شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1942-08-01
 

النزعة الفردية في شعبنـا

أنطون سعادة

ان في حياتنا الاجتماعية، في الوطن وفي المغترب، ظاهرة تستحق اهتماماً كبيراً ومعالجة جدية هي ظاهرة النزعة الفردية في تصرفاتنا الاجتماعية وافكارنا وميولنا ، وما يوجب الاهتمام الكبير لهذه الظاهرة هو أنها تدخل في جميع أسباب حياتنا الاجتماعية، العائلية والعمومية على حد سواء، وهي مع الظاهرة الاخرى المصاحبة لها، اي ظاهرة الاستهزاء والاستخفاف، في مقدمة الصعوبات التي تواجه الحركة القومية في عمل التربية والتنظيم القوميين.

في أكثر بيوتنا، او في الكثير منها على الاقل، يعتاد افراد العائلة الواحدة أن يغيبوا عن منازلهم من غير موعد لعودتهم. وهذا الغياب بهذا الشكل هو قاعدة ثابتة. وكل فرد من أفراد العائلة ينحو نحوا من الحياة او العيش خاصاً به. فحياته الفكرية والشعورية هي دائماً غامضة لبقية العائلة. ويندر ان تجد بين افراد العائلة اشتراكاً مستمراً في التفكير في أمر واحد أو الشعور بموقف واحد، اللهم الا في المسائل التجارية أو مسائل الغيرة على العرض أو مسألة استئجار منزل أو طبخ طعام خاص أو ما شاكل. فإذا عرضت غير هذه المسائل اليومية، الضرورية، البسيطة فالغالب أن يظهر التباين في الادراك والاختلاف في الشعور والتضارب في الآراء والحدة في المواقف المتنافرة، إلا حين تكون المسائل الجديدة غير هامة للجميع فيجتمعون على اللامبالاة والاهمال ويعود كل واحد إلى شأنه الخاص.

هنا أساس الداء. فالفرد الذي يتعود أن لا يسمع رأياً غير رأيه وأن لا يشعر بالحاجة الى الإلفة والتفاهم لا يحترم رأي أحد، او لا يشعر أنه مكلف او مضطر للاصغاء إلى رأي غيره ولماذا يجب أن يحترم رأي غيره ويصغي إليه؟ ولماذا يجب أن يتوهم أن هنالك رأياً فوق رأيه مبنياً على علم وخبرة فوق علمه وخبرته؟

التصادم الفردي هو نتيجة هذه الظاهرة الاجتماعية التي ترافق جميع أعمالنا العمومية التي تحتاج إلى تآلف عدد كبير من الأفراد وتعاونهم في عمل مشترك. فكل فرد يعد العمل كله دائرة واحدة يجول فيها تفكيره ففكرة أن العمل العام دوائر صغرى في دائرة كبرى وان كل فرد يجب ان يعمل ضمن الدائرة التي يقع فيها اختصاصه وكفاءته هي فكرة جديدة أوجدها التنظيم القومي الاجتماعي. ولذلك هي فكرة لا تزال غير مفهومة الفهم اللازم، حتى عند أكثر القوميين الاجتماعيين انفسهم، بدون اسثناء المتنورين منهم.

كل اجتماع بسيط من اجتماعاتنا العائلية، او التي توجدها الصدف، يبتدىء بالتصايح وينتهي بالاحتدام والهياج، الا فيما ندر. وكل جمعية او حزب يتأسس تبتدىء المشاحنات الفردية فيه منذ ابتداء عمله، حتى ولو لم تكن المآرب الخصوصية النفعية هي السبب، وذلك بدافع النزعة الفردية. والحزب السوري القومي الاجتماعي نفسه لم يسلم في بداءة عهده من المصادمات الفردية العائدة الى تغلب النزعة الفردية على العاملين. ومن هذه المصادمات ما حدث في عهد أول لجنة اذاعية أنشأتها عمدة الاذاعة بطلب من الزعيم، على عهد عميد الاذاعة الاول الاستاذ عبدالله قبرصي. فكل جلسة من جلسات هذه اللجنة كانت تتطور نحو المشاحنات الفردية على نظريات وآراء فردية يبديها اصحابها بكثير من الحدة وبكثير من الاستخفاف بنظريات وآراء البعض الآخر المخالفة للأولى. وكثيراً ما كان يصل هذا الاستخفاف إلى درجة التهكم المستور أو المعلن، حتى اضطر الزعيم للتدخل بنفسه في جلسات اللجنة المذكورة ولحل اللجنة اخيراً منعاً لاستمرار المنافسات الفردية. وقد أعطى الزعيم الاعضاء درساً وافياً ثم حل اللجنة ووزع اعضاءها على اعمال أخرى. وظهر أن الاعضاء استفادوا من الدرس والتقوا مراراً في اعمال كثيرة في لجان ومكاتب وادارات ولم يعودوا الى المنافسة، بل تغلبوا عل النزعة الفردية وضبطوا شعورهم وسيطروا على ميولهم وصاروا جزءاً من مجتمع واحد بالفعل وسادهم حب الوئام والتفاهم. والفضل في ذلك لوجود مرجع حكيم حازم يرجعون اليه ويولونه الفصل في امورهم وتنظيمهم. ولولا هذا المرجع لكانت انتهت اعمالهم الى ما انتهت اليه اعمال سواهم من الفشل والتخاذل والانحلال.

ولكن ليست جميع النزعات الفردية سليمة العاقبة كحادث أعضاء الجنة الاذاعية الاولى في الحزب السوري القومي الاجتماعي. فبعض الافراد تصل بهم النزعة الفردية الى حد لا يرون عنده فارقاً بين الاختصاصي في فن من الفنون ومن لا علم له به او بين المعلم والتلميذ والقائد والجندي او الضابط الصغير. وتشتد هذه النزعة في من شعر بذكائه ونجاحه في ناحية من النواحي او من ظهر بشكل من الاشكال في عالم الادب وحمله ذلك على الاغترار بنفسه. فان أحد الذين اهتموا بترجمة بعض الكتب لبعض المؤلفين ترجمة غير منقودة دخل الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعلى الفور ابتدأ يخاطب الزعيم بلقب "الرفيق" ويناديه "يا رفيقي" وليس "يا زعيمي" وكان يستعمل هذا الاسلوب حتى في المواقف الرسمية.

وكان الزعيم كلف ذاك "الرفيق" بمهمة وحينذاك كانت الطامة الكبرى فان "الأديب" المذكور شعر بانه يحق له، بصفته أديباً (على رأيه)، أن ينشر مقالات في الصحف يتكلم فيها بالنيابة عن الحزب السوري القومي الاجتماعي كله ويعبر عن موقفه ويقول ان مهاجمة القوميين الاجتماعيين سجن الرمل في بيروت لاطلاق سراح رجال ادارتهم المسجونين فيه لم تكن سوى "عمل عدائي لحكومة ويشي وللاشتراكيين القوميين الالمان، وحركة مؤيدة لبريطانياً واسطولها في شرق المتوسط" فلما دعا الزعيم العضو المذكور الى الوقوف عند حده وبيّن له غلطه في التعبير عن موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي لا يرى من واجبه مباداة دولة من الدول العداء قبل ظهور عدائها لسورية او تأييد دولة الحقت بسورية اضراراً عظيمة ولم تبرهن على أنها تنوي تغير سياستها في صدد سورية، اجاب ذلك الفرد الزعيم قائلاً انه هو يحمل مسؤولية ما يكتب وانه هو (الأديب العظيم صاحب المقام الخلودي) يقول ان بريطانيا ستربح الحرب وان اكتساب صداقة هذه الدولة هو افضل خطة وغير ذلك من الخلط، الذي هو نتيجة تملك النزعة الفردية من نفسه واشتدادها حتى حملته على الغرور وعدم التمييز بين موقفه وموقف الزعيم وبين صلاحياته وصلاحيات الزعيم. وكانت نتيجة هذا الفرد في الغرور الذي حملته عليه شدة نزعته الفردية انه طُرد من الحزب السوري القومي الاجتماعي وعاد الى بيئة الفوضى التي لا نظام لها ولا مسؤوليات فيها، ليمد وسطها شهرته ويعمل لمنافعه.

النزعة الفردية تقود حتماَ إلى عدم الشعور بالمسؤولية. فكل من ارتبط بعهد اجتماعي سياسي لا يمنعه عهده من اطلاق العنان لنزعته الفردية التي شب عليها. وفي حالة حصول تصادم بين نزعته الفردية والنظام الذي تعهد له فضل نزعته على النظام غير عابىء بالاضرار التي تلحق بالمجتمع من هذا التفكك. انه لم يتعود ان يعطي حساباً عن اعماله لأحد ولم يتعود ان يحترم رأي غيره ولا أن يجل ويكبر العالم الخبير والسياسي القدير والقائد الخطير، بل تعوَد أن يرى أرض الله واسعة الفضاء امامه دائماً فلماذا يجب أن يقيد نفسه بالرجوع إلى مقام أعلى والوقوف أمام صاحب هذا المقام وقفة المجل المكبر المحترم احتراماً عميقاً يدعوه إلى وزن كلامه وقياس تعابيره بما يتفق مع حرمة صاحب المرجع ودرجة احترامه واجلاله؟

صاحب النزعة الفردية يحسب كرامته الخاصة، كما يراها هو، فوق كل الكرامات. وتدفعه شدة الاحساس بكرامته الى سلوك مسلك الحدة دائماً والى حسبان كل حدة معاكسة لحدته اهانة موجهة اليه لا يقبلها، بل يفضل ان يدير ظهره لكل من لا يراعي احساسه بذاته، مهما كانت العواقب وخيمة بشرط أن لا تكون وخامتها عليه.

ان الفوضى التي يتخبط فيها مجتمعنا خارج الحركة السورية القومية الاجتماعية لا تسمح بتثقيف النفوس وفاقاً لمنهج واحد، لأنه لا يوجد هناك مرجع تعليمي محترم كل الاحترام وموقر كل التوقير يقبل عليه الكبير والصغير ويسلم لحكمه الرفيع والوضيع. كل واحد ينادي برأيه ويسفه رأي غيره الا إذا وافق هوى من نفسه او كان مؤيداً له. ونادرون جداً هم الذين يتحفظون عند ابداء آرائهم، خصوصاً حين يكونون تجاه من علمه فوق علمهم ومعرفته أوسع من معرفتهم ونظرته اعمق من نظراتهم. وقد يخطر في بال بعض المتأملين غير المتعمقين ان هذه الظاهرة هي جزء من طبيعة شعبنا لا يتغير ولا يتبدل وكثيرون بنوا على هذا الاستنتاج المستعجل تشاؤمهم ويأسهم من قيام قائمة شعبنا ولذلك لم يقبلوا ولم يلبوا الدعوة القومية الاجتماعية. ولكن الحقيقة ليست كما يتوهمون. فهذ الظاهرة هي نتيجة انحلال نظامنا الاجتماعي السياسي وانحطاط مستوى ثقافتنا وتهذيبنا.

ان النزعة الفردية ليست طبيعة في السوري وان تكن متفشية في أبناء الجيل الحاضر، لا فرق بين من تخرّج منهم من المدارس العليا والجامعات ومن تخرّج من المدارس الابتدائية او من لم يدخل مدرسة قط ولم يسلك مسلك العلم. انها مرض طارىء يجب التغلب عليه. وطريق الشفاء هي عينها لجميع الأمراض:

1- الاعتراف بوجود المرض.

2- قبول العلاج، حلواً كان أو مراً. والمصح الوحيد لهذا المرض، كما لغيره من امراضنا الاجتماعية هو نظام الحزب السوري القومي الاجتماعي.

والمقبلون على هذا النظام يجب أن يضعوا نصب أعينهم وجوب وضع جميع قواهم تحت تصرف الادارة العليا لمكافحة هذا الداء الوبيل في نفوسهم كما في نفوس رفقائهم. ولا يقولن احد منهم "أن الداء في غيري وليس فيَ" فهذا القول من أقوى الاعراض الدالة على وجود الداء في القائل. اما الصحيح فالادارة القومية لا تغفل عن صحته وهي تعطيه براءة بها. ولكن الذي يعطي نفسه براءة شخصية ويستغني بها عن براءة المنظمة القومية الاجتماعية فهو من الذين لا يريدون الاعتراف بوجود المرض ولا يقبلون علاجاً. انهم اصحاء لأنفسهم ولكنهم ليسوا أصحاء للمجتمع.

يجب على القوميين الاجتماعيين ان يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الاجنبي.

ان النزعة الفردية مرض عام فينا وليس الاعتراف بوجوده عاراً على أحد ولكن العار في تركها تتمكن من النفس وتقضي على مواهبها الجميلة وفوائدها الجليلة. فهنالك رجال ذوو مواهب كبيرة تمنع مواهبهم هذه الآفة التي لم يكد يسلم منها أحد من أبناء الجيل الحاضر من شعبنا. والتغلب عليها يبتدىء باعتماد قوة الارادة وصدق العزيمة.

ليست هذه الكلمة موجهة إلى فرد معين. انها موجهة إلى كل فرد ذي وجدان حي وغيرة حقيقية على سلامة مجتمعه ونهضة أمته. وسنعود إلى الموضوع.

الزوبعة – العدد 49 – في أول آب 1942



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه