شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2006-04-19
 

السيادة القومية وسيادة الدولة 3/5

د. جهاد نصري العقل

المحور الثالث: مضامين وأبعاد معنى السيادة



الدولة الديقراطية القومية والسيادة



لم يكن أمر ولوج فجر الدولة الديمقراطية القومية الحديثة، بالطريق السهل البسيط ، بل جاء ذلك بعد نزاع طويل ومرير، بين سلطتي الملوك والبابوية الزمنية، كانت الغلبة فيه الى جانب الملوك الذين خرجوا ظافرين، في حين انكفأت فيه السلطة البابوية الزمنية، وانقسمت الكنيسة على ذاتها. ورافق كلّ ذلك خروج الارادة الشعبية العامة منتصرة من النزاع بين سلطة الارادة الالهية المغيبة وسلطة الارادة العامة، فتنازل الدين ، من جراء ذلك، عن طلبه السلطة الزمنية واحتفظ لنفسه بالعقائد الالهية والروحيات.



وتزامن مع هذا الحدث التاريخي الهام، دخول التمدن في طور جديد، سمته قيام المدن وما رافقها من نشاطات انسانية تجلى فيها بروز قمم حضارية ثقافية جديدة كممارسة التجارة والاحتراف بالعمل واختراع البارود والطباعة والورق، مما أدى الى زعزعة النظام الفردي والعائلي ومكانة الفرسان وتحرير الأرقاء وابطال الاعتماد على سيد الارض، هذه العوامل كلها، عجّلت في يقظة الشعور والارادة العامة، فظهرت في المجتمع طبقة جديدة هي الطبقة الوسطى، في حين أخذت طبقة الملاكين والاقطاعيين تضعف لتشتد سلطة الملك.



بدء نشؤ القومية



أدت الحياة المدينية الجديدة الى تغيير جذري واضح في سلوك المجتمعات الانسانية، وأصبح للعامة من الناس رأي وارادة. وتم في تلك المرحلة ، فك الارتباط وتبعية الجماعة للأمير وخدمة مصالحه والاحتماء بظلّه وتنفيذ ارادته، هذه الارادة التي بدأت تميل نحو الملك لأنّه يرمز ويمثل وحدة الدولة، ووحدة السلطة ووحدة المصلحة ووحدة الشعب.



تلاقت مصلحتا الشعب والملك وتوحدتا ضد مصلحة الطبقة الارستقراطية الاقطاعية الاستعمارية المتسلطة والمستعبدة التي كانت سدا منيعا دون بروز الارادة العامة الآخذة في النمو والشعور بنفسها.



ان بروز الارادة العامة وتناميها ، ويقظة شعورها بنفسها وبالوحدة الحيوية والمصلحة الواحدة والرابطة الواحدة بالحياة في اشكالها وأسبابها واتجاهها، جعل الجماعة تدرك وجودها، خصوصا بعد تجهيزها بوسائل التعبير عن ارادتها، كل ذلك مهد الى بزوغ فجر نشؤ القومية.



السيادة القومية



ولكن، هل وقفت القومية عند حد القضاء على نفوذ الاقطاعيين وتوحيد مرجع السلطة في الملك؟



لا ، بل تابعت القومية سيرها نحو الهدف الذي يبرر وجودها ويحقق ديمومتها الا وهو الاقرار ان السيادة مستمدة من الشعب، وأن الشعب لم يوجد للدولة ، بل الدولة للشعب. هذه هو المبدأ الديمقراطي، كما يقول سعاده، الذي تقوم عليه القومية. فالدولة الديمقراطية وفق ما يؤكد سعاده ، هي دولة قومية حتما.. تقوم على ارادة عامة ، ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة. فالدولة ، هنا، اصبحت تمثل تلك الارادة. فتمثيل الشعب هو مبدأ ديمقراطي قومي لم تعرفه الدولة السابقة. الدولة الديمقراطية، على حدّ تعبير سعاده ، لم تمثّل الماضي ولا التقاليد العتيقة ولا مشيئة الله ولا المجد الغابر، بل تمثل مصلحة الشعب ذي الحياة الواحدة الممثلة في الارادة العامة، في الاجماع الفاعل، لا في الاجماع المطاوع. ويذكر ، انّ طريق الشعب نحو تحقيق هدف القومية، الذي هو الاقرار بأن السيادة مستمدة من الشعب، لم يتحقق بسهولة، لأنّ الملكية التي تغلبت على الاقطاع بمؤازرة الشعب، تصالحت مع الكنيسة، وتفرّدت بالسلطة ، وتشبث الملوك بالحق الالهي، وساد في عروش أوروبا مبدأ لويس الرابع عشر " أنا الدولة والدولة أنا"، وتنكّر الملوك لشعوبهم الذين التفوا حولهم سابقا ضد الاقطاع، ممّا حوّل النزاع من كونه نزاعا بين الملك، يؤيده الشعب، ضد النبلاء الى نزاع بين الملك والشعب، كانت فيه الغلبة للشعب الذي قام بالثورة الفرنسية عام 1789، واسقط الملكية، ودفن مبدأ لويس الرابع عشر الى جانبه، وأعلن قيام النظام الجديد، الذي تجلى في المبدأ الديمقراطي، بشكله الدستوري الأول، وهو مبدأ السيادة القومية، وذلك بعد ان تضمنته الدساتير والقوانين الوضعية،واستندت أنظمة الحكم عندئذ الى الاقرار بأن الشعب انما هو مصدر السلطات.



ولم يطل الوقت ، حتى أخذت القومية المستيقظة تنتزع حوقها من الملكية، حتى قضت عليها أو في أضعف الايمان حولتها الى ملكية دستورية مقيدة ، وصارت السيادة الحقيقية في الشعب، ولم تتوقف القومية عند هذا الحد ، بل أعطت معدودية الدولة مفهوما جديداً ظهر في قوانينها التي أقرت بحق معدودية الدولة لكل فرد من أفراد الأمة بالولادة ممّا مهّد السبيل لتوليد المتحد القومي الأتم الأمة.



أما التطور الخطير الذي شهدته دولة المتحد القومي، الدولة الديمقراطية القومية، وتميزت به عمّا سبقها من الدول ، فهو انها "لم تعد دولة تجبل الاقوام جبلا في مساحة الارض التي تبسط ظلها عليها، لأنها اصبحت تصطدم بارادة متحدها هي، قوميتها، وارادة القوميات الاخرى. فاذا اتسع نطاق الدولة حتى تجاوز نطاق الامة أصبحت الدولة امبراطورية او استعمارية.."



وهنا ، في الدولة الديمقراطية القومية، يمكننا ان نتتبع نشؤ مفهوم السيادة الداخلية والخارجية للأمة ودولتها ، وهنا ، يمكننا ان نكتشف الأخطار والتعديات التي تهدّد سيادة الشعوب، وتؤدي ، تاليا، الى الصراعات والحروب وتهديد الأمن والسلام العالميين المرتكزيين أساسا على مبدأ الاحترام المتبادل لسيادة الشعوب وحريتها واستقلالها.


بايجاز ، ننهي هذا المحور، ونقول : انّ الدولة قبل نشؤ القومية، كانت ارادة خصوصية تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله، أمّا بعد نمو القومية فقد أصبحت الدولة هي النظام والهيأة الممثلين لارادة الأمة وسيادتها.



وهكذا نرى، انه مع نموّ الدولة ونموّ أعضائها في الفهم الاجتماعي، في الشعور بحاجاتهم الخاصة، وامكانيات الحصول عليها بواسطة النظام السياسي ، تأخذ قوة الدولة في الاستقرار شيئا فشيئا على خدمتها هذا الهدف فالدولة وحكومتها ليستا مظهرين اجتماعيين نهائيين، بل تقومان على ما هو أعمق منهما على حياة المتحد وارادته ومصالحه وتأمين سيادته، في اطار نظرة شاملة للحياة والكون والفن، ترفع الانسان نحو المبادئ السامية وفي مقدمتها مبدأ الخير للمجتمعات الانسانية كلّها.



التطوّر التاريخي لمفهوم السيادة



مفهوم السيادة، ونقصد به سيادة الأمة، أو سيادة الدولة بشكل عام، لقد تعددت المفاهيم الخاصة بالسيادة ، بتعدد النظريات التي أطلقها السياسيون والمفكرون، بما يتوافق او يتناسب مع ظروف أممهم ودولهم، علما أنّ مضمون لفظة السيادة لم يأخذ شكلا او قالبا واحدا منذ كينونتها حتى عصرنا الحاضر، وانما ارتبط بالتطور التاريخي الذي رافق الأمة والدولة، نشوءا وارتقاء ومذاهب .



الا أنه بالرغم من تعدد هذه المفاهيم المعنية بالسيادة ، فاننا نلاحظ تقاطعا مركزيا يجمع ما بينها، على أنها السلطة العليا للدولة في ادارة شؤونها الداخلية والخارجية باستقلال وحرّية، أي دون أن يقيدها أو يحدها أو يتداخل بها أية جهة كانت ، مع الاعتراف بالجانبين الايجابي والسلبي لهذه المنظومة السيادية للدولة، ايجابا من حيث قدرتها ( الدولة) كوحدة سياسية مستقلة على التصرف بحرية كاملة، فضلا عن تلك القيود التي ترتضيها بالتقدير المنفرد عبر الاتفاقات الدولية وسلبا عدم امكانية خضوع الدولة لأية سلطة غير سلطانها.



أما من حيث العلاقات فالسيادة وجهان داخلي وينصرف الى علاقة الدولة بمواطنيها داخل اقليمها بحدوده الطبيعية او السياسية ، وذلك من خلال القوانين والانظمة المحلية، وخارجي ينصرف الى العلاقة مع الدول الاخرى في حدود مبادئ احترام الاستقلال الوطني والسلامة الاقليمية وذلك عبر الموافقة على القوانين والانظمة الدولية التي ترعى هذا الوجه الخارجي للدولة.


انبثقت نظرية السيادة عن فكرة الديمقراطية منذ نشأت الحضارة وتكونت الدولة المدينية في بلاد الهلال السوري الخصيب ومنها انتقلت الى سائر الشعوب ولعل أقدم وأوضح اشارة لمضمون مفهوم السيادة،ما ورد في "جمهورية افلاطون" في الحوار بين سقراط وشقيقه غلوكون ، حول " القصة الفينيقية " :



سقراط: أوحقا تسمية هؤلاء بالحكام الكاملين؟ لاتصافهم بالعناية والسهر، حتى لا يريد أصحابهم في الوطن، ولا يقدر أعداؤهم في الخارج، أن يحدثوا ادنى ضرر للدولة ، والشبان الذين دعوناهم الساعة حكاما نسميهم مساعدين، وهم الذين وظيفتهم انفاذ قرارات الحكم .



ان ما ذهب اليه سقراط، آنفا، في مفهوم السيادة، ربما هو الاقرب الى مفهومنا الحديث ، عندما اعتبر أن مهمة الحكام الكاملين هي في تحصين الدولة ضد أدنى الاخطار الداخلية والخارجية، أي بتعبير آخر المحافظة على سيادة الدولة وكيانها الداخلي والخارجي. ومن متابعة الحوار بين سقراط وغلوكون يتأكد لنا وباعتراف افلاطون ذاته أن أقدم ديمقراطية عرفتها الحضارة الانسانية هي تلك التي رافقت نشؤ الامبراطوريات البرية والبحرية في منطقة الهلال السوري الخصيب، وان أبرز مفاهيم السيادة التي عرفتها " الدولة التاريخية" هي تلك التي أشار اليها افلاطون على لسان سقراط في بحثه عن جمهوريته المثالية، التي لم يجد أسسها الا في " القصة الفينيقية " التي عنونها ب " أبناء الأرض " ، وهنا تظهر أهمية الدولة المدينية البحرية السورية التي زال فيها باكرا ذلك الخضوع الأعمى للملك وزالت عن الملكية تلك الصبغة الالهية التي كانت لا تزال ترافق الملك والأسرة المالكة في الامبراطوريات البرية، وأصبح الملك فيما بعد ينتخب انتخابا لمدة الحياة، فكان ذلك أصل الديمقراطية والجمهورية. وعنهما انبثق معنى السيادة القومية.



هذا ، وقد أشار فلاسفة اليونان الى السيادة بمفاهيم مختلفة، أرسطو، قال عنها في كتابه " السياسة" : انها سلطة عليا في داخل الدولة، وأوصى بالطاعة المطلقة لقوانين الدولة، باعتبارها صاحبة السيادة العليا، التي لا تعلو عليها أية سلطة أخرى. أما افلاطون فقد رأى السلطة لصيقة بشخص الحاكم، واعتبر آخرون ان السيادة للقانون وليس للحاكم . وفي مختلف الأحوال، فان الديمقراطيات في العهدين الملكي والجمهوري، سواء في اليونان او في الدولة الرومانية، كانت في الواقع ارستقراطيات واسعة، تتحكم في جماهير من الأرقاءوالعبيد، الذين يعملون في سبيل اعاشة الاقلية، صاحبة الحقوق السياسية.



تاريخيا، كانت كل أمة تشعر بضرورة سيادتها على نفسها وحماية مصالحها من تعديات الأمم الأخرى يلجأ سياسيوها ومفكروها الى وضع نظريات في السيادة توافق، كما ذكرنا، ظروف شعوبهم وتكسبها معنويات قوية. هذا ، وقد تلازم تعبير السيادة، دائما، مع لفظة الأمة او الدولة ، فيقال سيادة الأمة، وسيادة الدولة، او الأمة السيدة والدولة السيدة. من جهة أخرى، لا بد من الاشارة، الى أن تنازع النظريات في السيادة، لم يكن بين الأمم فقط ، وانما امتد الى تنازع النظريات ضمن الامة الواحدة وفق مطامع بعض الجماعات ومصالحها الخاصة . ولنا في " النظريات القومية الفرنسية" التي تراوحت في ان تكون الأمة الفرنسية اصل جلالقي او طروادي أو جرماني، خير مثال على ذلك.



أصل كلمة السيادة ومفهومها



يقول د. ادمون رباط: ان كلمة السيادة تبدو حديثة العهد، ودخلت الى لغة القانون والسياسة، للتعبيرعن صفة الاستقلال، التي تختص بها الدول المعاصرة، وعن المصدر الديمقراطي ، أي السيادة، الذي يستمد الحكم منه وجوده وشرعيته في هذه الدول، وذلك ترجمة لكلمة Souverainté المستعملة ، أيضا ، في معظم اللغات الأجنبية. وهي مشتقة من كلمة لاتينية، كانت شائعة في القرون الوسطى، وهي : Superanus بمعنى الأسمى، أي السلطة العليا.



وتعني هذه الكلمة ، في القانون الدستوري، السلطة السياسية الأصلية (Pouvoir politique originaire ) التي تستمد عنها، شرعية مبدئها وقوة نفاذها، سائر السلطات القائمة في الدولة.



تتميّز السيادة ، بدرجتها القصوى، أي السلطان ، وهي صفة قانونية، على حد ما وصفها كاره دي مالبرغ: " السلطان الذي لا يقرّ بسلطان أعلى منه او مساو له" ، وهذا التعريف ورد في كتاب مالبرغ " المساهمة في نظرية الدولة" الذي يحتوي عرضا لأكثر التحديدات المعروفة للسيادة.



ومصطلح " السلطان" الوارد في تعريف مالبرغ، استخدمه المسلمون والعرب قبله للدلالة على معنى السيادة ، الى جانب مفاهيم أخرى كالملك والسؤدد والخلافة، مع الملاحظة أن هذه التعابير ارتبطت بمفهوم السيادة المجسدة للارادة الالهية، وليس للارادة الشعبية . وعلى سبيل المثال فقد جاء في سورة الملك الآية : " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير".



ويقول ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع الحديث:



" .. وانما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية، ويجبي الأموال، ويبعث المبعوث، ويحمي الثغور ، ولا تكون فوق يده يد قاهر. وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور... فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان" .



الفقه الحديث والسيادة



يعود الفضل في ابتكار فكرة سيادة الدولة الى فقهاء العصر الوسيط، ويذكر منهم على سبيل المثال بومانوار ( Beaumanoir ) ولوازو (Loyseau ) . الا أن هناك شبه اجماع بين علماء الفقه الحديث على أن نظرية السيادة تعود في اصولها الى جان بودان( J. Bodin 1596-1530)، وهو أول من أوضح معنى كلمة السيادة في كتابه عن " الجمهورية " ، عندما قال :" ان الدولة انّما هي حق الحكم على الأسر فيها، وحق ادارة شؤونها المشتركة بينها، وذلك على أساس السلطان السيد" وبذلك يكون بودان قد أخرج معنى السيادة على أنها صفة ملتصقة بالملك الى اعتبارها عنصرا من عناصر الدولة ومتصلة بوجودها، باعتبار أن الدولة لا تتكون الا اذا كانت سيدة ومتمتعة فعلا بسيادتها، وتتمتع بشخصية اعتبارية (معنوية) تتصل بوجودها وديمومتها، بمعزل عن الحكام الذين يتولون ممارسة سلطانها او سيادتها لقد عرف جان بودان السيادة، باختصار ، بأنها " سلطة الأمر والنهي دون أن تكون مأمورة ومكرهة من أي كان على الأرض" كما اعتبر أن " الجمهورية ( الدولة ) لا تبقى جمهورية دون قوة سيدة توحد جميع أعضائها في هيئة واحدة".



ويوافق معظم الفقهاء الذين كتبوا في معنى السيادة، ما ذهب اليه بودان، أمثال غروسيوس وفاتيل وجلينك ودمالبرغ وايسمان .



قال غروسيوس : " السيادة هي السطلة السيدة التي تكون أعمالها مستقلة عن أية سلطة عليا أخرى، والتي لا يمكن أن تلغى من قبل أية ارادة انسانية أخرى".



وحدد فاتيل السيادة بما معناه :" كل أمة تحكم نفسها بنفسها دون تبعية لأية دولة أجنبية هي دولة سيدة".



وعرّف جلينك السيادة على أنها " صلاحية الصلاحية، أي السلطة الاصلية اللامحدودة واللامشروطة للدولة في تحديد صلاحياتها الخاصة".



وتوسع ايسمان (A. Esmaein ) في تحديد محتويات مصطلح السيادة كما يأتي: " السلطان الذي لا يقر بسلطان أعلى من سلطانها، ولا بسلطان محايز لسلطانها، وهي ذات وجهين: داخلي وخارجي، السيادة الداخلية من جهة، التي تشتمل على حقها بالحكم على جميع المواطنين الذين تتألف منهم الأمة، وحتى على جميع الذين يقيمون في اقليمها، والسيادة الخارجية من جهة ثانية، التي تتلخص بحقها بتمثيل الأمة والزامها في علاقاتها مع سائر الأمم".



يستنتج، د. ادمون رباط، من تعريف ايسمان لمصطلح السيادة، بأن هذا التعريف يتضمن صفتين جوهريتين للسيادة، هما:



سيادة أصلية في مبدئها pouvoir originaire



سيادة سامية في قوتها Pouvoir supreme



باعتبار ان السيادة لا تستمد أصلا الا من نفسها، ولا تقر بسيادة تعلو عليها وهو التحديد للسيادة بوجهيها الداخلي والخارجي ، الذي كادت تتفق الآراء العلمية عليه. وهذا ما يفسر وحدانية السيادة، وعدم امكانية تقسيمها الى سيادة داخلية وأخرى خارجية. انّ السيادة كباقي القيم غير خاضعة للمقاييس المادية، وهي بالتالي وحدة تامة غير قابلة للتجزئة ، تماما كما الحرية والحق والخير والجمال وغيرها من القيم، وفي هذا الاطار يقول كاره دي مالبرغ "... ان السيادة الخارجية هي التعبير للسيادة الداخلية في الدولة، كما أن السيادة الخارجية غير ممكنة بدون السيادة الخارجية، لان الدولة ، اذا كانت مرتبطة بشيء من التبعية ازاء دولة أجنبية ، فلا تكون متمتعة بسلطان سيدة في الداخل".



اذا ، ففي وحدانية السيادة، الدليل على أن السيادة داخل الدولة انما هي الاساس للسيادة مع خارجها . ان السيادة الداخلية المتمركزة والمستقرة والتي يمارسها الشعب بذاته، وقناعاته وارادته، أي بديمقراطيته، تنعكس على العلاقات الخارجية، المتوجة بالشرعية القومية، التي تكفلها أحكام القانون الدولي كأساس لاعتراف الدول بوجودها وثبات نظامها الداخلي وقوته وشرعيته،ولكن الى أي مدى يمكن أن تصل اطلاقية السيادة على الصعيدين الداخلي والخارجي ؟ أو بتعبير آخر هل من قيود على حرية السيادة واستقلالها؟



كل دولة، مهما ارتقى فيها مستوى التعبير عن سيادتها، فهي في الداخل تحتاج الى دستور يسودها، وهو ما يعبر عنه في الفقه الدستوري "الدولة القانونية"، وهي في الخارج ، عليها ان تخضع لأحكام القانون الدولي، الذي يقرّ بسيادة الدول واستقلالها وحريتها ومساواتها ولو نظريا. وعلى الصعيد الحضاري –القيمي تلتزم الدول صاحبة السيادة بمبادئ الدين والأخلاق والمثل والتي تقدسّها الحضارة التي هي نتاج تفاعل الفكر الانساني، الرافض والمقاوم لنظريات الصدام الحضاري، ومن هنا انبثقت "النظرية القانونية للحريات العامة والحقوق الشخصية" في شرعة حقوق الانسان العالمية.



تدويل السيادة:



لا مشاحة في ان فكرة السيادة القومية، في ظل الدولة القومية، قد اكتسبت مركزا ممتازا في السياسة الحديثة، وغدت شعارا للكرامة الوطنية وأفضل تجسيد لمعاني السلطة العليا والحرية والاستقلال.



الا ان المفهوم العام للسيادة، أخضع بعد التطورات الدراماتيكية، التي شهدها العالم اثر الحرب العالمية الثانية، الى تقليص دور السيادة الوطنية على حساب ما وصف بالعمل الجماعي في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة، حيث أصبح لممارسة حقوق الدولة في سيادتها شروط من وجهة المساءلة الدولية، وهكذا دخلت نظرية السيادة القومية في قاموس السياسة الدولية، في نطاق التدويل، وذلك بصرف النظر عن منظومة " القيم " التي تدور في فلكها.



لقد ادخل " ميثاق الأمم المتحدة" السيادة القومية في دائرة التدويل، من خلال الاهداف التي نصت عليها المادة الأولى منه، كما يأتي:



1- المحافظة على السلام الدولي، باتخاذ اجراءات جماعية للحيلولة دون اي شيء يهدد السلام، ولقمع أي عدوان ، ولفض اي نزاع قد يؤدي الى تهديد السلام.



2- تنمية العلاقات الطيبة بين الشعوب على أساس احترام مبدأ المساواة، وحق تقرير المصير للشعوب.



3- التعاون بين الشعوب من أجل حل المشكلات الدولية، أكانت اجتماعية ، أم اقتصادية ، أم ثقافية ، أم انسانية.."




لقد فرضت الأزمات المتفجرة التي عصفت بالعالم ، بعد قيام "منظمة الأمم المتحدة " عام 1945نمطا جديدا في الاحتياجات السياسية الدولية، خصوصا على صعيد حماية " السلام الدولي " من التهديدات التي تحدث داخل الدول أو في ما بينها، وتمتد تداعياتها السلبية الى جسم " المجتمع الدولي". ولمواجهة هذه الأخطار كان " مجلس الأمن " التي تحدّدت مهمته "بصون السلام والأمن الدوليين.. وله وحده حق الفصل في المنازعات الدولية.." ، وقد وافقت جميع الدول الأعضاء أن تضع تحت تصرفه أية قوات مسلحة او تسهيلات عسكرية يطلبها أو يتفق عليها.



ولكن، الى أي حد احترمت " الدول العظمى " مهمة مجلس الأمن الذي " له وحد حق الفصل في المنازعات الدولية "؟



لقد ضربت بعض " الدول العظمى" وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية عرض الحائط بهذه القاعدة، ولجأت ، بصفتها الدولة الأقوى ماديا وعسكريا في العالم، على خرق سيادتها الذاتية، وسيادة الدول الأخرى.



كتبت الباحثة المصرية في العلوم الاجتماعية والاعلام تحت عنوان "تدويل السيادة " ما يأتي: " واشتملت عملية تدويل السيادة على توسيع لأبعادها الخارجية فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الدولي وهي الاعتراف المتبادل بين دول لها سيادة اتسعت بصورة معينة أدت الى وضع شروط لممارسة الدولة حقوق السيادة، أهمها ألا يتسبب من جراء تلك الحقوق احداث اضطراب في النظام العالمي . وفي كثير من الحالات التي حدث فيها ذلك، مارس مجلس الأمن السلطات المخولة له متجاوزا الحقوق التقليدية للسيادة. وأكد الاجراء العسكري الذي اتخذه حلف الناتو تجاه كوسوفو، الواقع الجديد بأنه قد أصبح ممكنا ان تقوم دولة ما بهذا العمل عندما لا تقوم الأمم المتحدة ومجلس الأمن باتخاذ الاجراءات الكافية.



ويعتبر وضع كوسوفو وتيمور الشرقية تحت السلطة الكاملة لادارة دولية انتقالية بتكليف من الأمم المتحدة من أكبر العلامات وضوحا على وجود صورة للسيادة الدولية، لذلك فان شرط الاعتراف بسلطة الدولة العليا لم يعد يرجع فقط الى الشعب ، ولكن الى حقيقة ان الدولة ليست عنصرا للفوضى والاضطراب في المجتمع الدولي.



ويعني مفهوم تدويل السيادة وجود نظام لمساءلة الدول في حالة تعسفها الشديد في ممارسة حقوق السيادة. وقد تاكد هذا الشرط الجديد لسيادة الدولة عندما صرح السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي أنان أنه لم يعد هناك حصانة للسيادة.



ومن جهة أخرى نجد أن كوفي أنان في المشروع الذي طرحه على الجمعية العامة في دورتها (54) يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو الى حماية الوجود الانساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها. وبهذا الطريق يكون أنان قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الانسان دون تفويض من الامم المتحدة.



ومفهوم السيادة بهذا الشكل لا يمكن ان يستقر ويستقيم ، فليس هناك ما يبرر لأي دولة، حتى لو كانت الدولة العظمى كالولايات المتحدة الأميركية ( المتحدث الرسمي باسم حقوق الانسان ) ان تدعي الحق في تغيير اي نظام سياسي في أي دولة أخرى، بل ليس للأمم المتحدة نفسها مثل هذا الحق، ذلك ان القبول بهذا العمل لا يعني الحلول نفسها في تقرير مصيره والتحكم بمصالحه الخاصة، ولكنه يهدد أكثر من ذلك القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها النظام العالمي حتى الآن وهي سيادة الدولة وحريتها. ولا يغير من هذا كون النظام المستهدف نظاما استبداديا قائما على القوة المحضة وناكرا لجميع الحقوق المعرفية والسياسية لمواطنيه.



لكن رفض التسليم لأي دولة ولأي تكتل او تحالف دولي مهما كان نوعه ومسوغات تشكيله بالتدخل باسم المجموعة الدولية او باسم مصالحه الخاصة لتغيير نظام سياسي استبدادي وظالم في بلد ما لا يعني في الوقت نفسه وينبغي الا يعني القبول باستمرار مثل هذا النظام ولا يقلل من المسؤولية الدولية في عدم القضاء عليه، فمثل هذا السلوك لا يمكن أن يعني شيئا آخر سوى النذالة والجبن وانعدام المسؤولية الجماعية على مستوى المجموعة الدولية بأكملها.



وبالتالي فلا يوجد شيء يمكن أن يبرر اليوم استمرار نظم تجرد شعوبها من حقوقها وتسومها سوء العذاب بذريعة السيادة القومية تماما، كما أنه لا شيء يمكن ان يبرر ترك شعب يخضع للاحتلال ويجرد من حقوقه وموارده ومستقبله معا كما هو الحال بالعراق ( في القرن الحادي والعشرين) بذريعة الأمن او الحرب ضد الارهاب، ففي الحالتين تقع المجموعة الدولية في ذنب الضلوع مع الظلم والتقاعس عن مد يد العون لبشر يتعرضون لأخطار محدقة.. اذن فلا يمكن لمبدأ المساواة أن يستقر الا اذا رافقه مفهوم التضامن الانساني الذي يحدد شروط استخدامه بحيث لا يتحول الى أداة لاخضاع شعوب وجماعات واذلالها وتسخيرها لخدمة أهداف خاصة، سواء أكان ذلك بالقوة المهينة أم بالتحالف والتآمر مع قوى خارجية، وهو حق يرتب على جميع الدول مشتركة واجب السعي لانقاذ الشعوب التي اغتصبت حقوقها الأساسية المعروفة، سواء أكان ذلك من قوى داخلية أو خارجية لا فرق.



وللأسف بدلا من العمل على تطوير آليات في هذا الاتجاه على مستوى المجموعة الدولية، نجحت الأطراف في بداية التسعينيات من القرن الماضي في الحصول على تصويت المنظمة الدولية على حق سمي "حق التدخل الانساني" كان من نتيجته اجهاض مفهوم التضامن اللازم والواجب على المجموعة الدولية تجاه الشعوب المستضعفة، لصالح اضفاء المشروعية الدولية على تدخل دول المجموعة الأطلسية في المناطق والمواقع التي تجد أن لها مصلحة قومية أو اقليمية واضحة في التدخل فيها، وبحسب ما تتطلبه هذه المصالح لا ضمان حقوق الشعوب ولا حريتها وسيادتها.



والواقع أن تفاوت الدول من حيث الموارد والامكانيات جعل بعض الباحثين يميزون بين السيداة كمفهوم قانوني بمعنى وحدة الخطاب القانوني وعمومية القاعدة القانونية الدولية بالنسبة لجميع المخاطبين بها وبدون أدنى تمييز، والسيادة كمفهوم سياسي بمعنى القدرة الفعلية أو الحقيقية للدولة على رفض الخضوع لأي سلطة أخرى غير سلطتها هي، بالضبط مثل مفهوم المواطنة في الداخل. فقد تكون الدولة مستقلة قانونا، ولكنها عاجزة عن اشباع احتياجات مواطنيها، وهو ما يعرضها لضغوط وتأثيرات بعض الدول الأخرى، الأمر الذي يجعل استقلالها منقوصا، وبالتالي تعجز عن مباشرة بعض مظاهر سيادتها . وفي ظل العولمة تخضع الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر فأكثر لتأثير قوى السوق، وهذه بدورها تخضع لتأثير مصالح الشركات المحلية والدولية أكثر مما تخضع لأوامر الدولة.



ومن بين التطورات الدولية التي صاحبت العولمة تغير هيكل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبين الى نظام أحادي القطبية وذهب البعض الى ان النظام الأحادي القطبية يؤدي الى انتهاك سيادات الدول. وعلى سبيل المثال لم يكن من الممكن أن يحدث لسيادة العراق ما يحدث لها الآن من انتهاكات لو استمر النظام الدولي الثنائي القطبية. ومن التغيرات الأخرى المصاحبة للعولمة الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، فقد ترتب عليها تقريب غير معهود للمسافات بين مختلف مناطق العالم، وأدى ذلك الى أن أي حدث يقع في أي منطقة من العالم يكون له صداه في غيره من المناطق دونما اعتبار للحدود السياسية او لمبدأ السيادة الاقليمية. وترتب على ذلك العديد من المظاهر السلبية تجاه سيادة الدولة، فلم تعد هناك خطوط فاصلة بين الشأنين الداخلي والخارجي وأصبحت الدولة مسؤولة مسؤولية دولية مباشرة ليس فقط عن أفعالها غير المشروعة التي يترتب عليها حدوث ضرر مادي للدول الأخرى أو لمواطني هذه الدول ، وانما تسأل ايضا عن أفعالها المشروعة التي تصدر عنها اعمالا مخالفة لمبدأ السيادة وفي نطاقها الاقليمي التي يترتب عليها حدوث ضرر للغير" .





 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه