إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

تقييم شامل ل <معركة نهر البارد> ظروفها ، مسارها، تداعياتها

زاهر العريضي

نسخة للطباعة 2007-06-11

إقرأ ايضاً


أولا: لماذا لجأ الجيش الى الخيار العسكري؟

لم يكن أمام الجيش اللبناني من خيار آخر الا الخيار العسكري لانهاء ظاهرة "فتح الاسلام" والوضع الشاذ الذي نشأ في مخيم نهر البارد. فمنذ لحظة وقوع الهجوم الغادر الذي استهدف الجيش في مراكزه ومهاجعه وأدى بحياة ٣٢ جنديا، كان القرار بوضع حد ل "فتح الاسلام" والاقتصاص منها بأحد طريقين لا ثالث لهما:

- إما عن طريق الاستسلام، الاستسلام الطوعي لعناصر فتح الاسلام كي يحالوا الى القضاء العسكري مقابل ضمانات بأن تؤمن لهم محاكمة عادلة ومعاملة حسنة في أماكن اعتقالهم...

- إما عن طريق الحسم العسكري لتدمير "فتح الاسلام" وانهائها بقتل عناصرها التي تقاتل الجيش وتوقيف العناصر التي تلقي السلاح...

كان واضحا منذ البداية ان الجيش لا يمكنه السكوت على الجريمة الموصوفة المرتكبة في حقه والتي لا مجال لأي تهاون ومساومة فيها. فما حصل شكل اعتداء صارخا على معنويات الجيش وهيبته، وستشكل لاحقا في حال لم يرد الجيش هيبته ومعنوياته تهديدا لدوره الذي هو أساسي ومحوري في حفظ الأمن والاستقرار والسلم الأهلي والوحدة الوطنية. فاذا كانت كل مؤسسات الدولة أصابها الوهن والضعف والانقسام، فإن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي ظلت بمنأى عن كل ذلك وصمام أمان لمجمل الوضع، خصوصا بعدما نجح في اجتياز اختبارات وأوضاع دقيقة واجهها من دون ان يصاب بأذى وأضرار.

لم يسبق ان عرف الجيش خسارة بشرية بهذا الحجم وسقوط نحو ٣٥ شهيدا في صفوفه في يوم واحد باعتداء غادر على يد فتح الاسلام، وهو ما يوازي مثلا سقوط ٧٠٠ قتيل من الجيش التركي على يد حزب العمال الكردستاني وما سيكون سببا كافيا لحرب مفتوحة... كما لم يسبق ان سقط ٣٣ شهيدا من أصل ٣٥ من منطقة عكار، وهي المنطقة التي تشكل الخزان البشري للجيش وشكلت في حد ذاتها عنصرا ضاغطا على القيادة الحريصة جدا على معنويات جنودها وعلى معنويات جنود عكار وعائلاتهم، خصوصا وان طريق عكار تمر في محاذاة مخيم نهر البارد ولا يمكن لهذه المنطقة ان تحتمل استمرار وضع شاذ يؤثر على حياتها الاقتصادية والاجتماعية بعدما كان سببا في قتل أبنائها...

لم يكن أمام الجيش من امكانية لخيارات أخرى وهامش القرار لديه كان محدودا ومحددا منذ اندلاع الأزمة. فلم يكن بامكانه السير بحلول تقليدية تسووية من نوع نشر قوات فصل فلسطينية بينه وبين فتح الاسلام، وانهاء المظاهر المسلحة وعودة النازحين وتعهد "فتح الاسلام" بالتهدئة وعدم الاخلال بالأمن وبعدم مهاجمة الجيش... لم يكن من امكان ل "أنصاف الحلول"، فأي حل يبقي على "فتح الاسلام" على قيد الحياة ليس حلا بنظر الجيش ومرفوض منه.

وبالمقابل فإن أي حل يتضمن تسليم السلاح والعناصر مرفوض من "فتح الاسلام" وليس واردا عندها.

الجيش دخل الى هذه المعركة بمعزل عن حسابات سياسية وأيا تكن العواقب والمخاطر لأنه في الواقع لم يكن من خيار آخر...

ثانيا: لماذا تأخر وضع قرار الحسم العسكري موضع التنفيذ لمدة عشرة أيام؟! الأسباب كثيرة وأهمها:

1- استنفاد المعالجات والاتصالات السياسية التي حدد لها الجيش اتجاها واحدا هو تسليم عناصر فتح الاسلام... وقد دارت هذه الاتصالات في حلقة مفرغة واصطدمت بموقف قاطع ونهائي من فتح الاسلام بعدم تسليم أنفسهم.

2- "تحييد المدنيين" ونزع ورقة استخدامهم كدروع بشرية في يد "فتح الاسلام". ففي مخيم صغير ومكتظ مثل مخيم نهر البارد، يشكل المدنيون عائقا فعليا أمام أي عمل او حسم عسكري، كما يفتح الباب على تداعيات ومضاعفات غير محمودة ولعواقب. وبالفعل فإن فتح باب المغادرة أدى الى تقليص ملحوظ في حجم التواجد السكاني داخل المخيم من٣٥ الف شخص الى نحو خمسة آلاف يشكلون في الواقع عائلات العناصر الباقية في المخيم، من فتح الاسلام ومن غير فتح الاسلام من مطلوبين للعدالة ، اضافة الى تنظيمات أخرى لها وجود مثل فتح وحماس والجهاد...

3- تأمين الجهوزية العسكرية لمواجهة فرضت على الجيش ولم يكن يريدها ولم يخطط لها ولم يكن جاهزا لها،

بدليل انه اضطر الى استقدام وحداته المنتشرة خارج الشمال لأن انتشار الجيش في الشمال ليس "انتشارا قتاليا"، في وقت وجهت حكومة السنيورة طلبا" عاجلا" للولايات المتحدة ودول عربية لتقديم مساعدات عسكرية فورية كانت مقررة في وقت سابق.

4- تأمين الغطاء السياسي للعملية العسكرية. وهذا الغطاء من أربعة أوجه:

** الوجه الرسمي، أي القرار السياسي من الحكومة اللبنانية. وهذا ما حدث، اذ فوضت حكومة السنيورة للجيش اتخاذ ما يلزم لتنفيذ قرار انهاء "فتح الاسلام".

** الوجه اللبناني، أي تأييد القوى السياسية والقيادات والمرجعيات الأساسية. وهذا ما تأمن الى حد كبير من خلال التفاف حول الجيش وادانة فتح الاسلام.

** الوجه الفلسطيني، أي تأييد القوى الفلسطينية لعملية عسكرية معنية بها كونها تجري على أرض مخيم نهر البارد بحكم تمركز فتح الاسلام فيه وتطال بشظاياها العلاقة اللبنانية الفلسطينية وملف المخيمات. وهذا ما تأمن على نحو جزئي ولكنه كافٍ وحيث ان موقف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير كان واضحا وحاسما في تأييد الجيش وخيار الحسم العسكري، فيما موقف حماس والجهاد الاسلامي وتنظيمات أخرى وقفت ضد الحسم العسكري وان كان الجميع اتفقوا على ادانة ما تعرض له الجيش وما أصابه على يد منظمة لا تمت الى فتح والى الاسلام وصنفت من خارج النسيج السياسي الاجتماعي الفلسطيني...

*الوجه العربي الدولي، أي غطاء جامعة الدول العربية اتفاق القاهرة يمنع دخول الجيش الى المخيمات ودعم المجتمع الدولي. وبالفعل صدر بيان من الجامعة العربية يدعم بقوة الجيش في لبنان، كما حصل تعاطف دولي واهتمام ملحوظ بما يحدث ويندرج في اطار الحرب على الارهاب.

ثالثا: كيف تسير مجريات المعركة في مخيم نهر البارد، وأي مسار للتطورات الميدانية والوضع على الأرض؟

1- قرار قيادة الجيش واضح ونهائي: الاستمرار في المعركة الى ان تحقق الأهداف المرسومة لها وخلاصتها:

القضاء على "فتح الاسلام" استسلاما او حسما... هذه معركة "حياة أو موت" بالنسبة للجيش الذي لا يمكنه الا ان يخرج منها رابحا ومنتصرا مهما تطلب الأمر من وقت وجهد وتضحيات، ولا يمكنه ان يحتمل فيها خسارة او تراجعا لأن التداعيات على مجمل الوضع الأمني والسياسي وعلى مشروع الدولة ستكون "كارثية".

2- الهدف المحدد للعمليات العسكرية ليس اجتياح او احتلال مخيم نهر البارد، وانما هو محدد في "انهاك وانهاء"

منظمة "فتح الاسلام" عبر شل قدراتها وتدمير بناها التحتية وحصرها في مربع واحد وأمام خيار واحد هو الاستسلام...

وهذه العملية ليست سريعة وسهلة وانما تتطلب وقتا وتترتب عليها كلفة، والمعركة يمكن ان تنتهي فجأة ومرة واحدة اذا حصل انهيار في وضعية "فتح الاسلام" ويمكن ان تمتد لأيام وربما لأسابيع اذا نشأت حرب مواقع وشوارع وخطوط تماس. وبالاجمال فإن المؤشرات الأولية في المخيم تدل الى معركة صعبة من الوجهة العسكرية للأسباب التالية:

• "الطبيعة الانتحارية" لعناصر فتح الاسلام غير المستعدين للاستسلام والذين يقاتلون بشراسة حتى الموت.

• عامل وجود مدنيين في المخيم واختلاط عناصر فتح الاسلام بهم، خصوصا بعد تسربهم الى المنطقة "المدنية" من المخيم واخفاق حركة فتح في الايفاء بتعهداتها بمنع دخول هؤلاء الى منطقة تواجد المدنيين.

• طبيعة المخيم المكتظ بالأحياء الضيقة حيث لا تتوافر للدبابات امكانات الدخول والمناورة، ويصبح اللجوء الى "سلاح المشاة" من "النخبة" (المغاوير وأفواج التدخل) حتميا مع ما يعنيه من تلاحم ومن مواجهات مباشرة من شارع الى شارع ومن بيت الى بيت...

• التحصينات والاستحكامات والأنفاق المقامة في المخيم على مر السنوات وعلى أيدي خبراء سوفيات سابقا، اضافة الى ان المخيم "ملغم" في مداخله وعلى خطوطه الأمامية، وفي مراكزه الأساسية (صامد ، التعاونية)...

• اتساع نطاق المشاركين في المعركة من داخل المخيم. فالمعركة لا تدور بين الجيش وعدد محدود من "فتح الاسلام" ( 200-300 عنصر) وانما مع "كوكتيل وموازييك" من المسلحين (يتراوح عددهم بين ال 600والف عنصر) بعد انضمام عناصر من تنظيمات فلسطينية أخرى، غير فتح، الى المعركة دفاعا عن المخيم وعناصر مطلوبة وملاحقة من السلطات اللبنانية...

3- يتعامل الجيش مع الوضع في مخيم نهر البارد بدقة وتأنٍ كمن يجري "عملية جراحية" لاستئصال "ورم خبيث" من دون التسبب بمضاعفات تؤثر سلبا على سلامة وصحة المريض (المخيم). ولذلك تتميز عمليات القصف بالدقة حتى لا تصيب المدنيين والمساجد والمراكز الصحية والاجتماعية، وحتى لا تتاح ل "فتح الاسلام" فرصة تأليب الرأي العام الفلسطيني والعربي والاسلامي، او فرصة الاحتماء بالمخيم وبمعادلة أمنية سياسية فلسطينية... وتبدي مصادر دبلوماسية وسياسية اعجابا بالطريقة التي يدير بها الجيش معركته ان في الميدان او على مستوى الاعلام ومخاطبة الجمهور الفلسطيني في مخيم نهر البارد وخارجه.

رابعا: ما هي التداعيات والنتائج السياسية التي يمكن ان تترتب على معركة نهر البارد؟

احتمال ان تتوقف المعركة من دون انهاء ظاهرة فتح الاسلام ليس مطروحا ولا واردا، والمعركة المتواصلة بعنف وضرواة نهارا ومع مناوشات ومشاغلة بالنار ليلا، تبدو أمام احتمالين:

1- احتمال ان تنتهي الى الحسم خلال أيام والى انهيار واستسلام "فتح الاسلام". في هذه الحالة يكتسب الجيش قوة ومناعة وتتعزز الثقة بقدراته، ويتعاظم دوره الداخلي في حماية الدولة والنظام، كما يتعزز وضعه ونفوذه وتأثيره في الداخل كما الحال مع المؤسسة العسكرية في تركيا.

ومع توقع ان تحصل عمليات استثمار سياسي في بيروت للانتصار العسكري المحقق شمالا، خصوصا من الحكومة والقوى المؤيدة لها، من المستبعد ان يدرج هذا الانجاز في سياق التجاذبات والتوازنات الداخلية والمعركة السياسية الدائرة. ومثلما دخل الجيش المعركة من دون حسابات سياسية فإنه يخرج منها من دون حسابات وتوظيفات سياسية في أي اتجاه. وبالتالي فإن معركة نهر البارد تكون بمثابة جملة اعتراضية في سياق النص العام للأحداث، معركة مفتعلة و "موضعية" من دون نتائج وارتدادات سياسية، وتحديدا على ميزان القوى السياسي الداخلي، ليعود الوضع السياسي بعد "معركة نهر البارد" الى ما كان قبلها وتستأنف المعركة السياسية من النقطة التي كانت توقفت عندها بعد اقرار المحكمة الدولية، وهي نقطة "العروض

والشروط الحوارية"...

2- احتمال ان تستمر لأسابيع وتتحول الى معركة استنزاف للجميع: للجيش، للوضع اللبناني، لمخيم نهر البارد، مع ما يعنيه وجود هذه الفجوة الأمنية الشمالية في ظل وضع مكشوف سياسيا وغير متماسك داخليا من احتمال اتساع نطاق الخروقات والاهتزازات الأمنية في كل لبنان وعلى النحو الذي حدث مساء أمس في مخيم عين الحلوة ومحيطه. وستكون نتيجة الوضع المتدهور أمنيا والمتسبب بتداعيات سلبية على الاستقرار العام والأوضاع الاقتصادية والمالية واعادة خلط الأوراق والأولويات ويؤدي الى تراجع المعركة السياسية بين معارضة وموالاة، لمصلحة المعركة "الوطنية" بين الدولة و "الارهاب". وفي خضم هذا الوضع والضغوط الهائلة، سيكون من الصعب على الحكومة ان تتحمل أعباء الوضع بصيغتها وظروفها الحالية، وستكون الحاجة ملحة أكثر الى حكومة وحدة وطنية، لأن الوصول الى استحقاق رئاسي هادئ وطبيعي في ظل ظروف كهذه سيكون صعبا، وسيكون العبور من المرحلة الانتقالية الى مرحلة الأمان والاستقرار متعذرا.

معركة الجيش مع عصابة فتح الاسلام، هي نقطة مفصلية وأساسية في مجمل الوضع اللبناني، فما قبل احداث نهر البارد سيكون مختلفا" تماما" عما بعده، لذا، فالجيش اليوم امام أكبر تحد وطني ومسؤولية تاريخية لانقاذ الوطن من براثن الفتن والأصولية والانقسام.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024