شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2006-01-29
 

إطلالة على النقد العربي بين الشعور بالدونية و الترجمة..النقد القديم مغلق دون فهم نقاد معاصرين..

عبد الكريم عبد الرحيم

ليس من الحكمة أن يأخذنا التفكير إلى أن دعاوى غياب الأيدلوجية ( المذهب الفكري أو المرجعية ) في النقد و الأدب عموماً ، يعني ولادة أدب و نقد لا علاقة لهما بالأيدلوجية .

كما أنه ليس من الحكمة أيضاً ادعاء أن الحداثة ليست ضرورة أيدلوجية ، أو أنها لا تعبر عن موقف من الحياة و المجتمع و الاقتصاد و الفن .

إن الحالة الإبداعية لا تأتي من فراغ ، ليست وحياً يهبط على مبدع لا علاقة له بما يجري حوله من حب و كراهية و حرب و سلام و فقر و غنى ، إن الإبداع تعبير عن مخزون ثقافي و عن كل ما ذكرنا ، و لا يمكنه أن يكون لوحة بلهاء لا تنطق ، أو قطعة جليد لا تشعر .


الأيدلوجية : الدخول إلى الإبداع

الحديث النخبوي الآن عن الديمقراطية ، ألا يشبه إلى حد بعيد أحاديث النخب نفسها عن الماركسية و اليسار ، إن الحاجة الإنسانية إلى الإبداع ، كحاجتها إلى أسباب المعيشة اليومية ، كحاجتها إلى الحب و المصنع و الحقل ، بل إن الإبداع يشكل بنيتها الروحية ، التي عبرت عنها الأديان و الفلسفة ، ولا أعتقد بأن مقاتلاً أو أسيراً كان يمكن له البقاء لولا مخزونه الروحي الدفيء ، و لا أعتقد بالوقت نفسه بأن الغرب ولّد مدارسه الإبداعية لولا ذلك أيضاً ،و دون شك إن تقبل ثقافة الغرب للطريقة التي استشهد فيها محمد الدرة تحت أضواء الكاميرا ، يأتي من رؤية ثقافية تمثل حداثته ( أيدلوجية ) ، أوَ لم يكن للإقطاع مرجعية فكرية و ثقافة سوغت له اصطياد الإنسان الأفريقي ، و بيعه في أسواق النخاسة بعد حمله بالسفن إلى شواطئ الغرب الأكثر غنى و ثقافة قياساً بثقافة أفريقيا آنذاك ؟.

أليس الغزل تعبيراً عن أيدلوجية ، إذن لماذا كثر شعر الغزل في الحجاز لدى تأسيس دولة بني أمية ، و لمَ افتَنَّ المغنون في هذا العصر بعد انتقال العاصمة إلى دمشق ، و لم كان الموشح في الأندلس ؟

و اليوم الأدباء إبراهيم سلامة و إسماعيل دبج و غيرهما ، هل كتب هؤلاء لولا تجربة الأسر المريرة ، و لولا الإرهاب الفكري و العسكري الذي مارسه الصهاينة ، أَ وجد الفلسطينيون أنفسهم يكتبون الرواية و الشعر بالطريقة نفسها التي يكتبون بها الآن ؟

دون شك هناك إبداع ينهض عندما تشتد مقاومة الشعب العربي للاحتلال ، و هناك أدب موازٍ يدعو إلى قتل الفلسطينيين و يستمتع بمذابح صبرا و شاتيلا يكتبه صهاينة معرفون ، أو ليس هذا أدباً ، أ ولا يحمل هذا الأدب ثقافة و له مرجعية فكرية ينتمي إليها و يعبر عن أيدلوجيتها.؟ و لو أنني أعتبر ما كتبه الصهاينة الأصوليون لا يعدو كونه زمراً يسبق القتلة و الإرهابيين إلى مسرح الجريمة .

إن مناصبة الأيدلوجية العداء ، هو موقف أيدلوجي و ينبع من أيدلوجية ، و لكن تختلف المشارب و المذاهب .


المكان بين تضليل المصطلح و حقيقة الحياة :

المكان شيء متصل بهذا كله ، البيئة ينمو فيها الإنسان و تتشكل لغته ، و من ثمَّ لهجته و لسانه فيها أيضاً ، عندما كان البدويُّ يتنقل في الصحراء ، أ لمْ تقل المطالع الطللية الكثير عن المكان ،الذكريات و الماضي بحضوره القويّ ، الحب و الحرب و الغزو بمعنى أدق ، أدهشنا العربي بما افتن من أساليب التعبير عن هذا المكان ، تماماً كما كان الشعر العربيّ و الفلسطينيّ حين تحدث عن الوطن ، تماماً أيضاً كما تحدث عنه أبو فراس الحمداني في الروميات .

المكان بما يعنيه بوجوده المادي و الطبيعي ، و بما يعنيه من أشواق و مشاعر و تمازج بين الإنسان و الطبيعة ، فعبد الباسط الصوفي أمام العاصي و الفرات دخل في المكان الذي أشعل بصيرته ، و عمر أبو ريشة :


إنها حجرتي لقد صدئ النسيان

فيها و شاخ فيها السكوتُ

الشاعر المعاصر بحداثته و الشاعر العربيُّ القديم :" و قلَّ لنجدٍ عندنا أن يودعا "

و الشعور بالغربة لدى فقد المكان ، و ارتباط ذلك بالإنسان الحبيب و الجار ، أو ذكر الأمكنة بأسمائها في مطالع القصائد ، كل ذلك ، يجعلنا نعيد النظر فيما سمي التقليد في المطلع الطللي ، إنها حياة الإنسان العربي في الصحراء ، فالصمة القشيري ، يربط بين المكان و بين وجوده الإنساني :

و أذكر أيام الحمى ثمّ أنثني على كبدي من خشية أنْ تصدّعا ( الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج 6 ص5 ) ، وفي الصفحة التي قبلها يقول :


كأن فؤادي من تذكُّره الحمى و أهلَ الحمى يهفو به ريشُ طائرِ


وفي ص246 ج 6 من الأغاني يصف شاعر الرحيل :


تحمَّلَ جيراني فعيني لِبَيْنهم تفيضُ بتهتانٍ إذا لاحتِ الدار


و في الجزء التاسع ص 285 يقول شاعر عربي :


إذا ذكرتْ بغدادَ نفسي تقطَّعتْ من الشوقِ أو كادتْ تموتُ بها وجدا


كفى حزناً أنْ رحْتَ لم تستطعْ لها وداعاً ، و لم تُحدثْ لساكنها عهدا


و كثيراً ما وقفتُ في غير موضع أمام قول الشريف الرضي :


و تفّفتتْ عيني و مذ خفيتْ عني الطلولُ تلفّتَ القلبُ


أو سحر المتنبي و هو ماضٍ إلى حلب حين يقول " أطويل طريقنا أم يطولُ " .


إن الرحيل الدائم ( الغربة المستديمة ) في الجاهلية ، و من ثمّ الرحيل الآخر في أرجاء الأرض بعد الإسلام و الذي تعبر عنه قبور الصحابة الحجازيين عل سبيل المثال و آثارهم المنتشرة في أرجاء العالم من دمشق و حتى كوانتو في جنوب الصين التي مازال على بوابة مقبرتها نصب كتب عليه : و كفى بالموتِ واعظاً " الطريق إلى جنة ابن أبي وقاص " ؛


جعل الشعر العربيّ تعبيراً عن الحياة ، ولذا تكرر ذكر الأماكن في قصائدهم حنيناً إلى المكان ، و سعياً للتمسك به و هذا ما فعله الشعراء الرواد الفلسطينيون ، و منهم عبد الكريم الكرمي أبو سلمى و إبراهيم طوقان و عبد الرحيم محمود ، و من بعد يوسف الخطيب ثم فواز عيد ، بينما الجيل التالي : ومنهم صالح هواري و محمود حامد و عصام ترشحاني و سائد سويركي من غزة و نظيم أبو حسان و محمود علي السعيد و إبراهيم سلامة و ماهر رجا ، و كثيرون غيرهم ، و كاتب هذه الدراسة ، فقد أصبح المكان الفلسطيني في أشعارهم جزءاً من الإنسان نفسه ، حالة من التوحد في كثير من الأحيان تشبه حال المتصوفة،و لا يفوتني الإشارة إلى ما كتبه الشعراء العرب حول المكان الفلسطيني كنزار قباني و حتى سعيد عقل عن القدس .

لقد حاول بعضهم التضليل باستخدام المصطلح ، وذلك إما لأنهم لم يعرفوا أن المستشرق مقصر في الوصول إلى لبّ القصيد العربي بسبب عجزه عن إدراك فقه و علوم ودلالات اللغة العربية أو أنه لم يعِ ماذا تعني اللغة بالنسبة إلى الشعر العربي ، فكيف يمكنه فهم : أطويل طريقنا أم يطول في قول المتنبي ، وهذا ما عجز بريشير عن استيعابه لدى كتابة موسوعته في الترجمة الطويلة التي كتبها عن المتنبي ، و كان ميالاً إلى تفضيل أبي فراس الحمداني عليه ، لأن صور و عاطفة أبي فراس المذهلة في رومياته ، قابلة للترجمة إلى أي لغة ، أو أن خسارتها في الترجمة أقل من خسارة شعر أبي الطيب ، الذي كانت اللغة تشكل الحمولة الأكثر حظاً من الإبداع . دون أن ننفي قيمة صورة و دلالة و صدق المتنبي .


الدونية و الغرب :

المسألة الثانية في هذا الموضوع الشعور بالدونية التي يحس بها عدد من المبدعين و النقاد العرب تجاه ما قدمه الغرب من نقد و إبداع .

قيل ليس هنالك ملحمة في الشعر العربي ، و بعد سنين كانت ملحمة جلجامش و غيرها ، نحن لا ننكر أهمية سبقهم في كتابة الرواية و المسرح ، لكن ذلك كان ضرورة حياتية لمجتمعاتهم ، و كذلك المقالة ، لكن تطور مجتمعاتنا ولّد في مرحلة من التاريخ رسالة الغفران

و حي بن يقظان لابن طفيل ، و علم الاجتماع لابن خلدون ، و الشعر العربي قديمه و حديثه مازال يشي بعمق ثقافة الإنسان العربي ، و هو معيار و مقياس للشعر الإنساني و بشهادة ناقدين مهمين من الغرب نفسه .

و أنا لا أرمي في هذا إلى نيل السبق في جميع مجالات الإبداع و النقد لكنني أقول كتبنا في النقد ، منذ كانت أسواق العرب المشهورة إلى المجلدات التي بحثت في اللغة و الصورة و البنية و البلاغة و الدلالة و الصدق و الصوت و الموسيقا و حتى الألوان و الرائحة و ما إلى ذلك من جناس و طباق و همس و نبرة و لكن ذلك بقي شتيتاً ، و لم يقيض له ناقد فذ يجمع و يدقق و ينتهي إلى جديد مفيداً مما ذهبت إليه الشعوب الأخرى بل ابتلينا بببغاوات ، تردد ما يقوله الآخرون خجلين من ذكر انتماءاتهم أو جذورهم .

لا أدري كيف يمكن لناقد معاصر يرتكب أكثر من خمسين غلطة لغوية مكتوبة في مقال ، أن يستطيع استنباط أصول النقد الذي اتبعه الآمدي في موازنته و أحياناً أشك في أنه سمع بالآمدي أو ابن سلام في طبقاته أو .. غيرهما من النقاد العرب ، بالإضافة إلى أن معظم النقاد الرواد في العصر الحديث الذين أفادوا من النقد الغربي انتهت دراساتهم إلى حيث قالوا و لم يتابع عملهم أحد من المعاصرين الذين اهتموا بالترجمات و تطبيقاتها على الأدب العربي ، دون الالتفات إلى خصوصية المكان و الزمان و الحياة العربية .

نحن أمة تركت على الأرض آثاراً مدنية ما زال التنقيب و البحث يكتشفان الكثير من أهميتها التي تؤثر في التاريخ البشري ،و تعيد كتابته ، و ما زلنا بانتظار أن يُكشف النقاب عن كثير ، كما حصل في ايبلا ، و إذا كانت الأبجدية الأولى من بلادنا فمم نخجل ، و نحن نحاول أن نقول كلمتنا في أدبنا ؟ !

نؤثر في حديثنا هذا أن نشير إلى ضرورة العمل على تأسيس نقد عربي ، يحمل سماتنا ، كما استطاعت الرواية العربية أن تحمل سماتنا ، و تعبر عن حياتنا بصدق و عمق ، روايات نجيب محفوظ عبد الرحمن منيف غسان كنفاني حنا مينة إلياس خوري رشاد أبو شاور وكثيرون لا أستطيع ذكر أسمائهم هنا ، تقدمت على الرواية الغربية بدليل نوبل و نجيب محفوظ و آخرون يحول دون حصولهم على نوبل موقفهم السياسي و الاجتماعي و الفكري من مانحي الجائزة ، و النقد قادر أيضاً أن يفعل ذلك و لكن مازلنا ننتظر ! . فمن يتصدى إلى مثل هكذا مشروع ؟ .





 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه