إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

العلاقات بين المشرق والمغرب العربيين دراسة تاريخية سياسية

د. جورج جبور

نسخة للطباعة 2006-02-15

إقرأ ايضاً


أولاً : هدف الدراسة وأهميتها وخطتها :


للدراسة هدف يبدو لي مفيداً وغير ذائع . مفيد لأنه يقدم محاولةً لتبيان آليات التفاعل بين أقاليم الوطن العربي .

وغير ذائع لأن العادة درجت على دراسة علاقة دولة عربية مفردة بدولة عربية أخرى مفردة . إذن أهنئ الجمعية الأردنية للعلوم السياسية إذ اختارت تدارس موضوع يبدو جديداً في الأدبيات العربية لهذه العلوم .


ولعل الدراسة اكتسبت أهمية خاصة منذ أعلن السيد حاتم بن سالم , كاتب الدولة التونسي للشؤون الخارجية , صباح يوم الأحد 28/3/2004 , تأجيل عقد القمة العربية . ففي الأخبار التي نقلت ذلك الإعلان المفاجئ , أبرزت بعض وسائل الإعلام أن مواقف الدول المغاربية أقرب إلى الموقف التونسي سواء من حيث الجوهر الذي دعا تونس إلى تأجيل الاجتماع , وسواء من حيث ترتيبات إعادة عقد القمة في الأسابيع القليلة القادمة . وبالمقابل تبدو الدول العربية الأخرى , وفي طليعتها دول المشرق العربي , تبدو بعيده عن الموقف التونسي بل وشاجبة له . من هنا فكأَن الدراسة تحاول وضع يدها على سؤال لم يكن يستأثر في السابق باهتمام عام . هذا السؤال هو : هل هناك توجه فكري سياسي في المغرب العربي مختلف عن توجه فكري سياسي في المشرق العربي ? . ثم إلى أي مدى يغني ذلك الاختلاف مفهوماً عزيزاً على كثيرين هو مفهوم الوحدة العربية , وإلى أي مدى ينسف , أو يقترب من نسف , ذلك المفهوم ?


أما خطة الدراسة فتقليدية تعاني في تنفيذها من محددات الوقت (لم أستطع البدء بالكتابة إلا يوم 2/4/2004) وعدة الشغل ( فالعمل , من عنوانه يبدو موسوعي الشمول , يتطلب مكتبة خاصة يعمل عليها فريق عمل خاص) وغياب نماذج دراسات متشابهة (على حد ما أعلم ) . تبدأ الدراسة بمحاولة تعريف التعابير , لتقدم بعد ذلك نظرة تاريخية وثانية سياسية , لتصل إلى استخلاصات تختتم بما يحفل به عادة مقام الختام من إبراز ما نقدر , أو نتوهم , أنه نتائج محكمة.



ثانياً : ما تعريف المشرق العربي والمغرب العربي ؟


لا بد من تعريف دقيق لتعبيري المشرق العربي والمغرب العربي . وعلى حد علمي ليس ثمة اتفاق دقيق على تعريف هذين التعبيرين , وعلى تعريف تعبير ثالث هو الشرق الأوسط الذي يريد الرئيس بوش تكبيره . ولا نحراف هذه الدراسة أقول ما يلي :


من المؤكد أن المشرق العربي يضم بلاد الشام والعراق . ومن الجائز أن تضاف إليه جنوباً كل دول الجزيرة العربية , وأن تضاف إليه مصر أيضاً . أما المغرب العربي فمن المؤكد أنه يضم دول المغرب العربي الثلاث : تونس والجزائر والمغرب . ومن شبه المؤكد أن تضاف إليه موريتانيا . ومن المحتمل أن تضاف ليبيا . وهذه الدول الخمس هي التي تشكل الاتحاد المغاربي الذي أنشئ عام 1989 .


ما الدول العربية التي تتبقى لدينا ? السودان والصومال وجزر القمر . كيف نصنفها ؟ ثمة صعوبة في ضمها إلى المغرب العربي وهي حتماً ليست من المشرق العربي .


إذن : لا يمكن بأي حال أن يستوعب التعييران : المشرق العربي والمغرب العربي , لا يمكن بأي حال أن يستوعب هذان التعبيران كل الدول العربية . ولا ضير في ذلك .


ومن أجل أغراض هذه الدراسة أقترح أن نحدد المشرق العربي بأنه يتشكل من بلاد الشام والعراق , أي من الهلال الخصيب . كما أقترح بأن نحدد المغرب العربي بأنه يتشكل من بلاد الاتحاد المغاربي الخمس وهي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا .


ومن المكن بعد ذلك أن نعتبر دولتي وادي النيل بأنها الوسط العربي , أي أنها وسط بين المشرق والمغرب العربيين . كما أن من الممكن اعتبار بلاد الجزيرة إقليماً مستقلاً نطلق عليه اسم الجنوب العربي . وتبقى لدينا بعد ذلك دولتا الصومال وجزر القمر ولا بأسس بأن نطلق عليها تعيير دول " الأطراف العربية " . أقترح ذلك ولا أتمسك به . وربما أقترح على علماء السياسة العرب النظر ملياً في مثل هذا التصنيف تمهيداً لإقراره , مع الاحترام الكامل لحق كل عالم سياسة عربي في إشهار رأي خاص به .


إذن لدينا خمس دول في المشرق العربي وخمس دول في المغرب العربي , فهل لنا أن نلقي نظرتين تاريخية و سياسية على هاتين المجموعتين من الدول في العلاقات المتبادلة بينهما ؟



ثالثاً - نظرة تاريخية :


بالنظرة التاريخية , في تمييزها من النظرة السياسية , أقصد تلك الفترة الزمنية الممتدة من فجر التاريخ حتى الحرب العالمية الثانية , أي حتى ما يطلق عليه اسم النظام السياسي العربي الراهن . ويمكن طبعاً تحقيب التاريخ منذ فجره إلى الحرب العالمية الثانية بحسب عدة معايير . وسأعتمد ثلاث حقب .


الحقبة الأولى من فجر التاريخ إلى الفتوحات الإسلامية . والحقبة الثانية من الفتوحات الإسلامية إلى التوسع الاستعماري الأوروبي بما في ذلك فترة السيطرة العثمانية في مجموعتي بلاد المشرق العربي والمغرب العربي .

ويمكن تمييز حقبة ثالثة غير محددة في معالم بداياتها هي حقبة النهضة العربية , أي تلك التي تغطي أساساً ردود الفعل العربية على التوسع الاستعماري الأوروبي , أي بداية شعور الذات العربية بنفسها .


ويمكن الخوض في جميع أنواع التفريعات ضمن النظرة التاريخية . فمن الممكن التمييز بين نظرة تاريخية فكرية , وأخرى سياسية . كما أن من الممكن التمييز بين نظرة تاريخية مرتكزة على ثوابت كالجغرافيا ( وثمة قول مأثور أحبه وهو أن الجغرافيا تصنع التاريخ ) وبين نظرة تاريخية مرتكزة على العملقة الشخصية ولاسيما في الحقل الفكري كذلك التعملق الذي مثاله علامة كابن خلدون .


في الحقبة الأولى , من فجر التاريخ إلى الفتوحات الإسلامية , نلمح أثراً شامياً في المغرب يتمثل في الانتشار الفينيقي ومثاله قرطاجة . وثمة أثر مشرقي آخر يتمثل في نظرة تشهد مزيداً من الانتشار , مؤداها أن أما زيغيي المغرب إنما هم من نسل قبائل عربية يمنية هاجرت إلى المغرب . ولدينا أيضاً قصة النبي يوسف التي تقف آثارها عند مصر فقط . وبالمقابل ثمة فراعنة من أصل ليبي حكموا في مصر وامتد حكم بعضهم إلى بلاد الشام . ويعني كل ما سبق أنه كانت ثمة تفاعلات بين المشرق العربي والمغرب العربي منذ فجر التاريخ وقبل حقبة الفتوحات الإسلامية . قولنا هذا لا يعني عدم التيقظ إلى تفاعلات أخرى مثل التفاعل بين المشرق العربي وبين أوروبا التي هي في الأصل اسم ابنة ملك صور الفينيقي . أو بين المغرب العربي وبين أوروبا وأكثرها ألقاً عندنا بطولة هاني بعل القرطاجي في محاولة اقتحام أوروبا . ثم أن ما قيل سابقاً _ ومعظم ما يقال لا حقاً وهذا تحذير مكبر إنما هو من قبيل التعميمات الكبرى التي تقبل التأييد والنقض .


أما الحقبة الثانية , من الفتوحات الإسلامية إلى التوسع الاستعماري الأوروبي , فهي ذات معالم أوضح , ولعل الطابع الأول لها غلبة الأثر المشرقي في المغرب , على الأثر المغربي في المشرق . فالإسلام إنما أتى من المشرق .

وعاصمتا المشرق العربي الكبيرتان , دمشق ثم بغداد , حكمتا المغرب العربي . وفي تلك الحقبة تم ,إن شئناً , تطوير التجربة الفينيقية في هيئة الخلافة الأموية في الأندلس, وشهدت تلك الحقبة غزو الفرنجة الذي وحد بين عديد من الحكام العرب وجعل صلاح الدين يحاول إقامة علاقات مع الموحدين . أما فترة السيطرة العثمانية فهي أيضاً أثر مشرقي في المغرب . إلا أن الملمح الأهم للحقبة الثانية هو نجاح الإسلام في جعل كلٍ من المشرق العربي والمغرب العربي وما بينهما وما حولهما منطقة حضارية واحدة , ذات قوام خاص همش كثيراً التأثيرات الأوروبية , وهي التأثيرات المجاورة جغرافياً للعالم الإسلامي , همشها في فعالياتها ضمن دار الإسلام. أقول هذا ولا أنكر ما قام به الفرنجه من غزو امتد إلى أكثر من عقدين, ولا أنكر أهمية بدء التوسع الأوروبي على حساب دار الإسلام , ذلك التوسع الذي يؤرخ له عادة مع عصر الاكتشافات الجغرافية الذي ابتدأه البرتغاليون . وأتى في هذه الحقبة بناء الدولة العثمانية التي هي الوريث الشرعي للفتوحات الإسلامية. ما سبق من تاريخ سياسي يصح اعتباره أرضية لتاريخ فكري . فالمغرب في الحقبة الثانية , إنما كان فكرياً , تحت التأثير المشرقي . المشرق هو الصوت والمغرب الصدى . تهافت الغزالي ( م 11111 )أصل وتهافت التهافت رد فعل , كما يشير إلى ذلك العنوان الذي اختاره ابن رشد ( م 1198 ) لرائعة كتبه وهو أحد روائع الفكر العالمي بشهادة اليونسكو . إلا أن ابن رشد ثم ابن خلدون ( م 1378 ) إنما كانا إيذاناً بتفاعل على قدمٍ من المساواة , مساواة تطورت مع الثاني إلى تفوق .


الحقبة الثالثة غير محدودة المعالم كما قلنا , ومن الممكن تسميتها بحقبة النهضة . تبتدئ الحقبة سياسياً أن شئنا بمحمد علي في مصر وبعبد القادر الجزائري في الجزائر وبغيرهما وهو كثير . يلاحظ في الجانب السياسي من النهضة أن العمل الذاتي العربي ( أو المسلم ) كان محلياًً , أي قطرياً , ولم يكن شاملاً . وهذا أمر طبيعي بسبب عامل صعوبة الاتصال رغم وحدة المستعمر سواء في المغرب العربي أو في المشرق العربي . وتبتدئ الحقبة فكرياً , ان شئنا بالشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي وبخير الدين باشا التونسي وبغيرهما وهو كثير . ويلاحظ في الجانب الفكري في النهضة أن العمل الذاتي العربي ( أو المسلم ) كان محلياً أيضاً , أي قطرياً ولم يكن شاملاً . وهذا أمر طبيعي بسبب عامل صعوبة الاتصال رغم وحدة المشكلة ألا وهي كيف يرى واحدنا ذاته في مواجهة الآخر الغالب .


ثم أن من المفيد في الحديث عن هذه الحقبة تقصي بعض أهم المواضيع ذات البعد العربي التي ميزت عهد النهضة . غزوة نابوليون , ماذا كان أثرها في المغرب العربي , وفي المشرق العربي ? ما كان رد فعل المشرق العربي على عملية الغزو الفرنسي للجزائر ? وبالمقابل : كيف نقيم أثر الأمير عبد القادر الجزائري على بلاد الشام ? كيف كانت ردود فعل المغرب العربي على عملية زرع الصهاينة في فلسطين بدءاً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر ? ثم ما أصداء عمليات الإصلاح العثمانية ( 1839 , 1856 , 1876 ) على امتداد المشرق والمغرب ? وما الأثر النهضوي سياسياً الذي تركه استشهاد البطل الليبي عمر المختار ?


وعلى الصعيد الفكري لا أدري إن كان ثمة من درس تأثير الأفغاني في المغرب , أو تأثير حركة العلماء الجزائريين في المشرق ?

ومهما يكن أمر , فإن حقبة النهضة شهدت تماثلاً لا بأس به في رد فعل الذات العربية إزاء الآخر ( الغالب المستعمر ) سواء على صعيد سياسي أو على صعيد فكري .


بإجمالٍ إذن يمكن القول أن النظرة التاريخية إلى العلاقات بين المشرق والمغرب العربي إنما تشير إلى جذور بعيدة من التفاعلات من جهة وإلى تصاعد وتيرة التماثل في التجارب التاريخية , ولاسيما منذ أن أخذ الغرب يسيطر على الوطن العربي , شرقاً وغرباً ووسطاً وجنوباً وأطرافاً .



رابعاً - نظرة سياسية :


 مع قيام جامعة الدول العربية إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية نشأ ما يمكن أن يسمى النظام السياسي العربي الراهن , وهو نظام فرعي من النظام السياسي الدولي .


وكانت المهمة الأولى لهذا النظام العربي معالجة قضية فلسطين التي يمكن القول أنها كانت في أصل تشكل ذلك النظام إثر الثورة الفلسطينية الكبرى . آية الأصل في التشكل ببيان القمة العربية الأولى ( والتعبير مجازي ومسجل لي) وبموجبه ناشد الملوك العرب أبناءهم عرب فلسطين إيقاف الثورة .


وتسهيلاً للبحث فقد رأيت اعتماد أربع أطروحات نقاشية , تبتدئ بمقارنة البيئة المجتمعية لبلاد الهلال الخصيب مع نظيرتها في بلاد المغرب العربي , ثم تتصاعد لتقارن ملامح السياسة الخارجية لكلا المجموعتين , فالسياسة الخارجية أساس هذا المؤتمر . وحين أقول أن الأطروحات التالية إنما هي نقاشية, فإنني بذلك أدعو إلى نقاش أرجو أن ينجم عنه مزيد من إحكام التصنيف وإرهاف المعالجة .


1ً - ثمة في الهلال الخصيب شعور بالعروبة يتجاوز ذلك الشعور في المغرب العربي . الهلال الخصيب أكثر عروبة بالمعنى الإثني للكلمة من المغرب . تدفق القبائل العربية من مستودع الجزيرة إلى الشمال أمر له تقاليد تاريخية مؤكد عليها . من الصحيح بالمقابل أن ثمة تنوعاً أثنياً غنياً في الهلال الخصيب ( من يزيديين إلى آشوريين , إلى سريان وكلدان وأكراد ) , إلا أن الأثر العام لهذا التنوع الأثني الغني أدنى بكثير من الأثر العام للإثنية الأمازيغية في المغرب , ولاسيما في الجزائر والمغرب الأقصى . ولا ندري ما سيكون من شأن الإثنية الكردية في المشرق فذلك سؤال مفتوح في ظروفنا الراهنة . وللأثر الأمازيغي علاقة بتجنب كل من دستورَيْ الجزائر والمغرب تعبير الأمة العربية , وهو تجنب يتشارك فيه دستورا هاتين الدولتين مع دستوري تونس وموريتانيا . وفي الحقيقة , ليس بين دساتير دول المغرب من يتبنى تعيير الأمة العربية سوى الدستور الليبي بدءاً من ثورة الفاتح . ومن المعلوم أن تكريس دستورية تعيير الأمة العربية أنما هو تقليد ابتدأ من سورية عام 1950 وامتد مباشرة إلى الأردن عام 1952 , ثم انتشر إلى مصر وإلى العراق وإلى عدد من دول الجزيرة . ثم أن بروز الإثنية الكردية في العراق كان له أثر في تراجع قانون إداره الدولة العراقية المؤقت الذي صدر مؤخراً , تراجعه عن نسبة العراق , وطناً وشعباً , إلى الأمة العربية. وهذا التطور هو الأول من نوعه في تاريخ العراق الدستوري من عام 1958 , وهو الأول من نوعه في الدساتير العربية قاطبة منذ عام 1950 .


2ً - وثمة في دول الهلال الخصيب شعور بتزاوج , أو على الأقل بمحورية, مسألتي الوحدة العربية وقضية فلسطين , يتجاوز الشعور النظير في دول المغرب العربي . تاريخياً : كانت دول الهلال الخصيب الأولى في نوال الاستقلال. نال العراق استقلاله عام 1930 , وكان الدولة العربية الأولى التي تحظى بالانتساب إلى جمعية الأمم . ثم نالت دولتا سورية ولبنان استقلالهما أوائل الأربعينات وشاركتا في مؤتمر إنشاء الأمم المتحدة عام 1945 . ونال الأردن استقلاله في الأربعينات أيضاً . وساهمت الدول العربية الأربع السابقة في إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 . أما فلسطين فأمرها معروف . بالمقابل لم تبدأ دول المغرب العربي في نوال استقلالاتها إلا في الخمسينات . ولأن دول الهلال الخصيب نالت استقلالها قبل دول المغرب , ولأنها كسبت وضعاً دولياً تمثل في قيام جامعة الدول العربية , فقد كان لزاماً عليها أن تناضل مجتمعة من أجل مساعدة دول المغرب العربي على نوال استقلالاتها , وكان لها في هذا المجال نجاحات تذكر . ما يزال اسم الأستاذ فارس الخوري , مثلأً , متألقاً في سماء ليبيا نظراً لما قام به باسم سورية من دعم محاولاتها نوال الاستقلال . وما يزال قيام سورية بقطع النفط عن فرنسا وأوروبا عام 1956 يحظى بتقدير كبير في الجزائر.


ثم أن ميثاق جامعة الدول العربية إنما ابتدأت صياغته في مباحثات دعيت باسم مباحثات الوحدة العربية عام 1944 . الوحدة العربية كانت شعاراً نشأ في الهلال الخصيب . وهو شعار موروث من أيام الثورة العربية الكبرى وحلمها الكبير . وتتالت الدعوة للوحدة العربية منذئذ , وابتدأت , منذ أوائل الثلاثينات, مع نشوء عصبة العمل القومي , تشمل المغرب وبكل وضوح . أما في المغرب , فمنذ دعوة الموحدين إلى وحدة إسلامية وانكفاء حلمهم في القرن السادس الهجري , وباستثناء ليبيا الفاتح , فقد كانت الدعوات الوحدوية موجهة أساساً إلى أقطار المغرب العربي لا تنعداها إلى المشرق . فكرة الوحدة العربية إذن فكرة مشرقية بامتياز ولا نظير حقيقياً لها في المغرب . ولعل لهذا الحديث تتمة . ففي الوقت الذي كان القوميون العرب في الهلال الخصيب ينظرون فيه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي على أنه إقليمي أي تفتيتي , لأنه لا يدعو إلى الوحدة العربية مباشرة , بل يدعو أولاً إلى الوحدة السورية , أي وحدة بلاد الشام , كان هؤلاء القوميون العرب أنفسهم يؤيدون حركات توحيد المغرب العربي , ولا يعتبرونها تفتيتية . ولا ضير في ذلك طبعاً فوحدة المغرب العربي , في ظن هؤلاء القوميين العرب , لن تتوقف , بعد أن تتحقق , عند حدود المغرب العربي . بل ستتوسع لتصبح مكوناً من مكونات التوحيد العربي . ونعلم بالطبع أن اتحاداً مغاربياً ولد عام 1989 , وأنه نشط فترة من الزمن ثم أصابه ما يشبه السبات رغم محاولات إنعاش جرت قبل نحوٍ من عام . بالطبع أرجو أن يستعيد الاتحاد مسيرةً بدأت واعدة .


وفكرة الوحدة العربية لا تنفصل , عند معظم المشرقيين , عن فكرة ضرورة تحرير فلسطين من الصهيونية كما كان يقال سابقاً , ومن توسعية إسرائيل وعدوانيتها , كما يقال الآن . كان مأثوراً القول بأن الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين . وكل ذلك طبيعي . جيوش دول الهلال الخصيب كلها خاضت الحرب ضد إسرائيل منذ عام 1948, وإن بدرجات متفاوتة . وبالمقابل كانت مشاركة جيوش دول المغرب في الحرب ضد إسرائيل رمزية , وقد حدثت مرة واحدة فقط . وكل ذلك طبيعي أيضاً فالمغرب بعيد جغرافياً عن فلسطين . وثمة مقارنة مستحقة بين الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر وبين نظيره الصهيوني في فلسطين , وتلك مقارنة ذائعة لاسيما في الجزائر , وهي ذائعة أيضاً في كثير من فئات الرأي العام العربي والدولي . إلا أن البعض يستخلص من تلك المقارنة ما قد لا يفيد قضية فلسطين . يستخلص هذا البعض , لاسيما في دول المغرب ( وقد تكون خطأً هذه اللاسيما ) أن على الفلسطينيين أن يقلعوا شوكهم بيدهم كما فعل الجزائريون , دون اعتماد على النظام السياسي العربي . وقد صرح بذلك الرئيس بورقيبة أبان إطلاق دعوته .


في كل حال , ثمة لا ريب , لدى فئات هامة من الرأي العام في دول المغرب شيء من البعد العاطفي والفكري عن قضية فلسطين يعود في معظمه إلى البعد الجغرافي وما نجم عنه وهو حقيقة وجود أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين كل دول الهلال الخصيب , ووجود أعداد قليلة جداً فهم في دول المغرب . دعوة كالتي أطلقها الرئيس بورقيبه رحمه الله عام 1964 ما كان يمكن لها أن تنطلق من الهلال الخصيب ويبقى قائلها حاكماً سليماً معافى , رغم أن الأحداث اللاحقة أثبتت ما يمكن بأن يوصف بصوابية دعوته . كذلك ما كان للقاءات كالتي أجراها الحسن الثاني ملك المغرب رحمه الله مع زعماء إسرائيل ومهدت السبيل لزيارة الرئيس السادات إلى القدس , كما مهدت السبيل لأمور أخرى, ما كان يمكن لها أن تتم بالشكل الذي تمت به من قبل أيٍ من حكام دول الهلال الخصيب .

وترتبط مؤتمرات القمة العربية بمحورية الوحدة العربية وقضية فلسطين . إلا أن من اللافت للنظر حماسة المملكة المغربية لاستضافة مؤتمرات القمة العربية وهي حماسة فسرها على نحو معين صحفي شهير هو الأستاذ محمد حسنين هيكل. فإذا صح تفسير هيكل لتلك الحماسة _ وهو تفسير لا ينبغي لدوائر القرار ومراكز الأبحاث ودوائر القرار أن تهمله , بل عليها أن تحقق فيه وتتحقق منه إنصافاً للمغرب على الأقل _ إذا صح ذلك التفسير كنا أمام انسحابٍ حقيقي من قضية فلسطين , انسحابٍ يُعْطَىْ في الأرجح تعبيراً آخر غير الانسحاب الذي هو تعبير مهذب .

وفي الحديث عن القمة , علينا أن نلاحظ أن دولة في الهلال الخصيب لم تحظ باستضافة قمة ( سورية ) بينما لم تحظ باستضافتها دولتان في المغرب ( ليبيا وموريتانيا ) .


ويقودنا حديث جامعة الدول العربية وقممها إلى حديث منظمة المؤتمر الإسلامي وأعمالها . المملكة المغربية التي تحدثنا عنها آنفاً تبدو متصلة بقضية فلسطين عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي أكثر من اتصالها بها عن طريق الجامعة. فالرباط هي التي شهدت ولادة منظمة المؤتمر الإسلامي أثر حريق الأقصى . وملك المغرب يرئس لجنة القدس التي أنشأتها تلك المنظمة . ثم لعل كل دول المغرب العربي تشعر بوثوق صلتها مع المنظمة أكثر مما تشعر بوثوق صلتها مع الجامعة لأنها كانت مشاركة في إنشاء المنظمة عام 1969 , ثم لأنها أمدت المنظمة بالشخص الأول فيها , وتستطيع أن تستأنف الكرة في هذا المجال وهذا غير متاح لها مع الجامعة , أو أنه أتيح لها مرة واحدة على سبيل الاستثناء إبان فترة الجفاء بين الجامعة ومصر . وأحب أن أسجل هنا أنني أدعو منذ عام 1979 ولديّ التوثيق الكافي , وأعمل بجدية , من أجل أن تتخلص جامعة الدول العربية من تقليد غريب عن تقاليد عمل المنظمات الإقليمية والدولية , وهو تقليد إلزامية إسناد المنصب الأول في المنظمة إلى شخص من دولة المقر .

أحيي هنا حكومة اليمن لأنها رشحت الصديق العزيز الأستاذ محسن العيني لشغل منصب أمين عام الجامعة . وربما كان لي دور في تشجيعه في حديث دار هنا في عمان وفي الطريق من عمان إلى دمشق قبل إعلان ترشيح اليمن له . وأحيي أيضاً السيد عمرو موسى , الأمين العام للجامعة الذي أرجو له النجاح في مهمته الكبرى الآنية وهي عقد القمة العربية التي أجلتها الحكومة التونسية بآلية عجيبة ولأسباب ما تزال مجهولة لأن ما أفصح عنه منها غير مقنع . ولعل بعضاً من الأسباب يعود إلى الكيفية التي بها تم التعامل مع موضوع عودة الجامعة إلى مصر , ومع موضوع انتهاء عمل السيد الشاذلي القليبي .


3 - الأثر الأوروبي في دول المغرب العربي يتفوق على الأثر النظير في دول المشرق العربي . رغم أن أوربا الغربية هي التي قامت باستعمار الهلال الخصيب وكل المغرب العربي إلا أن صلة بلدان المغرب العربي بأوربا أو وثق من صلة دول الهلال الخصيب بها . للعامل الجغرافي أثر في هذا الشأن . من عام 1834 اعتبرت الجزائر أرضاً فرنسية . وأول دستور عربي وهو عهد الأمان التونسي إنما صاغه فرنسيون دون مشاركة تذكر من التونسيين , بخلاف ما كان عليه الأمر في الدستور العثماني الذي جسد أثراً عثمانياً مشهوداً في عملية الصياغة . وفي الوقت الراهن فإن هجرة اليد العاملة المغربية إلى أوروبا اكثف بكثير من هجرة اليد العاملة في الهلال الخصيب إلى تلك القارة . ولعل اتفاقيات الشراكة الأوروبية مع دول المغرب العربي , وقد أبرمت قبل إبرام الاتفاقيات المماثلة مع دول الهلال الخصيب إشارة ثانية إلى زيادة وثوق العلاقة المغربية مع أوروبا , بالمقارنة مع نظيرتها المشرقية . ثم لعل من الممكن القول أن ثقافة حقوق الإنسان , وهي ثقافة ذات نكهة فرنسية غالبة , أكثر انتشاراً في المغرب منها في المشرق . ولاسيما في جانبها غير النخبوي . وتدلني خبرتي الشخصية أن تعبير مسألة دريفوس يكاد يكون حديثاً يومياً في المغرب , خلافاً لما هو عليه الحال في المشرق .


وترتبط بمسألة ثقافة حقوق الإنسان ظاهرتان هامتان , تسبقان تلك المسألة تاريخياً وتتحايتان معها راهناً . في المغرب العربي عقلية رشدية ديكارتية غالبة على نظيرتها في المشرق العربي . وقد حاول أحد المفكرين المغاربة أن يجعل لهذه العقلية حيثيات من التاريخ ولعله لم يفلح في الشرح رغم وجود الظاهرة . فالمعتزلة رشديون مشارقة قبل ابن رشد , وإعمال أبي حنيفة للقياس أمر معروف, وقبله كانت موافقات عمر وأم سلمه العقلية . غلبة العقلية الرشدية الديكارتية في المغرب أمر حديث وأساسه فرنسا المتحكمة العلمانية . وتجذير تلك الغلبة تاريخياً له محاذير , بل وقد يستثير الظنون . الا أن من تفرعات العقلية الرشدية الديكارتية دقة الحساب السياسي . وهكذا فان هرطقة بورقيبة قبل نيف وأربعين عاماً أصبحت وصفةً مقدسة اليوم , على الأقل لدى الحكام العرب . كذلك قد يحمل إصرار تونس على عقد القمة العربية في عاصمتها رغبة عارمة بأن يقترن اسمها بما يقال من ضرورة تبني القمة لإصلاحات مجتمعية تقرب بين المجتمع العربي والمجتمع الأوروبي .


الظاهرة الأولى التي بحثناها تزامنت مع ظاهرة ثانية هي علاقة العروبة والإسلام بالحداثة وأداتها العولمة . كيف نقارن بين المغرب العربي وبين المشرق العربي بشأن هذه العلاقة ? يبدو لي أن التحديثيين في المغرب أميل إلى الانكفاء عن عروبتهم إسلامهم من نظرائهم في المشرق . في دول المغرب العربي ينظر التحديثيون بنوع من الازدراء إلى العروبيين والإسلاميين الذين ينظرون بدورهم إلى المشرق العربي كجزء هام من كيان كلي . ولعل نظرة الازدراء تلك التي يوجهها تحديثيو المغرب إلى العروبيين والإسلاميين تزيد عن نظيرتها في المشرق. ألاحظ في المشرق جدية فكرية وسياسية أكبر مما في المغرب في محاولة الربط بين الحداثة والعولمة والعروبة والإسلام , ويترتب على هذه الجدية الفكرية والسياسية إصرار على معالجة الأمور الكبرى أولاً _ وأول الأمور الكبرى الوصول إلى سلم عادل وشامل في المنطقة .


4 - ثنائيات لافتة بين الهلال الخصيب والمغرب العربي : قد يؤدي تبني الاطروحات النقاشية السابقة إلى تصور وجود فجوة كبرى بين الهلال الخصيب والمغرب العربي . إلا أنني أود أن ألفت النظر إلى ثنائيات لا فتة بين بعض دول مجموعتي الهلال الخصيب والمغرب العربي , وهي ثنائيات قد تكشف المؤشرات الموضوعية عن قوة فيها تتجاوز القوة التي تربط بين دول من ذات المجموعة . كأن هذه الثنائيات تبطل إذن ما سبق من اطروحات لبنان وتونس مثلاً يجمعهما اهتمام خاص بالسياحة وما يتبع ذلك من انفتاح اجتماعي واسع على الحضارة الغربية . أما سورية بأريجها الثوري , فتجد لنفسها, ضمن ذلك الأريج , علاقة خاصة بالجزائر الثورية وليبيا الفاتح ( في طبعتها الأولى غير المنقحة ) . أما المملكة الأردنية فترتبط بعلاقة وثيقة مع المملكة المغربية , والعائلتان المالكتان منسوبتان إلى الدوحة النبوية الشريفة .


وردت في السابق إشارة إلى المؤشرات الموضوعية . حبذا لو تخضع الاطروحات التي قدمتها أعلاه إلى امتحان المؤشرات الموضوعية المتعارف عليها في علم السياسة , بما في ذلك من تطبيق لفرع علمي مفيد , ولو إلى حد , هو فرع الرياضيات السياسية . وبهذا التمني أختم النظرة السياسية .


 

خامساً : استخلاصات ختامية :


في عصر ازدهار الحضارة العربية الواحدة لم يكن ثمة تردد في المقارنة بل المفاضلة بين المشرق العربي والمغرب العربي . بل لقد ذاعت مثل تلك المقارنات أو المفاضلات . كانت ثمة وحدة , ولم يكن يُخْشَىْ على هذه الوحدة مما قد تأتي به المقارنة من تفتيت . أما في عصرنا هذا الذي ينذرنا بمستقبل مجهول , فثمة مكون تبشيري يدخل في كل مقارنة يجريها قومي عربي بين دولة عربية وأخرى أو بين إقليم عربي وآخر . مبرر هذا المكون التبشيري الخشية من أن تكون كل مقارنة سبيلاً إلى مزيد من التبعثر والتعثر . إلا أن للمواءمة بين القومية العربية , وأعتبر نفسي مؤمناً بها , وبين العلوم الاجتماعية وهي علوم تطمح إلى الموضوعية, مقاماً آخر, قدمت له كتابي : نحو علم عربي للسياسة ( دمشق وبيروت . ط /2/ , مؤسسة المنارة 1993 ) .


أما في مقامنا هذا فأضع أمامكم ثلاثة استخلاصات ختامية متقابلة على انموذج ثلاثيات هيغل كما يلي :


1ً - ثمة تباينات بين المشرق العربي والمغرب العربي لا يمكن انكارها , الا أن بالإمكان تجاوزها وصولاً إلى مزيد من العمل العربي المشترك . من أين يأتي الوثوق بالإمكان ? من حقيقة أن دولاً أخرى كثيرة استطاعت تجاوز التباينات وصولاً إلى مزيد من العمل المشترك , وفي طليعة الأمثلة : أوروبا . يكفي أن نذكر أن جزءاً كبيراً من ميزانية أجهزة الاتحاد الأوروبي إنما يتم إنفاقه على الترجمة لكي ينمو وثوقنا بإمكان تجاوز التباينات .


2ً - احتفلت الكويت مؤخراً بإعلان تسميتها حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة من خارج الحلف الأطلسي , إلى جانب كل من مصر والأردن وإسرائيل . يزدهر تشكل جديد في المنطقة تستطيع واشنطن الاعتماد عليه . ثم في الشهر السادس من عام 2004 تبحث قمة الدول الصناعية كيف سيتطوروننا إلى شرق أوسط كبير عن طريق اصلاحات يرى الداخل والخارج أنها لا بد منها . الاستخلاص الثاني : هل قرار مستقبلنا بيدنا ?


3ً - أما الاستخلاص الثالث فدعاء إلى الله أن يوفق السيد عمرو موسى في محاولته عقد قمة يبدو أن ثمة إلى جانب تونس من ارتأى تأجيلها , والله والرئيس بن علي أعلم.


ويعود بي حديث القمة إلى مشروع عمره ينوف قليلاً عن ربع قرن . في أوائل عام 1979 , قبل توقيع معاهدة السلم المصرية الإسرائيلية , وافق معهد البحوث والدراسات العربية على اقتراح قدمته إليه ( وكنت آن ذاك أستاذ ورئيس قسم السياسة فيه ) بضرورة دراسة مؤتمرات القمة العربية لتحديد أسباب نجاحها وفشلها . نفذت شيئاً مما اقترحت ثم انقطع اهتمام المعهد بالمشروع ولم أنجح في حفزه على العودة إلى الاهتمام به . وكانت آخر المحاولات قبل نحوٍ من عامين. أضع المشروع وبعض أوراق خاصة به بين أيديكم . وقد تكون دراستي المقبلة أمامكم ذات عنوان أكثر تحديداً من مثل : العلاقات بين المشرق والمغرب العربيين من خلال مؤتمرات القمة العربية .



 * أستاذ المذاهب السياسية المحاضر في الدراسات العليا,كلية حقوق جامعة حلب

  عضو مجلس الشعب السوري


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024