب رئيساً مثل ماكرون، يفهم كيف يزيل العقبات من أمام المشروع الاقتصادي الكوني الممسوك من قِبل واشنطن وقواها الرأسمالية المتعاونة مع أمثالها في فرنسا وبريطانيا.

السيدة لوبان هي إذن ضحية سياسات ترامب ونظام العولمة المستعد لإطاحة هذا الأخير إذا استمرّ في رفع عقيرته ضدّ إزالة الحدود.

فرنسا إلى أين؟ خروجها من المستنقع الأميركي صعب حالياً، لأنّ هذا الأمر يتطلّب قامة بحجم الجنرال ديغول. وهذا بدوره يحتاج إلى ظروف شبيهة بما حدث في الحرب العالمية الثانية من سطو أميركي على فرنسا، يعيد تجديد دوره في المرحلة الحالية.. وهذا لم يأتِ أوانه بعد.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024