إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

كركوك.. سقطت «حدود الدم»

نظام مارديني - البناء

نسخة للطباعة 2017-10-17

إقرأ ايضاً


سقط مصطلح «حدود الدم» الذي أطلقه رئيس «إقليم كردستان» مسعود البرزاني، في إشارة منه إلى أين تطأ أقدام البيشمركة ستكون حدود «إقليمها».. هذا المصطلح سقط بلا رجعة بعد دخول القوات العراقية إلى مدينة «النار الأزلية»، ولكن من الغرابة القول إن أحداً من القيادات الكردية المعارضة للاستفتاء وتداعياته لم يمنح «سلّم» نجاة للبرزاني لينزل فيه عن ورطة «وهم الدولة» في ظروف غير طبيعية، وتحفظ له موقفه أمام جمهوره.

والصراع الإثني في المدينة النائمة على بحيرة من النفط مثل جمر كامن قابل للاشتعال في أي وقت، حيث تسكنها أربع جماعات متباينة في وجهة نظرها للمدينة، رغم أن الكلدو آشور بعيدون عن هذا التنازع الذي يظهر على أشدّه بين العرب والأكراد من جهة، وبين الأكراد والتركمان من جهة ثانية. وقد عمق الاحتلال الأميركي من الصراع، غير أن المحصلة واحدة: بؤرة توتر في شمال العراق تعكس حالة من المرارات والاحتقانات القابلة للانفجار، حيث قد يختلط الدم بالنفط العائم فيها. وحيث تتعرّض الهوية والشخصية الوطنية لعملية تذويب خطيرة تتم في شكل علني منظم ومباشر.

وكان النظام السياسي العراقي الذي صاغه الاحتلال الأميركي ما بعد 2003 يقوم على تمثيل الهويات الإثنية في البلاد، في ما يُعرَف بـ «الديمقراطية التوافقية»، وهو المصطلح الذي يتغلغل في المجتمعات المتعدّدة المكونات لزيادة تفتيتها وتكريس انقساماتها، ولعل نائب الرئيس العراقي اياد علاوي كان من أوائل مَن حذّروا من «الديمقراطية التوافقية» ومخاطرها على العراق. وقد شكل التأكيد على مظلومية الكرد وسيلة قادة الإقليم الذهبية لتعميق هوية الانتماء إلى العرق وتأجيج صراع الإثنيات الذي كان خامداً أصلاً بعدما أشعل فتيله نظام صدام حسين حينما لعب بالديمغرافية السكانية لمدينة كركوك.

مَن يقرأ جيداً في السياسة كان سيعرف أن أهداف عمليات تحرير «الحويجة» في محافظة كركوك لم تكن إلا عملاً عسكرياً استراتيجياً للاقتراب من الإقليم عسكرياً.

عمليات «قادمون يا حويجة» قرأ توقيتها رئيس معهد الدراسات الكردية في برلين «فرياد عمر» مع قناة DW الالمانية باعتبارها «تضرب 3 عصافير بحجر، فتحرّر المنطقة من «تنظيم داعش»، وتتأهب للانقضاض على الاكراد، كما تستعيد أجزاء من محافظة كركوك الواقعة بصورة أكبر تحت السيطرة الكردية» وهو ما حصل.

عملية تحرير الحويجة جنوب إقليم كردستان، منحت «غطاء كبيراً» لوجود قوات عراقية في المنطقة، وفق فرياد عمر، الأمر الذي يشكل بكل الأحوال خطراً عسكرياً واستراتيجياً بالنسبة لـ «إقليم كردستان»، لكونه بذلك على وشك خسارة منطقة غنية بالنفط والغاز بالنسبة له، الى جانب احتمالية أي انقضاض عسكري من جانب بغداد.

بكل الأحوال، الساعات الماضية حسمت بصورة كبيرة شكل العراق المقبل، إذا لم يتورط البرزاني أكثر بدماء الكرد.

يدرك البرزاني أن أي حزب أو فئة أو جماعة لا يملك أي تخويل من العراقيين تعطيه حق التصرف لإقرار أي حقوق خاصة لأي فئة أو جماعة إثنية تتعارض وتمسّ وحدة المجتمع العراقي، لأن قرارات صعبة كهذه يجب أن تخضع لاستفتاء عام ليبدي الشعب كله رأيه في تثبيت الحقوق لكل النسيج العراقي ولا يجوز تقييد ذلك الحق المقدس .

ولكن لماذا كركوك الآن تعود إلى الواجهة من جديد؟

تقع كركوك في ما يُسمّى بـ «المناطق المتنازع عليها»، التي تثير خلافات إقليمية بين الحكومة العراقية و«إقليم كردستان». ولذلك يمتد تاريخ قضية كركوك إلى بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة، إلى الحدّ الذي اعتبر فيه الزعيم الكردي ملا مصطفى البرزاني، مؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني، كركوك بأنها «قدس كردستان»، بينما اعتبرها العراقيون عروس العراق.

إن تاريخ المدينة كان قد بدأ مع انبثاق النار الأزلية عام 550 قبل الميلاد في العهد الكلداني، والتي مازالت مشتعلة حتى الآن، وسبب اشتعالها وجود الغاز المنبثق من تحت الأرض، والتي يطلق عليها في الوقت الحاضر حقل «بابا كركر» مع العلم أن هذه التسمية حديثة لم تعرف قبل احتلال العثمانيين للعراق. وهي تعني بالعربية «أبا النار». وبسبب وجود هذه النار الأزلية ومنذ ذلك العصر تحوّلت هذه المدينة مركزاً لعبادة الإله «حدد»، ومن هذا الحقل أخذ السومريون والبابليون والآشوريون الاسفلت لتعبيد شوارعهم وبناء معابدهم وبيوتهم وطلاء زوارقهم الآشوريون . هذه النار التي أضاءت طرق حضارة العراقيين القدماء، هي ايضاً يجب أن تكون مصدر خير وبناء للعراق الجديد منذ تأسيسه عام 1921.

ما يهمّ أن قضية كركوك أصبحت في هذه المرحله الدقيقة التي يمر فيها العراق أشبه بالمعضلة التي يراد منها تحويلها قنبلة موقوتة تهدّد وحدة العراق واستقراره.

ولكي نقطع الطريق على ذلك ينبغي أن ننطلق من الثوابت الآتية:

1ـ إن المصالح العليا للنسيج الاجتماعي للشعب العراقي لا يمكن أن تتناقض.

2ـ إن إرساء الديمقراطية التعبيرية وليس التوافقية في العراق هو الهدف الأسمى للجميع، وهو الكفيل بحل المشاكل الموروثة من الماضي كافة.

3ـ ليس هناك مشكلة بين الكرد والعرب، بل ان هناك مشكلة بين الشعب العراقي ونظامه السياسي الذي تعاقب على الحكم.

4ـ إن كون مدينة كركوك مدينة عراقية مثلها مثل أربيل، وهذا لا يعني أنهما مدينتان كرديتان.

5ـ إن من حق أي مواطن عراقي العيش في أي مدينة عراقية، إلا أن هذا المبدأ يجب أن لا يطبق بشكل ميكانيكي بل يؤخذ في إطاره السياسي والتأريخي.

هل تقود هوية مدينة كركوك «الجغرافية السياسية» في المستقبل؟

كاد أن يقود اللعب بـ «الديمغرافية السكانية» التي قادها الكرد في المدينة بعد الاحتلال الأميركي إلى رسم الحدود بين العراقيين، وكاد أن يمنع من إيجاد تنوّع واختلاف يكون مصدر ثراء في تكوين بيئة تساعد في وحدة الحياة بين مكونات المدينة ونسيجها الاجتماعي قبل وصولها حافة الهاوية وتصبح بيئة طاردة أهلها؟

الذي سيتظاهر من العراقيين من دون معرفة الأسباب التي أدّت إلى «كمائن استفتاء كركوك» من قبل البرزاني هو كمن يصفّق لنفسه، أو كالذي يدخّن في باب المكتبة بعيداً عنها، يحرق الحروف في رئتيه، علّها تصعد سوداء إلى رأسه، وتكافح الصلع الذي احتلّ هالة العقل المشعّة!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024