إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

قيم الاجتماع البشري بين النظامين الأميركي و القومي الإجتماعي

أنطوان بطرس

نسخة للطباعة 2005-10-10

إقرأ ايضاً


معظم دول العالم ، امتدادا من روسيا والصين  العملاقتين في أقصى الشمال الشرقي للكرة الأرضية، ومرورا بقارات آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وانتهاء بكوبا الصغيرة في أقصى الغرب الأوسط، لم تعد اليوم تحلو للعين الأميركية.

والسبب الظاهري لهذا النفور هو الادعاء الأميركي بفقدان الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذه الدول. لكن الذي يضفي على هذا الأمر غرابة كونه صادر عن دولة عظمى لم تترك نظاما عسكريا او قمعيا الا وأيدته من باناما نورييغا إلى باكستان مشرّف.


بدا الأسلوب الأميركي الجديد أكثر وضوحا في عهد الرئيس كارتر، وكان الهدف منه ممارسة ضغط على دول لا تنهج المفهوم الأميركي للديمقراطية وإحراجها من اجل التأثير المباشر عليها، عبر شعوبها، لأسباب قد تكون تكتيكية او استراتيجية. وهي وسيلة فعالة للي ذراع الحكومات التي تسميها مارقة في عصر تتوفر فيه أدوات اتصال إختراقية كالتلفزة وغيرها.


الهدف على الصعيد التكتيكي هو خلق ضغوط داخلية  تجبر الدول المستهدفة على تليين معارضتها للمطالب الأميركية، وأما على الصعيد الإستراتيجي، فالهدف هو خلق توترات داخلية تؤدي على المدى البعيد إلى تقويض استقرار الدول وخلخلة بنيانها   الإجتماعي  والسياسي كما حصل في الإتحاد السوفيتي وكما كان يؤمل ان يحصل في الصين.


بلغت هذه السياسية ذروتها في عهد الرئيس الحالي بوش على اثر إحداث 11 أيلول. وممارسة هذه السياسة على النحو العشوائي الذي نشهده تثبت دون لبس انها أداة هيمنة وفرض سياسات في فترة فريدة من التفرد الأميركي، وليس بناء نظم اكثر عدالة. وإلا فكيف نفسر الرضى الأميركي على  دولة أعلن زعيمها ان لا مكان للمعارضة في بلاده بعد  إعلانه تبديلا شاملا في سياسات بلاده على صعيد ما هو محظور عليه أميركيا.


لكننا اذا شئنا ان نتعامل مع الموضوع  في إطار القيم، لا سياسة الواقع ووضعنا جانبا مسألة الأهداف الحقيقية للدعوة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان من قبل الولايات المتحدة، وبحثنا في قيم الاجتماع البشري لمجتمعات العصر الجديد، حق للولايات المتحدة، علينا، ان نعترف لها مرّة بالأسبقية الجزئية تاريخيا، وهي أسبقية المئتي عام، التي مضت على ولادة الثورة الأميركية. ولكن حق لنا عليها ان تعترف لنا مرتين: مرّة  واحدة بالأصالة لهذه القيم،  لأن امتداد هذه القيم الفلسفية والفكرية  يتصل بزينون والرواقية وذلك قبل ظهور آباء الاستقلال الأميركيين بألفين ومائتين من السنين، ومرة أخرى لأنها طرحت منذ ثلاثة ارباع القرن في وطننا نحن بالذات كأساس يكفل حياة راقية للمجتمعات الحديثة.


في مقاربتنا لقيم الاجتماع البشري بين النظامين الأميركي والقومي الاجتماعي سنحصر مقارنتنا بمصدرين أساسيين : الأول القيم الأميركية كما وضعها الآباء المؤسسون امثال جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وبنجامين فرانكلين، والكسندر هاملتون، وجون ستيوارت ميل، وجيمس ماديسون. والثاني القيم القومية الاجتماعية كما وضعها مؤسس وزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي انطون سعاده، الذي نحتفل بمئويته  الآن.


ولابد من التوضيح ان المقارنة التي ينطوي عليها هذا البحث لا تتعرض بالطبع لمآل القيم الأميركية ، بل تكتفي بتسليط الأضواء على منطلقاتها، مقارنة بما لدينا نحن. فالزمن الأميركي للديمقراطية أخذ يتباطأ منذ أمد وبلغ  أدنى درجاته يوم 11 أيلول 2001. ومنذ تلك اللحظة فإن سجل الولايات المتحدة على صعيدي الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا يؤهلها لأي مفاضلة او مقارنة.


تعود الأصول المباشرة ( التاريخية وليس الفكرية ) للديمقراطية الأميركية الى حدث هام  وهو إعلان استقلال الولايات المتحدة في أعقاب ثورة المستوطنين الإنكليز على التاج البريطاني. وقد رافق إعلان الإستقلال إعلان آخر لحقوق الإنسان، ولكنه ثانوي من حيث التأثير ولا يلقى كثير عناية من قبل محللي تطور النظام الأميركي.


ثورة بدون عقيدة:


لكن هناك قناعة كبرى، حتى بين كبار المفكرين والمؤرخين الأميركيين، انها لم تكن ثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وكثيرا ما طُرح  سؤال دارت حوله نقاشات هامة وهو  دور الثورة في صنع الديمقراطية الأميركية و كذلك دور  النخبة الأرستقراطية . وكان السؤال الذي شغل دي توكفيل، الذي لا يزال اهم منظر للديمقراطية في الولايات المتحدة منذ وضع كتابه " الديمقراطية في اميركا"، عام 1835((Democracy in America,Worsworth Classics,1998)،  إلى أي حد يعتمد تحقيق الديمقراطية على الثورة، وما هو تأثير الوسائل الثورية على اهداف الديمقراطية؟  فاعتبر ان التجربة الأميركية فريدة على هذا الصعيد قياسا بالثورة الفرنسية التي  اصبحت مرادفة للإرهاب، والمصير القاتم الذي آلت اليه الجمهورية الثانية في فرنسا قبل انصرام ثلاث سنوات عليها على يد نابليون الثالث. وكذلك بالمقارنة مع ثورة كرومويل  التي انتهت بقطع رأس الملك وبتحول بطل الثورة ديكتاتورا مدى الحياة.


فإزاء هذه التطورات السلبية كانت الديمقراطية الأميركية قد نضجت وتحولت الى  ديمقراطية الطبقة الوسطى ، متزنة و معتدلة، علمانية و مسالمة، حامية للملكية الفردية ومحافظة.


ولكن دي توكفيل اعتبر ان الإنتقال  السلس، في اميركا،  من الأرستقراطية والنخبة، الى مقام الثورة هو اهم عناصر نجاح التجربة الأميركية في خطوتها تلك. فأية ثورة إذن هي التي تدين للنخبة الأرستقراطية بنجاحها واستتبابها؟. والجدير بالذكر ان الدور الأساسي الذي لعبته الأرستقراطية جاء اولا على صعيد التشريعات (جفرسون) وثانيا قيادة الجيوش (واشنطن ). والمعنى الثاني والأهم هو ان ما يدين به العالم الى الآباء المؤسسين من فصاحة لا تقدر بثمن، في شرح الديمقراطية والدفاع عنها، لم يكن من صنع الثوار.


والملاحظ ان الأمر تطلب خمسين عاما بعد اعلان الإستقلال " للوصول إلى القناعة بأن الشعب، لا السادة، هم الذين ينبغي عليهم حكم البلاد". فقد ظلت الحكومة طوال أربعة عقود بيد العائلات الأرستقراطية الجنوبية، كعائلتي واشنطن وجفرسون، او أثرياء ينتمون إلى الطبقة الوسطى في الشمال.


وما كانت الحرب الأميركية الأهلية عام 1861، والتي تعتبر أكثر الحروب الأهلية دموية في العالم عصر ذاك، الا تعبيرا عن حقيقتين: الأولى الانتصار النهائي للديمقراطية في صراعها مع الأرستقراطية، والثانية الإقرار بأن الانفصال عن الاتحاد ممنوع ايا كان الثمن. وتبعا لذلك ظهر مبدأ ديمومة الاتحاد بصفته وحدة يستحيل حلها، ويستحيل معها ، على كل دولة من اعضائها، الانفصال عنها او الخروج منها. وقد أعلنت المحكمة العليا ان الدستور اوجد بين الدول (الولايات) اتحادا دائما أزليا، لا تنفصم ولا يمكن ان تنفصم عراه.


ورغم ان الثورة الأميركية تعتبر العصر العظيم للفكر السياسي الأميركي فان هذه الثورة لم تصدر بحثا علميا هاما عن النظرية السياسية، خلافا للثورة الفرنسية التي جعلت نظريتها الفلسفية من فرنسا عاصمة إمبراطورية الفلسفة. وبحسب المؤرخ دانيال بورستين، في كتابه " عبقرية السياسة الأميركية" The Genius of American Politics, Univ. of Chicago,1953)) فانه من الصعب اعتبار الثورة الأميركية ثورة بالمرة.

وهذا أمر يتفق فيه بورستين  مع دي توكفيل الذي سبق وكتب ان الظروف الاجتماعية والدستور، الذي كان يحكم الأميركيين ، هي ظروف ديمقراطية، وان الأميركيين لم يكن لديهم ثورة ديمقراطية.


ومن الملاحظ انه بالرغم من ان الثورة الأميركية قد وقعت  أحداثها في عصر تميّز بالتأملات والخواطر الفلسفية والبحوث، فإن هذه الثورة لم تتسم بالغنى الفلسفي على وجه الخصوص بالأصالة المنفردة في جهازها الفكري.


الحقيقة ان الثورة الأميركية ولدت داخل عصيان ضد الاستعمار،وكان شعارها   الحقيقي " لا فرض ضرائب حيث لا تمثيل"، وان دارس التاريخ الأميركي ليلاحظ ان المستوطنين كثيرا ما عدلوا في نظرياتهم حتى تتماشى مع احتياجاتهم. و لم يكن نضالهم في سبيل أفكار مدروسة بل حول سلطة فرض الضرائب  والصناعة في المستعمرات والأراضي الخلاء والفراء والسكر والنبيذ والشاي والنقد.  


ويبدو بوضوح ان  الثورة الأميركية لم تكن  سوى مجموعة من الأحداث المتلاحقة التي ادت إلى انفصال الولايات عن الإمبراطورية البريطانية وكونت للمهاجرين شخصية وطنية دون ان يكون انطلاقها من نتائج الروح الوطنية، وان الحرية التي كانت متاحة للمستوطنين سمحت لهم بعدم الارتباط  بأي فلسفة وطنية حديثة. وبحسب بورستين   فانه " ربما لا يوجد في التاريخ امة قامت بحماس اقل مما قامت به اميركا".  


وقد وفر التوسع الأميركي المبكر، على صعيد القارة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بالنسبة لمؤرخ على غرار ميشال بونون-موردان في كتابه، " أميركا التوتاليتارية" (L’Amerique totalitaire,Favre,1997) )، دليلا على الطبيعة الإمبريالية للنظام الأميركي. وفي كتابه الأخير، " الإمبراطورية الأميركية والإغارة على العراق"، (دار الشروق، 2003) بين محمد حسنين هيكل كيف ان مشروع الإمبراطورية الأميركية كان قائما منذ البداية وان كل رئيس قام بدور لإتمام المشروع وإكمال  القوة العسكرية وتحقيق التوسع الجغرافي واتخاذ المبادرات الحربية والسياسية العالمية ضمن هذا المخطط واستكمالا له.  


 

الديمقراطية الأميركية وعوامل نشوئها:


يرى دي توكفيل، ، ان هناك ثلاثة عوامل وراء بروز ظاهرة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، في الولايات المتحدة:


اولا: الوضع الخصوصي والمميز والاتفاقي، الذي وضعت فيه العناية الإلهية المستوطنين في العالم الجديد. لقد ثمن الأميركيون على الدوام ما اعتبروه توافقا جميلا بين الظروف المختلفة.  لم يكن للأميركيين جيران كي يتعرضوا  لحروب كبرى او أزمات مالية.  ولا كانوا بحاجة إلى فرض ضرائب شديدة وجيوش كبيرة وجنرالات كبار. لم تكن لديهم  عاصمة كبرى تمارس تأثيرا كبيرا على البلاد، بل مجموعة مدن عظمى.


ثانيا القوانين: أظهر الأميركيون احتراما للقوانين ولأهميتها. فالى جانب دورها في كبح غلو الديمقراطية  والحيلولة دون طغيان الأكثرية على الأقلية، فقد حمت البلاد من مخاطر المؤسسات الجمهورية الصرفة وسيطرة النخبة. ومكنت المؤسسات وخاصة المجالس البلدية، التي تشكل لب النظام الأميركي، من القيام بالرقابة السياسية. الأمر الذي أتاح للشعب ان يتذوق طعم الحرية وكيفية التمتع بها.


ثالثا عادات وتقاليد الشعب: المقصود بالعادات هنا معناها الأوسع. اي محصلة حالة الشعب الأخلاقية والفكرية المتوارثة. فالحريات الدينية والكلامية متغلغلة في نفوس الأميركيين وطريقة عيشهم ومعتقداتهم ونظامهم الاجتماعي. ومن شأن هذه العادات المتأصلة المتوارثة ان تتيح لهم  استمرار ما يصفونه بالحلم الأميركي وقوامه الحرية والثراء والازدهار.


ويلفت دي توكفيل النظر الى ان هذه العوامل الثلاثة مجتمعة ليست وصفة ديمقراطية في المطلق، واجتماعها معا لا يستلزم بالضرورة نتائج مماثلة في امكنة اخرى من العالم عبر التاريخ الماضي او المستقبلي.



ديمقراطية دون نظرية سياسية:


رغم العادات والتقاليد الأميركية المتواصلة التي تتيح للأميركيين  ان يستخدموا عقولهم بطريقة واحدة وعملا بقواعد واحدة، فإنه ليس لديهم  فلسفة خاصة بهم وهم اقل دول العالم اهتماما بالفلسفة، ولا يتمتعون بأية نظرية شاملة للحياة السياسية يمكن ان تكتب.


فأميركا  لم تخرج قط فيلسوفا سياسيا له نفس القدر وسمو المنزلة، او حتى مؤلفا منهجيا  لنظريات يمكن ان يرقى  ليصل إلى مستوى فلاسفة السياسة العظام (بورستين). وهم لا يملكون  حتى القدرة على الكتابة العقائدية.  ولم تكن في التاريخ امة اقل من اميركا اهتماما بالفلسفة السياسية ونتائجها. فقد اظهروا على الدوام نفورا من النظرية  السياسية. والواقع فان المؤسسات الدستورية   استطاعت ان تصبح البديل للنظرية السياسية.

فالناس في اغلبيتهم لا يعنون ولا يهتمون بأي نظرية طالما هم سعداء. وهناك اجماع على ان الذي دفع الآباء المؤسسين لإقامة حكومة اتحادية ثابتة لم يكن سوى اهتماماتهم المالية.


جاء المستوطنون الى العالم الجديد في أزمنة مختلفة ولأسباب مختلفة ومن منابع ومشارب مختلفة. كما وان أهدافهم لم تكن متماثلة وأقاموا أحكاما لتنظم شؤونهم مبنية على أسس مختلفة. مقابل ذلك جمعتهم مظاهر مشتركة ووضعوا في ظروف متناظرة. كانوا يتحدثون بلغة واحدة، وكانوا ابناء ديانة واحدة وعادات واحدة . أتوا من بلاد مزقتها الصراعات الفئوية طوال قرون، فوجدوا أنفسهم بحاجة ماسة الى قوانين تحمي قيم الحرية والحق. وقد دفعتهم هذه العوامل الى الانصهار في أمة واحدة وتحقيق حضارة أميركية واحدة. وتعبيرا عن نجاحهم بهذا الصدد لاحظ دي توكفيل ان المسافة بين ولايتي "ماين" في اقصى الشمال الشرقي و"جورجيا" في الجنوب الشرقي، والبالغة الف ميل ، كانت اقصر  حضاريا مما كانت عليه المسافة بين نورماندي وبريتني في فرنسا والبالغة بضع مئات من الأميال. ويرى بورستين ان "شهادة الميلاد الوطني الأميركي هي "اعلان الإستقلال " وليس " اعلان حقوق الإنسان" . ويضيف ان " الأهمية الواسعة لهذا المعنى غالبا ما تنسى.



الأصولية الأميركية:


اعتبر المهاجرون الأوائل، "البيوريتانيون" ( الطهريون ، او الأصوليون بلغة عصرنا)، ان رحلتهم إلى العالم الجديد هي  تجسيد لأمر الهي وحملة منزلة من الله لإقامة  " صهيون جديدة" بصفتهم " شعب الله المختار". وحسبما جاء في أدبياتهم وحولياتهم، فالله سمح بان يجتمع في ارض، كانت قبلا " ارض شيطان"، شعب، من رجال ونساء مميزين، ومنح هذا الشعب "رسالة حكم العالم". وقد حفظ الله هذه الأرض لهذا الشعب وحينما اكتشفت فكأنها خرجت للتو من تحت مياه الطوفان، وإلا فما غرض الله في إخفاء هذه القارة الواسعة عن العيون كل هذه المدة الطويلة  بعد الخلق؟. وكان تصرف الله في مواطني أميركا بعناية أشبه بمن يغربل الحبوب في الغربال، واتاح لهم التواجد في هذا العالم الجديد، ولولا التدبير الإلهي لما وصلوا رغم اخطار رحلة بحرية بلغت ثلاثة الاف ميل. حتى ان جورج واشنطن كان يرى " ان كل خطوة خطاها المستعمرون نحو الاستقلال الوطني تبدو مرسومة بسمة التدخل الإلهي".


من هذا المنطلق فقد كان المهاجرون الأوائل البيوريتانيون، الطائفة الأولى وربما الأخيرة والكبيرة،  في تاريخ أميركا التي جاءت ومعها عقيدة اجتماعية واضحة، وهي عقيدة العناية الإلهية، وعاشت بمقتضاها في الأرض الجديدة. وبحسب  ميشال بونون-موردان فإن هذا الشعور فرض نفسه في كل مكان وتجلى في كل أعمال الأمة الأميركية واعتبرها البيوريتانيون حقيقة لا تخطىء لأن الله يؤيدها، وكل تقصير او قصور في هذا الإيمان  يؤدي إلى طرد المرتكب من داخل الجماعة وعليه ان يرحل . فلا مكان لأي انشقاق.


والجدير بالذكر انه حينما نشأت الطائفة المورمونية على الأرض الأميركية فيما بعد، (الثلث الأول من القرن التاسع عشر) فقد دمجت بين كتابي العهد القديم والعهد الجديد بأنجيل  يقول  ان ارض الميعاد هي أميركا.



الغرب الأميركي والأصولية الجديدة:


لعب غزو الغرب الأميركي دورا كبيرا في خلق وعي بأهمية الإنسان العادي على حساب تفوق النخبة الاجتماعية والاقتصادية. وفي حين نقل هذا التحول المجتمعات الأميركية نحو ديمقراطية كاملة، فقد احدث تطورا في مفهوم الشعب المختار برر بموجبه شن حملة إبادة شعب بكامله اتسمت بالمجازر. والسبب ان الغرب أتاح فرص جديدة لاستمرار اتصال الأميركيين  مع بساطة المجتمع البدائي، بعد ان هذبهم الاستقرار الحضري وبدت أجيالهم الجديدة مترهلة غير مكافحة. فعادت القوى التي تسيطر على الشخصية الأميركية بالبروز.


على كل هذا فإن ذاك الغزو لم يكن مجرد كيلومترات مربعة أضيفت بقدر ما كان تغليبا لشخصية المغامر على شخصية المهاجر الأصلي الباحث عن الحرية الدينية الساعي للسلام. لقد سيطرت الآن صورة الرائد المغامر، مبشرا ام تاجرا، باحثا عن ذهب او مصلح ارض ، المستعد للقتل للاستيلاء على ملك غيره ، الهجومي في أحكامه، البدوي الأميركي الذي يتحرك من مكان الى آخر، مقتحما آفاقا تلو الأخرى مستكشفا البراري والصحاري، من اجل التفوق المالي وما يحمل من سلطة. ويكفى ان نشير الى ان الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم ، على ما نظن، ينص دستورها على عدم الانتقاص من حق الشعب في اقتناء السلاح. كما للمواطن الحق في استخدام السلاح للقتل  ضد كل من يدخل محيط منزله ولا يمتثل لطلب المغادرة.


ومما لاشك فيه ان مذابح الهنود واستمرار الرق طوال الفترة التي استمر فيها، وصمة عار في جبين القيم الأميركية. ان مفهومي المساواة و الأمة الأميركية ذات المجتمع الإنصهاري  لا يشملان الهنود الحمر والسود. هذان العنصران يشملهما مفهوم اقوى هو الاستبعاد العنصري. فالهنود الحمر، هم ، بحسب المستوطنين الأوائل، " العبيد الطيعون للشيطان". وتبعا لذلك نشأ تجاههم موقف عام أدى إلى إحداث هوة كبيرة بين الهنود الحمر والسود من جهة، وبين البيض، من جهة  أخرى يصعب ردمها. فقد أزعج الهنود المستوطنين الجدد بسبب عنصريتهم (أي المستوطنين) ، ولأنهم كانوا (أي الهنود الحمر)  يمتلكون ثقافة غنية متعددة الجوانب، (في الزراعة والطب مثلا) اراد المستوطنون طمس معالمها والإبقاء على ثقافتهم هم.


اضف إلى ذلك أن الهنود كانوا يعيشون على ارض يحتاج اليها البيض وما كان على الهنود سوى الرحيل او الانقراض.


ومثلهم كان وضع السود ولم يزل. فهم ايضا غير قادرين على الإنتماء الكامل للأمة. وكان جيفرسون ابرز دعاة الديمقراطية الأميركية يقول انه لا يمكن ادماج رجال لم يتلقوا الإرث الأنكلو سكسونى. وقد  سادت القناعة بأنه لا يمكن التخلص من الرق دون التعرض إلى ضرر اكبر لكلا الجانبين الأسياد والعبيد. بحجة انه لا توجد قاعدة ضميرية او قانون يدين الرق. وكان ينظر إلى الجنوب حيث مورس الرق في اوسع معانيه على انه ذو نظام اجتماعي متفوق. وكثير من المستوطنين المفكرين كانوا  يرون ان مجتمع الرقيق ينعم بحياة آمنة وخالية من المصائب الكبرى، وان الرق بحد ذاته هو "المسبب الوحيد" للمدنية.


ومن المفيد ان نشير الى  ان لنكو لن الموصوف بأنه " محرر العبيد" لم يكن من أنصار تحريرهم بسبب تأثير الإلغاء على مصالح البيض. ولكن الاعتبارات العسكرية هي التي فرضت عليه في ما بعد السير في الإلغاء.



دور الرأسمالية في تكوين الدولة الاتحادية:


لعب الرأسماليون دورا أساسيا في تحويل التحالف بين الدول الأميركية إلى دولة إتحادية. وكانت دوافعهم في ذلك توسيع الأسواق وتوحيدها لتوظيف الأموال  في ميادين جديدة، او تعويض خسائرهم عن طريق تجميع شتات مالياتهم، او توفير القوة اللازمة لإفناء القبائل الهندية من اجل حيازة اراضيها واستثمارها. ولم يقف امام هذا التيار سوى صغار المزارعين في الريف. ولكن مع بدء ظهور الرأسمالية الكبرى كان نفوذ الصغار قد تضاءل  لمصلحة الحيتان.  خلافا لما يعتقد كثيرون فأن الديمقراطية الأميركية لا تنطوي على تفضيل مبدأ الإزدهار للجميع بل تكتفي بمجرد المساهمة في تحسين اوضاع الغالبية .



الجمع بين الله وقيصر:

هناك مجال واحد في الحياة الأميركية وجد الأميركيون  انفسهم مرتبطين فيه ، وان عن غير قصد، بفلسفة شاملة صريحة ومميزة وهو الدين. فلا توجد مدينة اوبلدة-  مهما كانت صغيرة او كبيرة - لاتقوم فيها كنيسة او مبانٍ دينية ظاهرة الأمر الذي يعكس وزن الدين الكبير في الحياة الإجتماعية الأميركية وحريتهم الفائقة فيه. ورغم ان الدين هو الذي أوجد المجتمع الأميركي، فان هناك فصلا بين الدين والدولة. وخلافا لمعظم الدول التي تتبنى ديانة او مذهبا معينا بصفة رسمية وتسنده ماليا فليس للولايات المتحدة " كنيسة مقررة". والدستور في تعديله العاشر نص على " لن يقر الكونغرس اي قانون بخصوص مؤسسة دينية او يحرم الممارسة الحرة منها". وعمليا فالمسيحية حقيقة ثابتة في اميركا الرسمية وهي تشكل الأساس في قيم المجتمع لذلك فإن الفصل بين الدولة والكنيسة ليس تاما. وان ما يسمى في الولايات المتحدة بحركة "مجتمع الكنيسة" الذي يضم المركز الديني ومقر الكشافة وقاعة المحاضرات والعاب الكرة، متبع لدى كل الطوائف والمذاهب. فالديانات جزر مستقلة عديدة ومتنوعة ودوما متجددة. انها نظام حياة. وهكذا فشل مبدأ فصل الدين عن الدولة في أن يعكس أي مفعول هام على هذا الصعيد.


ورجال الدين الى أي مذهب انتموا لا يوالون نظاما سياسيا معينا او حزبا معينا. ومع انهم لا يتدخلون في الشؤون العامة ويتركون السياسة لرجال السياسة، فإنهم يوجهون الحياة الإجتماعية وينظمون الشؤون الحياتية المنزلية إلى ابعد الحدود وبذلك يمارسون نفوذا على صعيد الدولة .


ورغم ان الأميركيين يتمتعون بحرية فائقة في الدين فان هذا الحق ليس من امتياز الطوائف الدينية الأخرى في المجتمع الأميركي،كالإسلام. القيم شيء والممارسة شيء آخر.


أضف إلى ذلك ان الذين صاغوا القيم السياسية للمجتمع الأميركي، وهم المسيحيون، الوحيدون في العالم الذين مزجوا بين  ما لله وما لقيصر بدليل اعتمادها عبارة " بلله نثق" المطبوعة على ورقة النقد.


هذه العناصر مجتمعة تشكل مكونات وعناصر  الشخصية الأميركية والمفهوم الأميركي الخاص للديمقراطية.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن  هو التالي: ما هي عناصر القيم الأميركية المتعلقة بالاجتماع البشري المنظم؟


تشكل حقوق الإنسان في الولايات المتحدة قائمة طويلة. وهي على نوعين، الأول حقوق مدنية صممت لصيانة حقوق مجموعات الأقلية العنصرية ضد التمييز خاصة إن جاء من قبل الإفراد، وهي تخضع للنظم الحكومية.


وهناك حقوق الأفراد المصانة بالدستور من جور الحكومة ذاتها. ويزخر الدستور بمثل هذه المواد التي تتراوح بين سيادة الشعب وحرية الكلام وحرية العقيدة والفكر والمساواة والعدالة وضمانة الحقوق الشخصية والملكية الفردية وصيانة المتاع ، امتيازات المواطنين وحصاناتهم والتعليم و المحاكمة بواسطة المحلفين وتضييق مجال فعل الخيانة وحصره بحالتي الحرب او مشايعة الأعداء، وحمل السلاح. وفيما يلي استعراض لأبرزها:


سيادة الشعب ووحدته : هذا المبدأ متعارف عليه في العادات والتقاليد الأميركية تكفله القوانين ويمارس فعليا على نطاق شؤون وقضايا المجتمع. فعلى اثر اندلاع الثورة الأميركية برز مبدأ سيادة الشعب فجأة عبر المجالس المحلية وسرعان ما اصبح شرعة الدولة ومؤسساتها. والى حد كبير فهو ام القوانين الأميركية. وبحسب دي توكفيل فان الدستور الاتحادي الأميركي " يستند في الحقيقة إلى نظرية هي جديدة برمتها، يقتضي اعتبارها ابتكارا عظيما في العلم السياسي في أيامنا... فالذين يتناولهم حكم الاتحاد في أميركا ليسوا الدول الأعضاء بل المواطنين.

فاذا أراد الإتحاد فرض ضريبة فانه لا يتوجه إلى الولاية وإنما إلى كل ساكن من سكانها". كما نص المبدأ الذي اعلنه تعديل لاحق على الدستور " ان السلطات التي لم يفوضها الدستور للولايات المتحدة ، والتي لم تكن ممنوعة على الدول الأعضاء هي محفوظة للدول او للشعب". حتى الدستور يعتبر صادرا عن إرادة الشعب، لا عن ارادة الدول الخاصة او شعوبها، وذلك بقوله في مستهله "نحن شعب الولايات المتحدة"، وليس شعوب الدول المتحدة.


ان استخدام المجالس البلدية التي يتم فيها بحث كل شيء تقريبا يتعلق بالحالة الاجتماعية ومصالح الجماعة، تتيح لكل فرد ممارسة الرقابة والضغط على ممثلي الشعب، في ما يعتبر أبلغ تعبير عن مفهوم ممارسة الحرية الفردية لدى الأميركيين. كما وان النظام الانتخابي  للكونغرس يقضي بتجديد ثلث الأعضاء كل سنتين يكفل استمرار تأثير المواطنين على ممثليهم كما يجعل هؤلاء الممثلين على صلة بنبض الشعب واتجاهاته.   


الإستقلال والمساواة والحرية  : آمن الآباء المؤسسون، الذين جاؤوا إلى العالم الجديد بحثا عن الحرية الدينية والحرية السياسية " أن الناس جميعا خلقوا متساوين". وقد نص " إعلان الاستقلال " على مبدأ المساواة بين الناس وحقهم الذي لا يجب ان يفرط فيه بأي ثمن في الحياة والحرية والسعي في سبيل السعادة". كما نص البند الأول في إعلان حقوق الإنسان على عدم التدخل في الشؤون الدينية او منع ممارسة الشعائر الدينية او التضييق على حرية القول او الصحافة او في حق الناس في التجمع السلمي او اللجوء للحكومة لرد المظالم.


وكانت هناك خشية منذ البداية من ان تتحول الجمهورية الى ديمقراطية تتسم بطغيان الأكثرية على الأقلية. فجاء مبدأ المساواة ليحفظ الحقوق، بغض النظر عن التفوق الديمغرافي، على اعتبار ان المساواة شيء في الضمير العقلي للبشر واساس لعقيدة الأمة الأميركية،  ودخل في صلب عاداتهم وتقاليدهم. وقد روي عن جفرسون قوله ان طغيان الشرائع هو الخطر الحقيقي الأكبر على الديمقراطية.


على ان هذه الحقوق الشاملة المطلقة في نصوصها، لها إستثناءات على الصعيد التطبيقي. اذ أن اول رئيس اميركي كاثوليكي كان جون كندي ، الرئيس الخامس والثلاثين ، أي بعد مئتي سنة على تأسيس اميركا على قاعدة حقوق الإنسان. وأول رئيس جنوبي، بعد الحرب الأهلية، أصيل ( أي لم يتسلم الرئاسة عبر نيابة الرئاسة لخلو سدتها)، وهم اندرو جونسون، وهاري ترومان وليندون جونسون، وباستثناء رئيسين ولدا جنوبيين ولكنهما لم يترشحا كجنوبيين،هما وودرو ولسن من ولاية فرجينيا، ودوايت ايزنهاور من ولاية تكساس)، كان جيمي كارتر، الرئيس التاسع والثلاثين ، أي بعد 117 عاما على هذه الحرب. وقد انتظر الهنود الحمر حتى العام 1976 كي يمارسوا ديانتهم بحرية . واما الملونون فأمرهم معروف.


حرية الكلام: نص التعديل الأول " أن " الكونغرس لن يجيز قانونا .. ينقص من حرية الكلام او الصحافة...". وقد أتاحت القوانين لرجال الإعلام الحماية اللازمة لمتابعة استقصاءاتهم وتحرياتهم بحثا عن الحقائق وتجاوزات  حيتان المال والشركات الكبرى والمافيات.   ومن الأمثلة على هذه الحرية  ان الصور المتحركة كانت تعتبر " مجرد عمل بسيط "  ولذا لم تمنح اية حماية (وكان ذلك في الخمسينات). ولكن المحكمة العليا اعتبرت (في نهاية السبعينات ) ان الصور المتحركة " موصل خطير لنقل الأفكار" وقررت حمايتها من الرقيب.  


العدالة: يمارس القضاء الأميركي سلطات إنصاف على غرار القوانين التي تحد من استخدام الإنذارات في نزاعات العمل. ولكن قلة من الولايات لديها محاكم منفصلة للإنصاف.


ضمانة الحقوق الشخصية وامتيازات المواطنين وحصاناتهم والملكية الفردية:  نص اعلان  حقوق الإنسان على حق الشعب بالأمان الشخصي ضمن ممتلكاتهم وبيوتهم ومحفوظاتهم  وحاجياتهم  الشخصية ضد أي استقصاء او مصادرة غير مبررين .


التعليم : أوكلت القوانين الأميركية لهذا القطاع مهمة الحفاظ عل روح الحضارة الأميركية وطابعها، تقاليد وقيما. ومن الطريف الإشارة إلى مقدمة القانون الذي وضع لتأكيد، ليس حق التعليم فحسب، بل الزاميته: بدأ نص القانون كما يلي: " لما كان الشيطان، عدو البشرية، يجد في الجهل اقوى حلفائه، ولما كان من الضروري ان حكمة الآباء لا ينبغي ان تظل مدفونة في قبورهم، ولما كانت تربية الأطفال من اولى اهتمامات الدولة..." وجب عندئذ  إنشاء المدارس وإجبار المستوطنين عل دعمها. وقد نص القانون على مسؤولية البلديات عن ملاحقة إرسال الأهلين  أبناؤهم الى معاهد التعليم وفرض الغرامات على المتخلفين.

 

ما معنى هذه القراءة والى ما تخلص؟


انها تخلص إلى النتائج التالية:


ان الثورة الأميركية ثورة بلا عقيدة، وديمقراطيتها خالية من اي مضمون سياسي. وربما لم تكن ثورة على الإطلاق. القيم الأميركية إمبريالية وتنطلق من نظرة عنصرية قوامها الاعتقاد بأن الأميركيين شعب الله المختار وان الله حفظ لهم اميركا لتطهيرها من الشيطان وحكم العالم. بالمقابل نجح الأميركيون في خلق ديمقراطية جزئية بمعنى انها تنطبق على البيض وتستثني الهنود الحمر والملونين. للدين دور كبير بالغ الأهمية في المجتمع، وثمة فصل للدين عن الدولة يستحيل تطبيقه بالكامل. سيادة الشعب مبدأ قائم وهناك تقديس كبير للحريات ولسيادة القانون والعدالة. قيم المجتمع الإقتصادية رأسمالية مادية وهدف المجتمع الأميركي يعنى بالإزدهار وليس بالضرورة للجميع. علاقة الفرد بالمجتمع نسبية تتوقف على عنصره وثقافته، الأمر الذي يفسر الشرخ الكبير البادي بالظهور في المجتمع الأميركي.


ولكن البحث والتقصي في القيم الأميركية مسألة ليست بالعملية السهلة على الإطلاق. فالباحث سيصادف، من جهة اجمل ما كتبته العقول البشرية من صيغ وعبارات المثالية، ومن جهة اخرى، سيجد أسوأ ما حفلت به العقول من مظالم. انه سبيل بالغ التعقيد يكاد يختفي فيه الفارق بين الاثنين. وكثيرا ما تضيع بينهما الحقوق لأن الأميركي كثيرا ما يؤمن بالشيء ونقيضه، ويعيش بأمانة كثيرا من القيم التي تبدو هشة وغير أساسية في نصوصها.

فالممارسات المبنية على التقاليد والأعراف أقوى من النظم والدساتير. ويستنتج المرء ان قانون محاسبة أميركا على قيمها لا يجب ان يعتمد كثيرا على النصوص.


عمليا تعني هذه الصورة مجتمعة ان القيم الأميركية قيم صدام حضاري، لا يعترف فيها المرء بالآخر الوافد من حضارة اخرى،  انها قاصرة على صعيد العدالة والمساواة الإجتماعيين.


   

القيم القومية الإجتماعية


تحدثنا عن قيم النظام الاجتماعي الأميركي، فما هي بالمقابل القيم القومية الاجتماعية وكيف يمكن موازاتها بالقيم الأميركية؟



اولا: العلمانية الحقيقية


النقطة الأولى التي تتصدى لأزمة الحضارات وعدم القبول بالآخر، هي علمانية المذهب القومي الاجتماعي. ان ازمة الحضارات او صدام الحضارات هو توجه خطير ومدمر بدأ يأخذ بعدا عالميا يفتك بالمجتمعات ويمزقها. وقد  بات ظاهرة عالمية متعددة الأسباب والأشكال وصار البحث عن حل او مخرج لها  امرا ملزما على صعيد إنساني .


نعم! ينطوي المذهب القومي الاجتماعي على الحل الناجع لهذه المعضلة.


فما الذي يجمع ذوي الأصول السريانية والكردية والأشورية والفينيقية والداغستانية والكلدانية واليزيدية والتركمانية والعربية والكنعانية والشركسية المولودين في سورية ويمنحهم الشعور بالإنتماء إلى وحدة قومية سورية ويستميتون من اجلها، كلهم مرتبطون بنسيج سوري واحد ولا تستطيع ان تميز واحدهم عن الآخر لولا تمايز اسمائهم احيانا.


وما الذي يجمع الماروني والسني والشيعي والرومي والدرزي والبروتستنطي والنصيري ؟


ما الذي يجمع ابن رام الله وابن الحسكة وابن انطلياس وابن البصرة وابن أربد وابن الكويت وهم فلسطينيون وشاميون ولبنانيون وعراقيون وأردنيون وكويتيون ؟


اي حزب في الوطن السوري او العالم العربي استطاع ان يحقق ذلك. اية دولة او مجتمع في العالم يستطيع اليوم ان يدعي مثل هذا الإنجاز بل الإعجاز الاجتماعي؟


اي دليل اعظم على هذا الانصهار القومي الإجتماعي وما سره؟


يفسر سعاده هذا الانصهار بالمبدأ الأساسي السادس القائل ـ" إن الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة". ويقول " في الحزب السوري القومي الاجتماعي فقط يدخل اي مواطن من اية طائفة كانت إلى قومية جامعة فلا يبقى الماروني مارونيا ولا السني سنيا بل يهب كل نفسه للأمة. " . واضاف ان " المبدأ الذي أتمشى عليه هو مبدأ القومية، وهو المبدأ الذي يدعونا إلى محبة أبناء قومنا وجلب الإصلاح القومي لهم". فالتراحم الداخلي، كما يسميه، هو أساس كل مجتمع يريد ان لا يخرب". وان بقاء معتنقي المذهب القومي الاجتماعي على هذا الانسجام الداخلي لهو معجزة تتحدى الزمن الرديء.


 

ثانيا: الفلسفة المدرحية


ان الصراع التاريخي والتقليدي بين النقيضين، التفسير المادي للتاريخ والتفسير الروحي للتاريخ، كان على رأس القضايا التي قوضت السلام العالمي وأربكت العالم في القرن العشرين و لا تزال تُمسك بالقرن الجديد. الرأسمالية تقوم على القيم المادية ولا تختلف عن قيم الشيوعية المادية ولو انها استبدلت طبقة بأخرى.


الحل كما رآه سعاده هو بديل يقدم " نظرات جديدة في الاجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها". انه مبدأ يخرج من القاعدتين المتصادمتين (الرأسمالية والشيوعية) "بقاعدة واحدة عامة، بل بقانون جامع يمكن ان تأخذ به الإنسانية، وهو بحث واسع بل فلسفة كاملة في الاجتماع والتاريخ... فلسفة تفاعل موحد جامع للقوى الإنسانية [ انها] الفلسفة المدرحية التي تقدمها النهضة القومية الاجتماعية".



ثالثا: الديمقراطية


صورة سعاده الحقيقية هي صورة الديمقراطي الحقيقي. ينطلق مبدأ سعاده الديمقراطي من مقولته ان " القومية تقوم على مبدأ ان السيادة مستمدة من الشعب ، وان الشعب لم يوجد للدولة بل الدولة للشعب". وقد منح هذا التوجه الدولة القومية إطارا تاريخيا سوريا أصيلا. ففي وصفه للملكية الفينيقية قال انهم بجعلهم الملك منتخبا لمدى الحياة " سبقوا كل الشعوب والدول التاريخية الى تأسيس الدولة الديمقراطية" ووصف هذه الدولة بأنها " دولة الشعب او دولة الأمة... المنبثقة من إرادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه".


وكتعبير عن مدى عمق هذا الالتزام بالديمقراطية أوضح ان " الدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتما، فهي لا تقوم على معتقدات خارجية او إرادة وهمية بل إرادة عامة ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة. .. الدولة الديمقراطية لم تمثل التاريخ الماضي ولا التقاليد العتيقة ولا مشيئة الله ولا المجد الغابر، بل مصلحة الشعب ذي الحياة الواحدة الممثلة في الإرادة العامة، في الإجماع الفاعل، لا في الإجماع المطاوع". ولم يترك سعاده مجالا للشك بأنه يؤمن بالرأي العام وبدوره. قال " نشأ الاعتقاد الخاطئ بأنه ليس هناك شيء اسمه رأي عام. الحقيقة ان الرأي العام موجود دائما في كل مجتمع متمدن.


وقد اقترح سعاده تعميقا لمفهوم الديمقراطية استخدام " تعبير عن الإرادة العامة" بدلا من "تمثيل الإرادة العامة" كون الأخيرة "لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة". أضاف موضحا، وكان ذلك بمناسبة خطاب القاه  عام 1940 عن " مؤسسة الديمقراطية في العالم"، " ان الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحولت إلى نوع من الفوضى لدرجة ان الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها " تمثيل" الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلابا جديدا. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على " التعبير عن الإرادة العامة " بدلا من " تمثيل الإرادة العامة" الذي هو شكل ظاهري جامد. هذه الفكرة الجديدة هي الاكتشاف السوري الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل  به لنجعل البلاد دائما كما تريد الأمة".


و يلاحظ المراقب لقضايا الفكر المعاصر ان مناقشات حادة تدور الآن حول هذا الموضوع بالذات في الدوائر الفكرية العالمية. فبنتيجة تطور الحياة الإجتماعية وازديادها تعقيدا يتركز الاهتمام على معرفة كيفية تأمين افضل تعبير عن مصالح المتحدات التي يتكون منها الإجتماع الإنساني. ويدور الجدال تحديدا حول مفهوم الجمهوريانية المدنية ( civic republicanism ) الواقع ضمن إطار الديمقراطية التعبيرية التي ترى ان المجتمع يتكون من مجموعة مصالح وان التمثيل يجب ان يعكس هذه المصالح بالتحديد ويعبر عنها. هذا الإتجاه يتوافق مع التعددية الليبرالية liberal pluralism  التي تركز على القيم العامة للمجتمع وتصر على عدم سيطرة كتلة مجتمعية معينة على اخرى - كما يحصل عادة في الديمقراطية التمثيلية - وشرط عدم تضارب مصالح المتحدات مع الصالح العالم. هذا المفهوم الذي اخذ به سعاده ينسجم ايضا مع التقليد الروسوي (نسبة إلى جان جاك روسو).


اضف إلى ذلك ان مفهوم المتحد الذي ركز عليه سعاده هو نفسه ايضا موضوع مداولات كثيرة اليوم وتحديدا بين دعاة ما يمكن تسميته بالمتحدية communitarianism و دعاة الليبرالية الصرفة التي تركز على الحرية الفردية. وقد حسم سعاده هذا الجدال مسبقا حينما سار مع التقليد الأرسطوطالي الذي يقول ان القيم مجتمعية وان الفرد هو " مجرد امكانية انسانية" .


 

رابعا: حقوق الإنسان


في المقال الذي استهل به سعاده العدد الأول من " النظام الجديد" النشرة المركزية للحركة القومية الاجتماعية، في آذار 1948 كتب يقول ان الهدف الذي يحفز العقول هو " ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني ... ينمي الحياة ويجعلها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية".


في مثل أجواء هذا المفهوم للديمقراطية تصبح مسألة حقوق الإنسان تلقائية. ومع ذلك فلنستمع إلى ما كتبه سعاده كإطار عام لمفهوم حقوق الإنسان لندرك إلى اية مرتبة رفيعة أراد ان يسمو بهذه المسألة إذ قال: " أما الديمقراطية التي يفتخر بها العالم الآن ...[والتي] ظهرت في سورية، هي الغرسة الأولى ...التي أعطت الثمر الكثير للعالم كله، ولا يزال البشر إلى الآن يجاهدون في إيصال هذه الفكرة" حقوق الإنسان" إلى حد الكمال...فالسوري يجب ان يهتم في إنقاذ الديمقراطية من الهلاك وذلك بأن يزيل ما دخل إليها من الفساد ويدخل إليها تفكيرا ينطبق على ما وصل اليه الناس من العلم والمعرفة فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعد".


في الحقوق المدنية: يقول سعاده ان الحق والحرية هما قيمتان أساسيتان من قيم الإنسان – المجتمع وكل مجتمع يفقد هاتين القيمتين يفقد معنى الحياة السامي . إنطلاقا من ذلك فقد اعتبر ان الحقوق السياسية التي تحفظ النظام هي الحقوق المدنية التي يتمتع بها الفرد بصفة كونه عاملا في النظام السياسي الاجتماعي الذي يعيش فيه. والحقوق المدنية مقدسة تكفل حق التفكير وحق الاعتقاد وحق نقل الاعتقاد وحق التصريح بالاعتقاد وحق الاجتماع وحق تكوين رأي وحق نقل هذا الرأي، فينفسح المجال للشعب للتطور نحو افضل الأنظمة وأقوى المبادئ واصلح الحالات". وقد اعلن سعاده منذ وقت مبكر، يوم وقف امام المحكمة المختلطة عام 1936 انه اسس الحزب السوري القومي " لتمكين ابناء امتي من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية المحرومين منها وليس لمنعهم من ممارسة هذه الحقوق".


في الحقوق القومية والمساواة القومية: ربما كان ايمان سعاده بهذين المبدأين من اعظم انجازاته. لم يعتبرهما الأساس لكل سياسة وكل نظرة حقوقية او إدارية فحسب، بل هما سر الأعجوبة التي حققها دون سواه من قادة الفكر السياسي في العالم قاطبة اذ، انطلاقا من هذه النظرة صاغ المبدأ الأساسي السادس القائل " الأمة السورية هيئة اجتماعية واحدة". فقد اعتبر سعاده ان هذا المبدأ " يؤلف جزءاً هاما من الإيمان القومي " كما كشف بأنه ، أي المبدأ، سبب نجاحه هو في اذابة الفوارق بين مختلف الطوائف والمذاهب.


في حرية الفكر: اعلن سعاده مرارا ان الحزب لم يمنع أحدا قط من إظهار معتقداته الفلسفية من أي نوع كانت في كتاباته. وقد جاء هذا الكلام في جوابه على الكتاب الإستعفائي الإنسحابي لفخري المعلوف " يمكنكم ان تنشروا افكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحشر و الحساب وليوافقكم في ذلك من شاء وليخالفكم من شاء". واضاف في رسالة لغسان التويني يشرح فيها موقفه من قضية فخري المعلوف " في الحزب من الاحترام والضمان لحرية الاعتقاد والتساهل تجاه أي اعتقاد او مذهب فلسفي لا يرمي إلى بث روح الشقاق وإثارة النعرات والقضاء على معنى الأمة". وينطلق هذا القول من مفهوم سعاده القائل " إن لكل حكومة حدا تقف عنده فيما يخص بأمر تقدير المصير العام الأخير الذي هو مصير الشعب لا مصير الحكومة ، وكل حكومة تحاول ان تربط مصير الشعب بمصيرها تكون حكومة خائنة مصلحة الدولة. الحكومة التي تمنع أعضاء الدولة من التفكير في مصير دولتهم ومن استعمال حقوقهم المدنية والسياسية في تقرير المصير، حكومة قد تجاوزت حدودها وخرقت حرمة المبادئ ..وعصت إرادة الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيرها ومصيره.

لقد جعل سعاده من مسألة حقوق الإنسان واحدا من اهم ركائز الدولة السورية القومية الاجتماعية. وعلى العالم الذي يتطلع بحذر إلى الديمقراطية على انها فكرة غربية مستوردة، ان يعيد النظر بقناعاته، وان يقبل عليها بانفتاح ليوائمها مع ظروف معتقداته.



خامسا: المسألة الدينية


في واقع الأمر فإن هذه المسألة تكمن في باطن كل المواقف والنزعات التي تتحكم بالإنسان الفرد والمجتمع في آن. وما سأورده من أفكار لسعاده تردم الهوة بين الأضداد البشرية لو تم اعتمادها، ليست موجهة إلى المنادين بفصل الدين عن الدولة، بل إلى المؤمنين المتمسكين بالشريعة أساسا لنظام الدولة والمجتمع من جميع الأديان والمذاهب ولكل من يجد صادقا ان إيمانه بالشريعة هو الأساس الذي لا يريد ان يمسه. انها نظرة عقلانية ومواقف ودعوات ومقولات لسعاده تحدو إلى القبول بالآخر، ردما لصراع الحضارات والثقافات والديانات، مهما كان دينه او مذهبه، و دون تنازل منه او اهمال لوجه من وجوه الشريعة كما يفهمها.


قال :" اننا لا نتنازل عن حق حرية الفكر لكل مفكر... فيؤمن من شاء بما يشاء وليجهر كل ذي رأي برأيه وليوافقه من شاء وليخالفه من شاء". "ليس من فروض القومية تعيين وجود الله او عدم تعيينه ولا تقرير صفات الله" ، "لا تضارب بين القومية والدين الا حيث يمزج الواحد بالأخرى وقضاياها السياسية والاجتماعية او تمزج الواحدة بالآخر وقضاياه اللاهوتية والفلسفية" ، " لا يجوز الطعن في احد ابناء الأمة الواحدة بسبب اعتقاده الخاص " يمكن للمرء ان يكون مسلّما بحقائق المدرسة العلمية وان يحتفظ لنفسه برأي خاص في تعليل الوجود ومصدره ومصيره". " يمكن [للمرء] ان يسمو بايمانه الديني بالله عن الاعتبارات والنزعات الحزبية لأحد المذاهب وعن خصوصيات ذاك المذهب التي ليست من اصول الدين والإيمان وعن المصاحبات السياسية والغايات الزمنية لذلك المذهب". أخيرا وليس آخرا " لا خلاف مطلقا بين ان يكون المرء محمديا او مسيحيا في الدين او غير صاحب رسول خاص او دعوة خاصة في الدين، وان يكون قوميا اجتماعيا في الدنيا.. [شرط الاّ] يخرق مبدأ المساواة في الحقوق وحرية إبداء الرأي".



سادسا: الإنسان والمجتمع والعلاقة بينهما


هذا البند هو واحد من اهم ابداعات سعاده. اعتبر سعاده الإنسان مقياس القيم الإنسانية كلها مؤكدا محوريته ، لكنه ميز بين الإنسان والفرد معتبرا ان الفرد " مجرد امكانية انسانية ". ثم تناول المجتمع فاعتبره المرجع النهائي للقيم الإنسانية بقوله "ان كل القيم الإنسانية هي قيم اجتماعية" وان " الإنسان الحقيقي هو المجتمع لا الفرد" فالمجتمع "هو الوجود الإنساني الكامل والحقيقة الإنسانية الكلية ، وقيم الحقيقة والخير والجمال [ هي] قيم انسانية نفسية – انها قيم مجتمعية ".


وقد اوضح سعاده انه ينظر إلى الإنسان " من مستوى فكري جديد ويرفع بنظره الإنسان من حدود فرديته المنحصرة في امكانيتها إلى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون"، وان هذه النظرة هي بمثابة " فهم جديد شامل لحقيقة الإنسان ومعرفة الإنسان والقيم الإنسانية". اما غاية عقيدته، الاجتماعية " فهي " الاجتماع الإنساني –المجتمع وحقيقته ونموه وحياته المثلى". محددا ان " المجتمع الأكبر والأمثل هو الأمة". وانطلاقا من ذلك رأى ان "الحقيقة الاجتماعية هي أساس كل عمل قومي"." في الوحدة الاجتماعية تضمحل العصبيات المتنافرة والعلاقات السلبية وتنشأ العصبية القومية الصحيحة التي تتكفل بإنهاض الأمة".


هذا هو المثال الساطع لعالم متمزق المجتمعات. ان الجانب الجيد من القيم التي تقدمها الولايات المتحدة الى العالم  كمثال  يحتذى، هي أصيلة في التفكير القومي الاجتماعي منذ ثلاثة أرباع القرن.


واما الجانب الآخر الذي تقدمه للعالم الإمبراطورية الأميركية،  فنترك الكاتب السياسي بورستين يتحدث عنه. قال: " اذا اعتمدنا على فلسفة الديمقراطية الأميركية كسلاح في الصراع العالمي، فإننا بذلك نكون قد استعملنا سلاحا غير صالح ومن المرجح فشله". وأضاف بالتحديد وكأنما عينه على المستقبل، وكان ذلك في اوائل الخمسينيات:  لا يمكن زراعة المؤسسات الأميركي

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024