|
||||||||||||
|
||||||||||||
إتصل بنا | مختارات صحفية | تقارير | اعرف عدوك | ابحاث ودراسات اصدارات |
مأزق الدروز السياسي في ظل زعامة وليد جنبلاط | ||
| ||
مقدمـة
تواجه فرقة الموحدين الدروز في لبنان تحدياً مصيرياً في هذه المرحلة التاريخية التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً؛ فعلى الرغم من شراسة الهجمة الأمريكية وهمجيتها على العالم العربي والإسلامي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتطويع شعوب المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية وتحويل بلادها إلى مجرد أسواق مفتوحة أمامها وأمام إسرائيل، والتهديد بالقضاء عسكرياً على كل من لا يزال واقفاً في وجه مشروعها الإمبراطوري، وعلى الرغم من تداعيات هذه الهجمة ووضوح أهدافها وأدواتها على الساحة اللبنانية، نجد القيادة السياسية الرئيسية لفرقة الموحدين الدروز في لبنان، تتحول إلى أداة رئيسية في هذه الهجمة، ناسفة بذلك أسس وثوابت الدور الذي قام الدروز به تاريخياً، وهي باتت تهدد بذلك بزعزعة الأركان الأساسية التي كرسها الدروز في تاريخهم السياسي في المشرق العربي على مدى ألف عام أو نحوه.
والمواقف والخيارات التي يتخذها الزعيم "الدرزي" وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة تدفعنا إلى التوقف عند تلك الشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط وعند تأثير دور تلك الشخصية في واقع الدروز السياسي في لبنان؛ وهما مسألتان يبدو من الصعب معالجة إحداهما دون الأخرى. فالشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط لا يمكن فهمها بمعزل عن الإرث السياسي للدروز وللزعامة الجنبلاطية تحديداً، منذ بدايات القرن التاسع عشر على الأقل. كما أن المكوّن السياسي للدروز، وبخاصة الجنبلاطيين منهم، لا يمكن فهمه بمعزل عن الأدوار المتعاقبة التي قامت الزعامة الجنبلاطية بها خلال المرحلة التاريخية نفسها.
هناك مجموعة محطات تاريخية تمثل محور الذاكرة الشعبية لدى الجنبلاطيين الدروز ومخيالهم السياسي، أو قُل "كربلائياتهم"؛ وهي المحاور نفسها التي تمثّل مجموعة العقد التاريخية التي تكسو المواقف وردود الفعل السياسية لدى وليد جنبلاط في كثير من الأحيان، وهي التي تفسر إلى حد بعيد التقلبات الجذرية التي يحدثها وليد جنبلاط في مواقفه وفي مواقعه وتحالفاته السياسية بين ليلة وضحاها: إنها صراع البشيرين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وحرب الـ 1860، وثورة الـ 1958، وحرب الـ 1975، واغتيال كمال جنبلاط عام 1977، وحرب الجبل عام 1982. وقد استعار جنبلاط مؤخراً، إضافة إليها، "كربلائية" اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
غير أن هذه المحطات ليست المحور الوحيد للسلوك السياسي، سواء لدى جنبلاط أم لدى جماعته، بل كثيراً ما يسعى جنبلاط لاستحضار هذه "الكربلائيات" لتغطية مواقف سياسية تعبّر عن مصالح شخصية راهنة لديه يحتاج تحقيقها إلى عملية تهييج جماهيري في وتيرة محددة وعلى إيقاع "كربلائية" محددة من تلك المحطات التاريخية. فالصراع مع الموارنة مثلاً، يستحضر "كربلائية" بشير جنبلاط وحرب الـ 1860، والصراع مع السوريين يستحضر "كربلائية" كمال جنبلاط، والصراع مع القوى والأقطاب السياسية الأخرى داخل الساحة الدرزية يستحضر "كربلائية" ثورة الـ 1958...
وإذا كانت هذه المحطات التاريخية تؤسس للمخيال السياسي للدروز الجنبلاطيين تحديداً فإن هناك محطات تاريخية أخرى كان لها دور أكبر في تأسيس أهم مرتكزات المخيال السياسي والثقافة السياسية للدروز جميعاً: قصدنا الحروب الصليبية ودور التنوخيين في صدّها ومقاومتها، الأمر الذي منح الدروز يومها شرف لقب سيف الإسلام وحماة الثغور في وجه الغزاة الفرنجة؛ ثم مواجهة المجاهدين الدروز لغزوة نابليون وحصاره عكا، وعامية عبيه عام 1799 التي أعلنت رفض الدروز للغزو الفرنسي؛ ثم الثورة العربية الكبرى، والثورة السورية التي كان سلطان باشا الأطرش أحد أبرز قادتها؛ والمقاومة العربية للمشروع الصهيوني في فلسطين، التي كان عادل أرسلان أبرز قادتها أيضاً...
عبر هذه المحطات جميعاً تكرس عبر قرون أحد ركنَي هوية الدروز الثقافية - السياسية بوصفهم فرقة عربية إسلامية احتلت موقعاً طليعياً عبر التاريخ في الدفاع عن عروبة هذه الأرض وفي صَدّ غزوات القوى الاستعمارية وحماية العمق العربي من تلك الغزوات.
أما الركن الآخر الذي تقوم عليه الهوية الثقافية - السياسية للدروز فهو الركن القيمي - الأخلاقي الذي اتسم الدروز به تاريخياً، والذي كثيراً ما تغنّى به كبار الشعراء العرب والكتاب والمؤرخين وحتى المستشرقين منهم، وهو القائم على قيم الكرم والرجولة وصدق اللسان والكرامة وعزة النفس ونبذ الخيانة وعدم الطعن في الظهر... وهي قيم تعود بجذورها إلى المنظومة العقائدية لفرقة الموحدين الدروز المستمدة بدورها من بواطن النص القرآني ومن روافد بعض الفرق الكلامية والطرق الصوفية السابقة لها في الإسلام، فضلاً عن بعض روافد الفلسفة اليونانية والشرقية.
هكذا إذاً، استمدت الثقافة السياسية للدروز سماتها من هذين المصدرين: المصدر الحدثي التاريخي الذي تأسس على مجموعة "الكربلائيات" والمحطات التاريخية التي نسجت للدروز صورة في مخيالهم السياسي كانت مصدر افتخار واعتزاز بأنفسهم بوصفهم سيف العروبة والإسلام ورأس حربة في وجه قوى الاحتلال والاستعمار؛ والمصدر العقيدي – المسلكي الذي تأسس على مجموعة الروافد العقيدية والفكرية والصوفية التي قامت عليها فرقة التوحيد الدرزية والتي نسجت للدروز صورة عن أنفسهم، لديهم ولدى الآخرين، بوصفهم أصحاب الشرف والشهامة والكرم والكرامة والشجاعة والأمانة...
غير أن هذين الركنين أخذ حضورهما يشتد أو يضعف في الثقافة السياسية الدرزية وفق المواصفات السياسية والمسلكية للزعامة السياسية السائدة، وبخاصة وسط مجتمع وراثي يعتلي الشخص فيه عرش الزعامة ليس على أساس صفاته وقدراته الشخصية بل على أساس نسبه إلى عائلة الزعامة، الأمر الذي يقيه محاسبة الجماعة أو يجعله مصدر تماهٍ لها فتجعله مؤثراً فيها ومقلَّداً من قِبَلها أكثر منه متأثراً بها معبراً عن واقعها وعاكساً صورتها، أو مصالحها.
ماذا تبقّى للدروز من هذين الركنين في ظل زعامة وليد جنبلاط؟
لم يكن ممكناً لوليد جنبلاط أن يتبنى كل هذه الخيارات التي يتبناها اليوم، سواء على المستوى السياسي أم على المستوى المسلكي، لو لم يعمل على مدى أكثر من ربع قرن في موقعه الزعامي، على تدمير هذين الركنين اللذين تقوم الهوية الثقافية - السياسية للدروز عليهما. والتغيرات الجذرية التي شهدناها في مواقف جنبلاط في الفترة الأخيرة ليست جديدة، بل هو أخذ يهيئ لها الأرض منذ الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 على الأقل. وبالفعل، اعتمد جنبلاط منذ ذلك الحين استراتيجية مد الخطوط في كل الاتجاهات (الإقليمية والدولية)، مقابل الحفاط على خطاب علني "عروبي" يتناغم مع التحالفات المفروضة على الأرض، وخطاب استتاري يترك الأبواب مفتوحة على كل الخيارات، منطلقاً في ذلك من ذرائع مصلحية ضيقة ترى أن الدروز أقلية لا سند لها، وبالتالي عليها أن تحافظ على نفسها كيفما مالت الكفّة في موازين القوى الإقليمية والدولية.
سنحاول في هذا النص تحليل الواقع الدرزي في ظل زعامة وليد جنبلاط على مستويين: مستوى المكون الشخصي لوليد جنبلاط وانعكاسه على الواقع السياسي الدرزي؛ ومستوى الثقافة السياسية في الوسط الدرزي الجنبلاطي وتأثيرها في واقع الدروز السياسي، وهو أمر مع الأسف قلّما يجري إلقاء الضوء عليه حين تجري دراسة ظاهرة سياسية محددة، في الوقت الذي تركز كل التحليلات والأدبيات السياسية عادةً على الواقع السياسي كما يبدو من "فوق".
مثّل المحك السياسي الأهم لوليد جنبلاط في ظل زعامته السياسية التي بدأت عام 1977 الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما تلاه من حروب داخلية اتخذت عدة أوجه وأبعاد. فالمرحلة التي امتدت من عام 1977، تاريخ إلباس وليد جنبلاط عباءة الزعامة، إلى عام 1982 تاريخ الاجتياح، لم تحمل الكثير من الأحداث السياسية التي كانت تتطلب من جنبلاط اتخاذ قرارات كبرى أو أن يكون مشاركاً فاعلاً في اللعبة السياسية، على الرغم مما حملته تلك الفترة من بعض المؤشرات التفصيلية التي أخذت توضح بعض ملامح شخصيته السياسية والمسلكية، كتقليص هامش الديمقراطية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي وتعزيز العلاقات الزبونية داخل الحزب، والتخلص رويداً رويداً من نهج كمال جنبلاط وأخلاقياته السائدة فيه.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبدأت تتضح معه أكثر فأكثر المكونات الشخصية والخيارات السياسية لوليد جنبلاط. وهذا أمر يتطلب توضيحه الاستشهاد ببعض المحطات التاريخية:
منذ اليوم الأول لذلك الاجتياح عمّت أجواء الاستنفارات العسكرية في أوساط شبان ومقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي والأحزاب الوطنية الأخرى في مناطق نفوذ وليد جنبلاط كما في معظم المناطق اللبنانية التي شملها الغزو الإسرائيلي. وحدث المنعطف الأول في الهوية السياسية للدروز الجنبلاطيين عقب تعميم قرار حزبي من رئيس الحزب على معظم القرى والمناطق التي يوجد فيها مقاتلون للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم التصدي للاجتياح الإسرائيلي، على الرغم من استعداد وحماسة الكثيرين منهم يومها لمواجهة القوات الإسرائيلية؛ وهكذا انكفأ الجنبلاطيون عن مواجهة الاجتياح، في حين راح مقاتلون من الأحزاب الوطنية الأخرى ينظمون أنفسهم بمجموعات ويواجهون جحافل الغزو إلى جانب بعض مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ولو مواجهة رمزية في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من تدفق التبريرات حينها القائلة إن وليد جنبلاط يريد تجنيب القرى الدرزية عمليات تدمير واسعة يمكن أن تقوم إسرائيل بها، فإن الأيام والشهور التي تلت الاجتياح أظهرت أن السياسة التي ينتهجها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط هي، على الأقل، سياسة غير معادية لإسرائيل، وقد جرت ترجمتها، في أثناء حرب الجبل - التي بادر إليها واتخذ قرارها بعض الرموز التقدمية الاشتراكية والوطنية الميدانية وليس وليد جنبلاط نفسه - بعمليات تنسيق أمني بين بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي وجيش "الدفاع" الإسرائيلي إلى حد أن عدداً من المسؤولين الحزبيين باتوا يعرّفون عن أنفسهم على الحواجز الإسرائيلية بواسطة بطاقات تعريف إسرائيلية كانوا يحملونها، إضافة إلى بعض المجموعات التي نظمت برعاية الحزب التقدمي الاشتراكي وكان هدفها ملاحقة "المخربين" (أي المقاومون) وتسليمهم للإسرائيليين. حتى إن حالة "اللاعداء" هذه كان يجري التعبير عنها بمظاهر أوضح، كتنقل بعض مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بين جبهات القتال في منطقة عاليه وبين قراهم وبلداتهم في منطقة حاصبيا عبر حواجز جيش لبنان الجنوبي وهم يرتدون بزاتهم العسكرية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي؛ دع عنك الزيارات التي كان يقوم بها بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي أو بعض الشخصيات الدرزية لإسرائيل بتكليف من وليد جنبلاط أحياناً. مع العلم أن هذه الزيارات عادت لتتجدد على ما يبدو منذ عام 2005 من قبل بعض الرموز الجنبلاطية الأخرى.
كل هذه الممارسات ساهمت في خلق جو في وسط الجنبلاطيين الدروز غير معادٍ لإسرائيل وغير معني بالاحتلال الإسرائيلي بل متكيف معه، الأمر الذي أسقط رويداً رويداً مقولة إسرائيل العدو من مكونات الثقافة السياسية لدى هذه الجماعة.
وفي هذا السياق توّج هذا التوجه غير المعادي لإسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لإسرائيل داخل الحزب التقدمي الاشتراكي أو خارجه، حتى إن بعض رموز هذا التيار جرت تصفيته جسدياً.
على صعيد آخر، ساهم وليد جنبلاط على مدى أكثر من ربع قرن في وجوده على عرش الزعامة، في إضعاف أو تهميش نظام القيم الأخلاقية وسط الدروز الجنبلاطيين. وقد كانت سنوات الحرب لها وسائلها في ذلك وسنوات ما بعد الحرب وسائلها الأخرى. ففي سنوات الحرب نشأت في أوساط الحزبيين، وتحديداً وسط القيادات الوسطى، طبقة من أغنياء الحرب الذين أباحوا لأنفسهم شتى ضروب النهب والفساد والتعدي على أملاك الغير. وإذا كان طبيعياً أن تشهد أي حرب نمو هذه المظاهر فإن ما هو ليس طبيعياً في الحالة التي نتحدث عنها هو أن يكون الزعيم السياسي مشرفاً على هذه الظاهرة وراعياً لها، بل ربما مشاركاً فيها. وهذا ما عبر عنه جنبلاط مباشرة وعلناً في أحد لقاءاته بمحازبيه ومسؤولي حزبه في بيروت يوم اجتمع بهم في إحدى صالات السينما في الحمرا في منتصف الثمانينات موعزاً إليهم: "بدي مصاري من بيروت، دبروا حالكم"، الأمر الذي كان بمنزلة إيذان لهؤلاء الأبَوَات لكي يعيثوا ببيروت فساداً ونهباً وهتكاً بكرامات أهلها. كل ذلك كان يحدث تحت تبرير: "بيروت بدها زعران". هكذا تحول الحزب التقدمي الاشتراكي آنذاك إلى مدرسة لتخريج الشبيحة واللصوص والفاسدين الذين ما لبثوا أن راحوا يعممون ثقافة الفساد في أوساط الدروز الجنبلاطيين عموماً.
ولم تكن عملية تعميم ثقافة الفساد أقل وضوحاً في سياسة جنبلاط في مرحلة ما بعد الحرب. فجنبلاط كان واحداً من رموز الحرب الذين عادوا إلى السلطة بعد اتفاق الطائف، فتسلم في تلك الفترة عدّة وزارات شهدت جميعها في عهده عمليات فساد وهدر وتلاعب بالمال العام. ولأسباب سياسية تتعلق بـ"المصالحة الوطنية"، كما قيل، تسنى لجنبلاط أن يتسلّم وزارة شؤون المهجرين أو أن يشرف عليها. فكانت تجربته في تلك الوزارة نموذجاً "مثالياً" لعمليات التزوير المنظم ونهب المال العام وتعميم ثقافة الفساد في أوساط الكثير من الفئات الشعبية، وبخاصة وسط الدروز الجنبلاطيين. كما استخدمت أموال وزارة المهجرين منذ منتصف التسعينات رُشى لشراء أصوات الناخبين في الانتخابات النيابية والبلدية. وعملياً مثل المسؤولون الحزبيون الجنبلاطيون في القرى والمناطق دور الوسطاء بين المواطنين ووزارة شؤون المهجرين. وعبرهم جرى تعميم كل وسائل التزوير والعمولة وسرقة المال العام، بل جرى تعميم استخدام هذه الوسائل لشراء الضمائر ولتدمير نظم القيم لدى المواطنين، فغابت معايير الحلال والحرام لديهم على الرغم من قوة حضورها في نظام القيم وفي الثقافة الشعبية لدى المواطنين الدروز تاريخياً.
هذا التحول على المستويين السياسي والمسلكي داخل الحزب التقدمي الاشتراكي منذ بدايات الثمانينات أسّس لنزعة يمينية وإفسادية في الثقافة السياسية الجنبلاطية، بدءاً من المستوى الجماهيري وصولاً إلى رأس القمة، مع العلم أن جنبلاط نفسه هو الذي كان يدفع في هذا الاتجاه. ولم تكن مصادفة أن تلك الطبقة من "أغنياء الحرب" والشبيحة التي نشأت داخل الحزب هي نفسها الفئة غير المعادية لإسرائيل، وهي نفسها الفئة التي كان وليد جنبلاط يرعاها ويقف في صفها كلما حدث خلاف داخل الحزب بينها وبين الفئات المعترضة على نهجها السياسي والمسلكي. إلى أن أمسكت هذه الطبقة عملياً، وبإدارة جنبلاط، بكل مفاصل العمل الحزبي والعسكري والجماهيري، بدءاً من مسؤولي القرى وصولاً إلى مجلس قيادة الحزب.
وقد أخذ النهج اليميني والفاسد يظهر واضحاً منذ منتصف الثمانينات، حين راح الموقع الطبقي للحزب التقدمي الاشتراكي يتبدل، وأخذ مسؤولوه يتدخلون لقمع التحركات العمالية المطلبية في العديد من المصانع والمؤسسات القائمة في مناطق سيطرتهم، مقابل حفنة من الأموال كانوا يرتشون بها من قبل أرباب العمل. وخلال حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة، كثيراً ما دفع الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطيين الدروز إلى اتخاذ مواقف مناهضة للحركة النقابية والمطلبية، حتى إن مسؤولي الحزب في مناطق الشوف وعاليه وبعبدا على الأقل، كانوا حين تكون هناك دعوة إلى الإضراب العام من قبل الاتحاد العمالي، يجولون على أصحاب المحال التجارية والمؤسسات في تلك المناطق طالبين منهم عدم التقيد بالإضراب. فما بالك بالمواقف التي كان وليد جنبلاط وكتلته النيابية يتخذونها حيال السياسة الاقتصادية والمالية خلال تلك الفترة، على الرغم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، من أن تلك السياسات اليمينية التي ينتهجها وليد جنبلاط وحزبه، متسلحين بالقواعد "الشعبية" للدروز الجنبلاطيين، هي سياسات مناقضة تماماً للمصالح الفعلية لتلك القواعد الشعبية البائسة، التي تأسس الحزب التقدمي الاشتراكي من أجلها أصلاً؛ فضلاً عن أنها ساهمت في إفقار وتجويع هذه القواعد.
كيف يمكن تفسير هذه الدوافع لدى وليد جنبلاط؟
إن وليد جنبلاط لم ينشأ نشأة يسارية أساساً، وهو لم يكن على علاقة منسجمة سياسياً بكمال جنبلاط، على الرغم من كل الإدعاءات التحريضية المضللة التي يمارسها اليوم عبر إثارة موضوع قتل هذا القائد العربي؛ لأن وليد جنبلاط في الواقع ليس حريصاً على مبادئ وأخلاقيات كمال جنبلاط ولا على ثوابته السياسية والطبقية، فوليد جنبلاط هو من حيث مكوناته الشخصية امتداد لبشير جنبلاط، الإقطاعي، المستبد، البراغماتي، غير المتمسك بالثوابت، محب المال والسلطة، الذي لا يجيد احترام جماعته، الطامح إلى الاستفراد بالزعامة حتى لو عبر القضاء على كل منافسيه، أضف إلى ذلك دفاع وليد جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية التي هو أحد رموزها، مقابل كمال جنبلاط، المبدئي، الأخلاقي، الاشتراكي، المتواضع، الذي يجيد احترام الآخرين، الزاهد، المتعالي على المال والثروة، المدافع عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء، الذي إذا رفع شعاراً عمل على تطبيقه على نفسه قبل أن يطلب من الآخرين تطبيقه... والمفارقة الكبرى بين الرجلين هي أن كمالاً انطلق في حياته السياسية من موقع تقليدي إقطاعي يميني صديق للاستعمار، حاولت الست نظيرة (والدته) أن تزجّه فيه، غير أنه انقلب على ذلك الموقع وانتهى قائداً وطنياً وعربياً، يسارياً، معادياً للاستعمار، ساعياً لتغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة في لبنان. أما وليد فهو على العكس تماماً، انطلق في حياته السياسية من موقع وطني تقدمي، قائداً للحركة الوطنية، و"انتهى" زعيماً طائفياً يمينياً لبنانوياً، جبلياً، صديقاً للاستعمار، بل أداة في يده.
وبالفعل سعى جنبلاط في السنوات الأخيرة للتخلص من عبء كمال جنبلاط ذي التوجهات النقيضة لتوجهاته التي لا يزال بعض المحازبين المضلَّلين يرددونها، فأجرى انقلاباً منظماً على المفاهيم تمهيداً لإجراء القطيعة مع كل الخط السياسي الفعلي الذي كان كمال جنبلاط يمثله. وقد سعى، بواسطة بعض الكتب والأفلام الوثائقية التي أعدت مؤخراً، لتقديم صورة مغايرة عن كمال جنبلاط تتوافق مع تطلعات وليد جنبلاط نفسه، من خلال إعادة إبراز بعض الأفكار والمواقف الليبرالية اللبنانوية التي كان كمال جنبلاط يعبر عنها في بداية حياته السياسية في منتصف الأربعينات وقبل أن يؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، أو من خلال تشويه أهداف كمال جنبلاط في تجربة الحركة الوطنية اللبنانية ومواقفه تجاه القضية الفلسطينية.
وكثيراً ما عبّرت مواقف وليد جنبلاط وسلوكه عن نزعة لديه إلى تقمص شخصية بشير جنبلاط، فسنوات طاحنة من الحرب بعد عام 1982 راح ضحيتها آلاف الشبان والمواطنين ودمّرت مئات القرى وكانت لها آثارها الإقليمية والدولية، واندحرت بنتيجتها قوات الحلف الأطلسي عن بيروت، وسقط اتفاق 17 أيار الموقع بين لبنان وإسرائيل، وهزم المشروع الفاشي اللبناني – ولو موقتاً – لم يرَ وليد فيها إلاّ قضية واحدة حاول اختصارها بكلمات معدودة: ها قد عدنا يا بشير. تلك كانت الصيحة الأولى التي أطلقها في قصر المير بشير في بيت الدين حين احتفل بانتصاره في حرب الجبل معلناً انتزاع القصر من المير بشير الشهابي ثأراً لبشير جنبلاط. ولم تتوقف نزعة الثأر لديه يومها عند هذا الحد، بل راح يبحث عن سبل استعادة تلك الأراضي التي انتزعها بشير الشهابي من بشير جنبلاط، فامتدت أنظاره إلى سهل البقاع، مستملكاً العديد من العقارات في البقاع الغربي باحثاً عن طريق تصله بوادي التيم، آملاً، ربما، في تحقيق حلم طالما سعى بشير جنبلاط لتحقيقه وليرى نفسه على رأس إمارة تضم دروز المشرق العربي جميعاً. وكثيراً ما يستغل جنبلاط عقدة الثأر لديه عبر مكيافيلليته المعروفة لتغطية نزوات ومصالح شخصية. وبالفعل، تجري ترجمة المشهد السياسي ذي الوجهين الانتقامي – الانتفاعي بوجه واحد في الثقافة السياسية والتعبئة الشعبية وسط جماعة الدروز الجنبلاطيين، وهو الوجه الانتقامي – التضليلي في حقيقته – الذي يستمد جنبلاط قوته الشعبية منه.
وتتسع دائرة الصفات البشيرية التي تقمصها وليد إلى غير ذلك، فالنزعة إلى التملك وتوريث الملك وَسَمَت الرجلين؛ فالشيخ بشير سعى طويلاً لجمع ثروة واستملاك أراضٍ ولو عن طريق المصادرة، حتى لو تطلب ذلك قتل أبناء عمه للسيطرة على بيوتهم في المختارة. ولكي يحصر الزعامة في بيته تخلص من أي شخصية كان يمكن أن تنافسه على ذلك. وها هو وليد جنبلاط مذ تسلّم عرش الزعامة مارس النزعة نفسها. وأول هدف للمصادرة لديه كان الحزب التقدمي الاشتراكي نفسه، فصادر الحزب، وألغاه كمؤسسة، وأصبحت كل ممتلكات الحزب جزءاً من أملاكه الشخصية، حتى إن العناصر البشرية في الحزب يتعاطى جنبلاط معها تعاطياً قطعانياً، وكأنها جزء من ممتلكاته، فلا رأي لها أو قرار، بل عليها الانقياد الأعمى بلا اعتراض في الاتجاهات التي يقررها هو يميناً أو يساراً. وقد اتسعت المصادرة لديه لكي تشمل منطقة الشوف ككل، إذ غالباً ما حاول جنبلاط في الثمانينات والتسعينات مصادرة 51 في المئة من أسهم أي مؤسسة إنتاجية أو مشروع استثماري كان ينوي أحد المستثمرين القيام به في منطقة الشوف، الأمر الذي ساهم في حرمان هذه المنطقة وأبنائها الكثير من مشاريع التنمية وبالتالي من فرص العمل. وها هي المناطق الواقعة تحت نفوذ جنبلاط اليوم ربما تكون من أفقر المناطق اللبنانية لناحية وجود فرص عمل أو مؤسسات إنتاجية.
وعلى مستوى الاحتكار الزعامي يمارس جنبلاط الأسلوب نفسه، فهو عملياً يمنع ظهور أي شخصية سياسية يمكن أن يكون لديها طموح سياسي، وهو عبّر غير مرة عن ذلك لبعض الأشخاص الطموحين، الذين كان يراهم يشيدون بيوتاً تلبي طموحاتهم السياسية أو يرممون ما ورثوه عن آبائهم من بيوت كان لها تاريخها: "إن الشوف لا يتسع لقصرين". وهذا ما يسعى جنبلاط إليه اليوم من خلال قطع الطريق على أي رأي مغاير، عبر حصر التمثيل البرلماني للدروز بجماعته ثم عبر الإمساك بمشيخة العقل وبالأوقاف الدرزية.
وجنبلاط لا يخفي توجهه إلى توريث الزعامة من بعده إلى ابنه تيمور، الذي بدأ منذ سنوات يتولى عنه بعض مهمات العلاقة بالرعية، كالقيام بواجبات التهاني والتعازي؛ وهو طالما سعى لانتزاع شرعية إقليمية لهذا التوريث أيضاً. وهذا ما حدث في لقاء جمعه بحليفه نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام منذ أكثر منذ ثلاث سنوات في قصر المختارة، حين انتزع جنبلاط من خدام أمام كاميرات التلفزة توقيعه صورة تضم جنبلاط وابنه تيمور.
كيف تحدث عملية التحول التي يشهدها ركنا الثقافة السياسية لدى الدروز الجنبلاطيين؟
تجري إعادة إنتاج الثقافة السياسية لدى الدروز الجنبلاطيين في شق منها عبر مجموعة مكونات وعلى نحو شبيه لما يجري على مستوى إعادة إنتاج الثقافة السياسية لدى الجماعات والطوائف الأخرى في لبنان، على الرغم من احتمال اختلاف أهمية كل مكوّن بين جماعة وأخرى. لكن إلى جانب المكونات العامة التي تساهم في إعادة إنتاج الثقافة السياسية لدى مختلف الشعوب، المتمثلة بالصحافة وبوسائل الإعلام المرئية تحديداً، تبدو هناك مجموعة مكونات تحمل سمات خاصة لدى كل شعب أو فئة اجتماعية أو سياسية.
أما أبرز المكونات التي تعيد إنتاج الثقافة السياسية لدى الدروز الجنبلاطيين فهي:
- الذاكرة التاريخية التي ترسم صورة للأحداث مرسومة من منظار محدد تشترك جماعة الدروز الجنبلاطيين في النظر إلى الأمور من خلاله. وهكذا يرتدي كل حدث تاريخي لدى هذه الجماعة ثوباً يمثل حقيقة هذا الحدث كما يرونها هم. وهكذا أيضاً تصبح لهم حقيقتهم الخاصة بهم حول الأحداث المتعلقة بتاريخهم. وهذه الحقيقة التي تتمحور الذاكرة الشعبية حولها، غالباً ما يساهم في تكوينها عناصر خرافية وقدرية مستمدة من البنية الثقافية الدينية لدى هذه الجماعة، التي تمثّل الخرافة والقدرية بعض مكوناتها. وهكذا يعاد إنتاج الأحداث التاريخية في الذاكرة الشعبية هذه على قاعدة أن هؤلاء الجماعة هم الذين كانوا دائماً على حق وأن الآخرين هم الذين كانوا على خطأ. وهكذا، تتنـزّه صورة الزعيم في هذه الذاكرة عن أي خطيئة، ويُبرّر لها ما لا يبرّر لغيرها. وفي ضوء هذه الذاكرة المركبّة يجري تفسير الأحداث من قبل الجماعة، ويجري بالتالي تبرير سلوك الزعيم ومواقفه المحجوبة بهالة من الترفع والتنـزّه يغيب عنها العقل.
ويحاول جنبلاط استخدام هذا المكوّن في حركته السياسية، وبخاصة في اللحظات الحرجة، كمرحلة التحضير للانتخابات، أو حين يمر بمأزق سياسي ما، أو حين يريد أن يحدث تحولاً براغماتياً في مواقفه المعلنة، وهي محطات ثلاث مر جنبلاط بها في الفترة الأخيرة. فلكي يغطي جنبلاط مأزقه لكونه أحد أركان النظام السياسي في لبنان، سواء أكان في السلطة أم كان في المعارضة، يلجأ إلى تضليل الرأي العام وإلهائه عن طبيعة المأزق الفعلي الذي تمر البلاد به المتمثل بشبه انهيار اقتصادي، وبكتلة دين عام لا يمكن الخروج من أعبائها، وبتفشي الفقر والبطالة إلى حدود لم يعرفها لبنان منذ الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي كان جنبلاط يتبنى منذ بداية التسعينات تقريباً معظم السياسات الاقتصادية التي أوصلت لبنان إلى ما وصل إليه وكان شريكاً فعلياً في عمليات "الهدر" المنظم للمال العام. وحين كان يُسأل عن موقفه من السياسة الاقتصادية التي أودت بالبلاد إلى ما أودت إليه كان يقول ببساطة: "إسألوا غيري أنا ما بعرف بالاقتصاد!!!". ولكي يغطي على كل هذا المأزق يلجأ اليوم إلى مكوّن الذاكرة الشعبية لكي يثير لدى جماعته حالة اهتياج تعبوي مستخدماً "كربلائية" اغتيال كمال جنبلاط في ذلك.
- المكوّن الآخر لإعادة إنتاج الثقافة السياسية هو عملية التماهي بالزعيم والعمل على تقليده والسعي لتبني مفاهيمه والسلوك وفق مسلكه. وبالفعل ساهمت عملية التماهي هذه في تبرير وتعميم الفساد ثقافةً ومسلكاً في وسط الدروز الجنبلاطيين الذين يتماهون في ذلك، سواء بمواقف وليد جنبلاط تجاه الكثير من الملفات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والسياسية في البلاد أم بمسلكه الذي اعتمد شتى وسائل الفساد والزبونية في موقعه الوسيط بين المواطن الدرزي والدولة وفي التباهي بنفسه بوصفه حوتاً مالياً. هكذا نجد الكثير من الدروز الجنبلاطيين مثلاً يرددون مواقف يتخذها جنبلاط أو مسلكاً يمارسه بطريقة ببغائية ومن دون أي تفكير في الأمر حتى لو كانت هذه المواقف، أو هذا السلوك، لا تعبر إطلاقاً عن المصالح الفعلية لهؤلاء معيشياً أو سياسياً، أو كانت لا تعكس أحياناً أخلاقيات هؤلاء أيضاً.
- المكون الثالث هو التناقل الشفهي لمواقف وليد جنبلاط، مع ما يرافق هذا التناقل من عمليات حشو ومبالغة، أو حتى تخيلات خرافية، تضفي على مواقف جنبلاط ومسلكه هالة من "السوبرمانية" والقدرة على قراءة أبعاد الأمور وربما خفاياها، في ظل نظرة دونية إلى الذات الجماعية لدى الجنبلاطيين يجري التعبير عنها بمجموعة مقولات استسلامية: "نحن شو بيفهِّمنا بالسياسة، هو أدرى"؛ "هو يعرف ماذا يفعل"؛ "هو يرى أشياء نحن لا نراها"؛ أو "لديه أنتين قوي بيلتقط لبعيد" ويستطيع أن يقرأ الماجريات المقبلة للأحداث. وعبر هذه النظرة "السوبرمانية" الانبهارية إلى البيك تسري مقولات ومواقف يذكرها البيك خلال لقاء أحد المسؤولين الحزبيين به أو خلال استقباله أحد الوفود الشعبية. ويتحول الموقف إلى شائعة تنتشر في مختلف أوساط الجماعة الجنبلاطية بغض النظر عن مدى دقتها أو حتى صحتها، إذ مع انتقال الموقف عبر الوسيط، الذي غالباً ما يكون مسؤولاً حزبياً، أو نائباً من كتلته، أو وفداً شعبياً، يجري تحميل الموقف أحياناً فسحة من مواقف الوسيط أو تمنياته الشخصية. وهكذا تنسج منظومة تصورات شعبية لمقولات البيك تؤسس للموقف السياسي الشعبي وللثقافة السياسية واتجاهات الرأي العام لدى الدروز الجنبلاطيين، وهي مواقف واتجاهات تتخذ منحى خطيراً في بعض الأحيان، كما حدث في منتصف ثمانينات القرن الماضي أو كما يحدث اليوم. فوقتذاك انتشرت مقولة الدولة الدرزية التي يريد وليد جنبلاط تأسيسها بغض النظر عن مدى جدية جنبلاط في تبني هذا المشروع، لكن على الأقل يمكن القول بمسؤولية إن بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي كانوا يسوّقون لهذا المشروع الذي دخل فعلاً في نسيج الثقافة السياسية للدروز الجنبلاطيين آنذاك. حتى إن بعض النصوص والدراسات وزعت بالفعل في منطقة الشوف آنذاك وهي تنظّر لمشروع الدولة الدرزية اقتصادياً وسياسياً وتاريخياً. وما لبث هذا الأمر أن تحول يومها إلى موضوع خلاف بين اتجاهات مختلفة داخل الحزب التقدمي الاشتراكي؛ ثم ما لبث الخيار الإسرائيلي أن تقهقر في لبنان، قاطعاً هذا التقهقر الطريق على كل تلك الأحلام والأوهام.
والمفارقة بين الأمس واليوم هي أن هذا النوع من المشاريع يجري ارتفاع وتيرة الحديث فيه في أوساط الدروز الجنبلاطيين كلما هبّت رياح أميركا وإسرائيل على لبنان والمنطقة؛ فوقتذاك كانت الرياح جنوبية، واليوم هي الرياح شمالية تهب من قلب النظام الإمبريالي. وها هي المواقف والتوجهات التي يجري تسريبها وتعميمها في الثقافة السياسية للدروز الجنبلاطيين عبر التناقل الشفهي لمواقف وليد جنبلاط، أو عبر شاشات التلفزة في الفترة الأخيرة، لا تقل خطورة عن تلك التي سادت منتصف الثمانينات الماضية. فبما أن وليد جنبلاط "لديه أنتين قوي" وهو يلتقط إلى مسافة بعيدة، فهو يدرك "أن الكفّة تميل، وهو يميل معها"، وهذا كلام يمثل قمة التعبير عن الثقافة السياسية الانتهازية وغير المبدئية، وبالتالي عن الحائط المسدود، التي أوصل وليد جنبلاط جماعته إليها. حتى إن الكثيرين من هؤلاء الدروز الجنبلاطيين لا يخفون رغبتهم في قيام أميركا، أو حتى إسرائيل، بتوجيه ضربة عسكرية ضد سوريا أو ضد حزب الله، تغير موازين القوى في لبنان والمنطقة لمصلحتهم. وهذا بالفعل ما راهن وليد جنبلاط عليه - أي عدوان إسرائيلي أو أمريكي يُسقط النظام السوري ويركب نظاماً سياسياً بديلاً في دمشق موالياً لأمريكا ويسير مع الخيار التطبيعي في المنطقة - فيظهر وليد جنبلاط فيه منتصراً، كما ظهر أحمد الجلبي في بغداد عقب الغزو الأمريكي للعراق، مع العلم أن ذاك "الهيرو" الورقي ما لبث تفتت على أيدي المقاومين والوطنيين في العراق.
أين أصبحت التوجهات السياسية والاجتماعية والأخلاقية لدى الدروز الجنبلاطيين في ظل زعامة وليد جنبلاط اليوم؟
لقد نجح وليد جنبلاط فعلاً في تطويع معظم الدروز الجنبلاطيين وفي سوقهم في الاتجاه الذي تقتضيه مصالحه الشخصية وتحالفاته الطبقية بوصفه أحد أبرز أفراد الطبقة الرأسمالية الاحتكارية و"حيتان المال" في هذا البلد (على حد تعبيره هو)، محدثاً بذلك انقلاباً مفاهيمياً وسياسياً وطبقياً ومسلكياً شاملاً على النهج العروبي اليساري التحرري والأخلاقي الذي سعى كمال جنبلاط لتكريسه في أوساط قاعدته الشعبية والحزبية. وبالفعل باتت سوريا اليوم، وليس إسرائيل، هي العدو الإقليمي، كما بات الشيعي هو العدو المحلي، في نظر الدروز الجنبلاطيين، الذين عادوا يقلبون صفحات التاريخ بحثاً عن "كربلائية" ما تفسر عدائيتهم للشيعة. ونظراً إلى انتفاء هذا النوع من الكربلائيات واقعياً فهم يوظفون المشاهد الخيالية أحياناً، ويلجأون إلى تضخيم الخطر العددي للشيعة أحياناًً أخرى، لتبرير خطورة حزب الله عليهم.
واللافت للنظر فعلاً أن هذا الانقلاب الذي أحدثه جنبلاط لا يواجه أي اعتراض يذكر، سواء في أوساط "جمهور" الدروز الجنبلاطيين أم في صفوف الحزبيين أم حتى في أوساط "المثقفين" الدروز الذين يُفترض أن يكونوا أكثر وعياً بما يجري. غير أن هذا الوضع له أسبابه طبعاً. فوليد جنبلاط استطاع خلال فترة زعامته، تصفية أي حالة اعتراضية أو اختلافية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي. وهكذا لم يُبقِ وليد جنبلاط في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي إلا ثلاثة أنواع من الرعايا: فئة "البلاطيين" الانتهازيين الذين يجدون في تقربهم من وليد جنبلاط فرصة لإظهار الذات أو للوصول إلى النفوذ والثروة، وهم بطبيعتهم ذوو ميول يمينية، مع العلم أن وليد جنبلاط يعرف هذه الحقيقة، لأنه هو ساهم في صنعها؛ ثم فئة "الموظفين المطيعين" الذين لم يعتادوا أن يقولوا "لا"، بل إن طاعة الأوامر والتقيد بمواقف البيك تمثل قمة طموحهم وإخلاصهم؛ ثم فئة المتحمسين العصبويين الذين غالباً ما يطغى الفقر والجهل عليهم وهم يسهل على جنبلاط تضليلهم وتهييجهم غريزياً. أما الدروز الجنبلاطيون غير الحزبيين، بمن فهم "المثقفون"، المدجّنون في معظمهم، فيستطيع جنبلاط أن يبتزهم في لقمة عيشهم. فإن كنت درزياً فمن الصعب أن تصبح يوماً مديراً عاماً أو أستاذاً في الجامعة اللبنانية على الرغم من كل المؤهلات العلمية والمهنية التي تحملها، أو تصبح ضابطاً في الجيش أو حتى جندياً أول أو موظفاً عادياً، أو أن تُرشّح نفسك لدورة قضاة مثلاً، إلا إذا كنت جنبلاطياً مطيعاً ومَرضِيَّاً عنك من البيك، أو كنت بارعاً في الوصول، ولديك الأقنية التي تفتح أمامك الأبواب إلى بلاطه.
أما الديمقراطية التي تهب رياحها على وليد جنبلاط هذه الأيام فحدِّث عنها ولا حرج، وقد تذوقناها فعلاً في سنوات الحرب كما نتذوقها الآن في سنوات السلم. فكان يكفي مجموعة مقاتلين في صفوف حزبه خلال سنوات الحرب أن يعترضوا على تدمير بيوت المسيحيين في بعض قرى الجبل وعلى مشروع الفرز الطائفي والدولة الدرزية حتى يساقوا إلى بيت الدين ويُشبعوا ضرباً وحشياً؛ ويكفيك أن تتجرأ بعد الحرب وترشح نفسك للانتخابات النيابية في منطقته وفي وجه لائحته حتى يُقضى على مستقبلك المهني وتطرد من عملك وتصبح منبوذاً في المجتمع الجنبلاطي، كما حدث مع الدكتور مروان أبو شقرا مدير مستشفى عين وزين سابقاً؛ أو يكفيك أن تكتب مقالة في صحيفة تنتقد فيها الزيارات المتكررة للسفير الأميركي لبلدة الرملية مثلاً، كما فعل الكاتب المرحوم حاتم سلمان، حتى ينـزل عليك غضب نائب المنطقة الجنبلاطي وأزلامه ويهددوك بالطرد من البلدة، أو يهددوا مراسل الصحيفة بإقفال مكتبه في عاليه إذا ما تجرأ ثانية وأرسل إليها نوعاً كهذا من المقالات؛ أو حتى يكفي مجموعة شبان مستقلين أو غير جنبلاطيين، أن يفكروا في تأسيس منتدى ثقافي أو نادٍ رياضي حتى توضع في طريقهم العقبات، فأيُ شيء: "إما أن يمر من خلالنا وإما لن يمر". أما اليوم فلا تحدّث بلا حرج! فالقرى الدرزية في لبنان تعيش جواً من الإرهاب الاجتماعي والسياسي، فإن عبّرت عن رأي مخالف لسياسات وليد جنبلاط وخياراته الخاطئة فيمكن أن تنبذ وتهدد.
أما حديث جنبلاط عن حقوق الإنسان وعن أنظمة الاستبداد العربية وسجونها، فإن تاريخ وليد جنبلاط يظهر أنه ليس أقل استبداداً من أي حاكم عربي. ولو كان لجدران سجن بيت الدين أفواه تنطق لتحدثت عن وسائل التعذيب التي تعرض لها بعض السجناء في عهد الإدارة المدنية التي أنشأها وليد جنبلاط في أثناء حرب الجبل، والتي لا تقل وحشية عن وسائل التعذيب في أي سجن عربي... أو أمريكي.
وتشمل عملية التضليل التي يمارسها جنبلاط في مواقفه السياسية معركته ضد السوريين. مع العلم أن من حق جنبلاط، كما من حق أي مواطن لبناني أو سوري آخر، الاعتراض على طبيعة الأداء السوري في لبنان على مدى ثلاثة عقود تقريباً. لكن هذا الاعتراض شيء والرهان على المشروع الأمريكي - الإسرائيلي والانحراف إلى أقصى اليمين والتحالف مع الفاشية اللبنانية شيء آخر. حتى إن الأمور ليست كما يجري تصويرها، فهجمة جنبلاط على سوريا ليست لأن بعض أجهزتها الأمنية عاث فساداً في الساحة اللبنانية، بل لأن جنبلاط، البارع في براغماتيته، يبدو أنه يسعى دوماً لكي يلتحق بالأقوى والأدسم؛ فالالتحاق بالأقوى يوفر له مزيداً من النفوذ، والالتحاق بالأدسم يوفر له مزيداً من العطاءات. هكذا استطاع جنبلاط أن يوفق بين التحاقه بالنظام السوري والتحاقه بالحريري حين كانت العلاقة بين هذين الطرفين حميمية، أو تعاونية على الأقل، ويومها كان السوري لا يزال يمثل الطرف الأقوى في الساحة اللبنانية؛ أما حين برزت عضلات الكاوبوي الأمريكي، وبات الأدسم أكثر قدرة على التعبير عن دوره الحقيقي، فلمَ لا يلتحق جنبلاط بالكاوبوي الأمريكي ما دام ذلك يعزز نفوذه السياسي في أي معادلة جديدة، ويضمن له تدفق العطاءات!!! لكن الرياح لا تجري بما تشتهي سفنه على ما يبدو.
ثم من قال إن الخلاف بين جنبلاط والسوريين هو حقاً كما يدعيه جنبلاط أو كما تظهره وسائل الإعلام! فجنبلاط لم يقطع علاقته حتى الآن ببعض رموز النظام السوري، وتحديداً تلك الرموز التي ثبت أنها كانت الأكثر فساداً في ذلك النظام وكانت تمثل عائقاً أساسياً أمام أي محاولة إصلاحية في دمشق، الأمر الذي أدى إلى إقصائها من السلطة في ما بعد. وليست مصادفة أبداً أن تلك الرموز كلما كانت تتعرض لمزيد من الإقصاء من دائرة القرار في دمشق كانت لهجة جنبلاط تجاه سوريا تزداد حدة. وهذا أمر يعبر في حقيقته عن تحالف طبقي خفي كان يجمع أبرز أقطاب "أغنياء الفساد" في كلا البلدين، الذين كونوا جماعة ضغط فاعلة لإعاقة أي محاولة إصلاحية يمكن أن تهدد مصالحهم في أي من البلدين، وللنيل من الخيارات الوطنية والقومية، في كلٍ من سوريا ولبنان، الممانعة للمشروع الأمريكي – الصهيوني في المنطقة.
ويلجأ جنبلاط اليوم إلى الحديث عن مسؤولية الحزب الحاكم في دمشق عن قتل كمال جنبلاط، مصوراً الصراع بينه وبين السوريين لدى جماعته وكأن المسألة مسألة ثأر لكمال جنبلاط؛ وبالفعل جرت تعبئة الدروز الجنبلاطيين في هذا الاتجاه. مع العلم أن جنبلاط في حملته هذه يتحالف مع القوى السياسية والميليشيات الفاشية المسؤولة عن قتل آلاف الشبان والنساء والأطفال والشيوخ، من الدروز الجنبلاطيين كما من بقية اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، والمسؤولة عن ارتكاب المجازر انطلاقاً من صبرا وشاتيلا وصولاً إلى كفرمتى وعبيه ومختلف قرى الشحار. وكأن جنبلاط يريد أن يقول إن دماء كل هؤلاء الشهداء هي دماء رخيصة لا تعني له شيئاً، فيضع يده بيد هؤلاء القتلى في حين يصب جام غضبه في قضية قتل كمال جنبلاط. مع العلم أن "المكانة" السياسية التي يمثلها جنبلاط اليوم ما كان ليبلغها لولا الدعم السوري غير المحدود له في حرب الجبل. فجنبلاط بعدما كان على وشك الاعتراف بالهزيمة واعتزال السياسة عام 1982 (حين ظهر على شاشات التلفزة في عهد بشير الجميل قائلاً: سأعتزل السياسة وأذهب إلى فرنسا. وسلامي إلى ابني تيمور في الأردن" !!! فهو استعاد، بل عزز، مكانته السياسية بفضل مئات الشهداء الذين سقطوا في حرب الجبل دفاعاً عن عروبة لبنان، والذين يتنكر جنبلاط لدمائهم اليوم، وبفضل الدعم السوري والفلسطيني الذي قدم بدوره مئات الشهداء فضلاً عن المساعدات المادية والعسكرية التي لولاها لما استطاع جنبلاط الانتصار في حرب الجبل، ولربما كان لا يزال معتزلاً السياسة ومقيماً في فرنسا. هذا مع العلم أن جنبلاط نفسه قال عقب "انتصاره" في حرب الجبل: "إن السوريين أنسوني قضية قتل كمال جنبلاط"، نتيجة دعمهم غير المحدود له في تلك الحرب.
وربما يكون صحيحاً أن أحد أقطاب النظام السوري هو المسؤول عن قتل كمال جنبلاط مرةً، وها أمر فيه جريمة كبرى وخطأ استراتيجي فادح؛ لكن ما هو صحيح أيضاً أن كمال جنبلاط قُتل ألف مرة على أيدي من يدّعون أنهم يثأرون له اليوم.
فكمال جنبلاط قُتل فعلاً حين قُتلت الروح الوطنية العروبية التحررية في نفوس جماهيره، وقُتل حين أصبح التشبيح والسرقة شطارة وأصبح مال الحرام حلالاً؛ كما قُتل حين انتُهكت كرامة بيروت على أيدي أَبَوَات حزبه، وقُتل حين رفعت الأعلام الفرنسية على قبره، ثم قُتل حين رفعت صوره إلى جانب صور القَتَلى وعملاء إسرائيل وحيتان المال، وقُتل حين تحالف وليد جنبلاط مع أرباب الرأسمالية المتوحشة ضد العمال والفلاحين والفقراء والمساكين الذين "ليس على صدورهم قميص"، وهو يقتل اليوم ألف مرة حين يتحول وليد جنبلاط إلى أداة بيد المشروع الأميركي – الإسرائيلي.
هذا هو وليد جنبلاط الذي سعى بعض وسائل الإعلام المرئية والمقروءة لتسويقه بوصفه بطلاً تاريخياً ومخلِّصاً محرراً، كما سوِّق لمحمود عباس يوماً أنه المخلِّص في فلسطين، وكما سُوِّق لأحمد الجلبي من قبل أنه المخلِّص في العراق، أو كما سُوِّق لبعض الرموز "الانقلابية" في أوروبا الشرقية وإفريقيا وغيرهما من مناطق العالم الثالث.
ولا يتردد جنبلاط من وقت إلى آخر، في أن يملي علينا دروساً حول الأنظمة الوراثية في بعض البلدان العربية، متناسياً أنه نموذج مصغّر عن تلك الأنظمة، لكنه نموذج مكثّف وأكثر تجذراً وعمقاً في التاريخ، وأكثر تضليلاً في الثقافة السياسية. لذا يبدو له أن اقتلاعه من جراء رياح الديمقراطية الآتية من الشمال، أكثر صعوبة من اقتلاع أي نظام وراثي عربي آخر. فهل هذا ما يراهن عليه وليد جنبلاط؟
هذا هو مأزق الدروز السياسي في لبنان: قيادة سياسية لا تعرف الثوابت، تعمل على جرف الدروز باتجاه خيارات سياسية خطيرة تقطعهم عن عمقهم الحضاري والتاريخي، وتقضي على الوجه المضيء من تراثهم السياسي وهويتهم الوطنية العربية التي طالما كانت مصدر فخر لهم. فالدروز الجنبلاطيون باتوا اليوم لعبة صغيرة في أيدي الدول الاستعمارية، التي طالما لعبت بما يسمى "الأقليات" في لبنان من أجل تمزيق هذه المنطقة العربية والسيطرة عليها.
لكن الدروز الجنبلاطيين يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس من تجربة الموارنة في هذا الصدد، الذين طالما راهنوا على المشاريع الاستعمارية، بما فيها المشروع الصهيوني، ووضعوا أنفسهم في حال عداء مع عمقهم الحضاري والتاريخي، وكانت النتيجة إقحام لبنان في سلسلة حروب أهلية لم تُمحَ آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية بعد. إلى أن بدأ الموارنة بالفعل يتبنون سياسة عقلانية متصالحة مع هذا العمق، وهي سياسة تتمثل اليوم بالتيار العوني، الذي أخذ يوفق في الفترة الأخيرة بين نزعته الاستقلالية اللبنانية وبين تعزيز الارتباط والتفاعل الطبيعي مع المحيط العربي - الإسلامي.
أما الدروز الجنبلاطيون فهم بفضل قيادتهم المقامرة هذه، يقحمون أنفسهم في مشاريع شبيهة للمشاريع التي أقحم الموارنة أنفسهم فيها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وها هي النظرة الامتعاضية - على الأقل - أخذت تتسع تجاه الدروز في أوساط هذا العمق العربي - الإسلامي، سواء في لبنان أم في المحيط. فهل من أصوات عاقلة وجريئة يمكنها أن تعلو وسط الدروز اليوم من أجل إعادة تصويب المسار والحفاظ على الهوية؟
|
||
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |