إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرد على البطريرك عريضة:‏ مسائل السيَاسة القومية ‏جزء 5

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1937-12-18

إقرأ ايضاً


اقتصاد، إدارة، قضاء

يترك غبطة البطريرك ميدان السياسة، تاركاً السامعين والقراء في حيرة بين الاستقلال والحكم، ‏ويتقدم إلى معالجة المطلب الثاني من المطالب التي يتناوله خطابه: الاقتصاد. ‏

والعلاج الذي يصفه غبطته في هذا الباب لا يتناول نقطة فنية واحدة، بل كل الكلام في هذا الشأن ‏عمومي معتاد من النوع الذي يتعرض الإنسان العادي لسماعه في أي مجتمع عائلي أو أي ناد عام ‏أو خاص. ومنه ما قد تكرر طرقه الآذان لكثرة ما تردد في الخطب السياسية وغير السياسية حتى ‏أصبح وقراً في الآذان كقوله: "أما تكثير موارد الشعب فيكون بتحسين الزراعة وتنشيط المشاريع الوطنية" وقوله "فتحسين الزراعة يكون باستخدام المياه التي تجري الى البحر ‏دون فائدة لري الأراضي البعلية" وقوله: "ويكون بفتح مدارس زراعية" الخ. وكل الكلام الذي في ‏هذا الباب لا يتناول مسألة اقتصادية واحدة بالمعنى الصحيح. فتحسين الزراعة مثلاً له علاقة وثيقة ‏بالسياسة الاقتصادية العامة وبمسائل السياسية القومية العامة وغبطته لا يبدي ما يدل على الشعور ‏بوجود هذه العلاقة. وفتح مدارس زراعية يتعلق بموازنة الدولة ونظام الجباية وتعيين الموارد ‏والنفقات. فإرشادات غبطته في صدد الأمور الاقتصادية هي من باب الكلام الجميل السهل، الذي لا ‏ينطوي على درس عميق لأية معضلة اقتصادية وعلى كيفية حلها.‏

ثم ينتقل غبتطه إلى موضوع الأمن العام الذي هو من مواضيع الإدارة، فيشير إلى أن من واجبات ‏الحكومة الأولية المحافظة على أرواح الشعب وأمواله من الاعتداءات الداخلية والخارجية ‏‏"والضرب على أيدي الأشرار والمقلقين".‏

وينتهز غبطته هذه الفرصة لرمي الحزب السوري القومي الاجتماعي بأشياء كانت يجب أن تترك ‏لأعمال المفترين. فإننا نفهم أن غبطته يريد تأييد التقاليد الكنسية المقام البطريركي الماروني ‏بالمحافظة على السلطة الزمنية أو على ‏النفوذ الزمني، وهو أمر يتضارب مع تعاليم الحزب القومي الاجتماعي، وإنه يريد إتباع سياسة ‏الاحتفاظ بالحالة الراهنة التي كان للمقام البطريركي الماروني شأن كبير في إقرارها ونعني كل ‏عقيدة وكل أمر يتضارب مع هذه السياسة ومع وجهة نظر المقام البطريركي في معالجة القضية ‏القومية.‏

وكان الأفضل أن يشير غبطته إلى هذا الأمر الواقع ويتناول مسائل الخلاف بين وجهة نظر المقام ‏البطريركي الماروني المستمدة من تقاليده القديمة والمبنية على أساس مصلحة هذا المقام ومصلحة ‏الجماعة الدينية السياسية، ووجهة نظر الحزب السوري القومي الاجتماعي المستمدة من المبادئ ‏القومية والمبنية على أساس وحدة الأمة وعدم ترجيح وجهة نظر دينية في المسائل السياسية على ‏أخرى، ولو أن غبطته فعل ذلك لكان أليق به وبالمقام البطريركي من رمي الحزب بما هو براء منه.‏

لا يطيل غبطة البطريرك الكلام على الأمن العام فما هي إلا لمحة سريعة حتى ينتقل إلى دائرة ‏القضاء فيتناول المحاكم ومدة بقاء بعض الدعاوي نحو ثلاثين أو أربعين سنة قبل البت فيها. ويشير ‏على الحكومة أن تحتذي في هذا الصدد حذو الكنيسة الكاثوليكية فلا تتجاوز الدعوى الواحدة حد ‏السنتين. ‏

ولا يصعب علينا فهم معالجة غبطته مسألة المحاكم القضائية وإغفال مسألة المحاكم الشرعية أو ‏المذهبية وما فيها من غبن وتسويف وهدر منافع وإساءة حكم لأنه أيسر جداً أن ينتقد الإنسان أعمال ‏غيره قبل انتقاد نفسه، ولأنه أسهل على الإنسان غير الآخذ بالحزم أن يعالج القذى الذي في عين ‏أخيه من أن يعالج الخشبة في عينه. ‏

ثم لا يلبث غبطته أن يعود إلى الإدارة تحت موضع "توزيع الوظائف والمنافع العامة" فيتكلم في هذا ‏الباب كلاماً عادياً لا يتناول سوى الطلب من "أرباب السلطة" الذين هم من نتاج المدرسة السياسية ‏العتيقة التي لا يرى غبطته وجوب تغييرها ومن النفسية والعقلية القديمتين اللتين يؤيد غبطته بقاءهما ‏بمحاربته الحزب السوري القومي الاجتماعي وتعاليمه، أن يعدلوا في "توزيع المنافع والخدم دون ‏مراعاة الحزبية أو الطائفية" أي دون تحيز كل واحد منهم لحزبية أو طائفية وهو ما لا يتم إلا بنفي ‏الحزبية الشخصية والطائفية السياسية ونفيها لا يتم إلا بواسطة التعاليم القومية الاجتماعية التي جاء ‏بها الحزب السوري القومي الاجتماعي.‏

أما قول غبطته: "نظراً للتعصب الديني والطائفي عند أغلب الناس لا يرتاح لبنان إلا إذا أعطيت ‏كل طائفة حقها من الوظائف والمنافع العامة بموجب نظام مفصل" فإرضاء للتعصب الديني ‏والطائفي لا يؤمن الإدارة ولا يفيد الشعب.

‏ وتحت باب "توزيع الوظائف والمنافع العامة" يعرض غبطته لشيء من نظام الدولة المالي ‏والضرائب وجبايتها فيقول بتعديل فيه لمصلحة الفقراء والإيرادات ‏التي لا تتجاوز القيام بأود العائلة. ومحصل هذا الكلام قليل غير واف. ‏

الحقوق المدنية والسياسية

ينتقل بنا غبطة البطريرك من المسائل الإدارية والمالية الواردة في باب الوظائف والمنافع إلى باب ‏‏"الحرية" الذي يتناول فيه الحقوق المدنية والسياسية وشيئاً من النظام الاقتصادي. ‏

يبتدئ غبطته الكلام في هذا الباب بالخروج عن دائرة الدولة إلى فضاء المطلقات فيقول: "الحرية ‏هي حق طبيعي للإنسان" وبعد كلام قليل على هذا الحق المطلق، الذي يتخذ الفرد أساساً له، يعود ‏إلى دائرة الاجتماع والاقتصاد فيقول: "فلكل إنسان أن يختص بثمرة أتعابه وجهوده ويستفيد منها ‏وله حق الاستملاك بما جنت يداه وأيدي والديه وذوي أقربائه. فعلى الحكومة أن تمنع العبودية ‏وتصون الأملاك الخاصة".‏

ولسنا ندري تماماً ما يقصد غبطته بقوله "الأملاك الخاصة" وهل يدخل في بابها الإقطاع المدني ‏كقرى الأمراء والشيوخ والبكوات والإقطاع الديني كالأوقاف المترامية الأطراف. ‏

إن نظرية أن الفرد أساس في المجتمع وأن النظام الاجتماعي السياسي هو عبارة عن مقاولة أو ‏اتفاقية اجتماعية، نظرية عتيقة من التفكير الأولي. ولسنا نريد هنا أن ندخل في موضوع علم ‏اجتماع بحت أو فلسفة اجتماعية عامة فنقتصر على هذه اللمحة لتناول المسائل القريبة التي عرض ‏لها غبطته في باب الحرية ولها مساس عظيم بالمجاري الفكرية السياسية والوضع الراهن الذي ‏يتصدى غبطته لمعالجته وبالقضية القومية عامة التي نعمل لها.‏

نبتدئ بقول غبطته: "والإنسان حر أن يعتقد بما يشاء، ولكن ليس له أن يرغم غيره على اعتناق ما ‏يعتقد به هو ولا أن ينشر مبادئ فاسدة تعود بالضرر على الآخرين" ونريد أن نأخذ أولاً الجزء ‏الأول من هذه العبارة المتعلق بحرية الاعتقاد وعدم إرغام الغير على اعتناق المعتقدات.

‏ بهذا الاعتقاد وهذا القول ينقض غبطته القول بمحاربة الحزب القومي الاجتماعي من أجل عقيدته ‏خصوصاً وأن مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي انتشرت بواسطة الاقتناع الفكري الوجداني، ‏لا بواسطة الإرغام، أما الإرغام فيكون بمحاربة الاعتقادات الفكرية الوجدانية وإرغام أصحابها ‏على تركها واعتناق عقائد أخرى يقول بها الغير، كما جرى في اضطهاد غليليو حين أعلن اقتناعه ‏بكروية الأرض وأنها تدور حول الشمس، لا أن الشمس تدور حول الأرض. فإن هذه الحقيقة التي ‏أصبحت مسلماً بها تسليماً عاماً كانت تخالف في ذلك العصر المظلم، الاعتقاد بدوران الشمس حول ‏الأرض وتخالف قصة إيقاف يشوع بن نون الشمس عن دورانها ليتم انتصار بني إسرائيل. وعلى أساس هذه القصة وغيرها قام ‏الاعتقاد الديني التقليدي القديم يرغم صاحب الاعتقاد الجديد على ترك اعتقاده الصحيح والعودة إلى ‏اعتناق الاعتقاد القديم الفاسد. ‏

وبعد فالمسألة ليست بهذه البساطة العامة لأنها في موضوعنا الحاضر، تتعلق بالنظام السياسي الذي ‏نحيا فيه، فيجب أن نجلبها من هذه البساطة المطلقة إلى نطاق المجتمع المعين والحقوق الأساسية ‏التي تحفظ نظامه وهي الحقوق المدنية التي يتمتع بها الفرد بصفة كونه عضواً عاملاً في النظام ‏السياسي الاجتماعي الذي يعيش فيه. ففي نظام ديمقراطي كالنظام الذي يقال أنه سائد في هذه البقعة ‏أو المنطقة الصغيرة هنالك حقوق مقدسة هي حقوق العضوية التي تبيح لكل عضو من أعضاء هذه ‏الجمعية التي هي الدولة اللبنانية حق التفكير حق الاعتقاد وحق نقل الاعتقاد إلى رفيقه وحق ‏التصريح باعتقاده وآرائه وحق الاجتماع للمداولة في العقائد والآراء وحق تكوين رأي في الحكومة ‏وفي أشكالها ونقل هذا الرأي إلى عضو أو أعضاء آخرين فيفسح المجال أمام الشعب للتطور نحو ‏أفضل النظم وأقوى المبادئ وأصلح الحالات. فإذا جرى تدخل من قبل فرد أو أفراد بلغوا إلى الحكم ‏بواسطة أعضاء الدولة الذين انتخبوا هؤلاء الأفراد هيئة إدارية عليا بقصد تعطيل هذه الحقوق ‏المقدسة، كانوا طغاة ظالمين يدوسون الحقوق عينها التي أوصلتهم إلى الحكم. وهو ما يريده ويؤيده ‏غبطته حين يقول بعدما تقدم في الباب نفسه: "ولكنها (الحكومة) حرة أن تقاوم المذاهب السياسية... ‏وكل ما ترى منه ضرراً للشعب".‏

وهذه العبارة خطيراً جداً، لأنها تقول بإطلاق يد الحكام في مقاومة المذاهب السياسية الضرورية ‏لارتقاء المجتمع، خصوصاً هذه العبارة الخطيرة: "وكل ما ترى منه ضرراً للشعب" فمن أين تجيء ‏حكومة عادية انتخبت لتسيير النظام الموضوع ومعالجة الشؤون العارضة بالحكمة الإلهية لمعرفة ‏ما هي المذاهب السياسية التي يجب عليها أن تقاومها وترغمها وما هي المذاهب السياسية التي يجب ‏عليها أن تشجعها؟ وما هي السلطة العليا التي تمنح الحكومة حق رؤية ما فيه ضرر للشعب وما ‏ليس فيه ضرر وهي لم تنتخب من الشعب لتكون حكومة مطلقة تتخذ التدابير التي تراها هي موافقة ‏فإذا سئلت عما تفعل أجابت بعبارة غبطته الكبير: "رأيت في هذا ضرر للشعب. ورأيت في ذاك ‏خير له" وكيف يجوز لغبطة البطريرك بعد إقرار هذا المبدأ الخطر أن يطلب محاسبة الحكومة أو ‏مؤاخذتها لأنها فعلت حسبما رأت!.‏

قد يعطي الشعب حكومة واحدة معينة انتدابا ًمطلقاً يسلم فيه إليها حق فعل ما تراه مناسباً لخير الأمة ‏وارتقائها، لأنه يثق بها ثقة مطلقة. إذ لا يجوز أن يقوم الحكم المطلق إلا على أساس الثقة المطلقة. ‏أما أن تطلق حكومة مقيدة يدها في تدابيرها فمبدأ يعود بنا إلى عبودية العصور المظلمة.

‏ هل يريد غبطة البطريرك أن يحرم القوميين من اللبنانيين اللذين يعملون بعقيدة يقتنعون اقتناعاً تاماً ‏بأنها تؤدي إلى خير اللبنانيين وارتقائهم ظلماً وعدواناً من أجل عقيدتهم ومن أجل أنهم استعملوا ‏حقهم في حرية الاعتقاد؟

أيريد غبطته من حكومة قائمة على دورة انتخابية لأمد قصير أن تحتكر الفكر في الدولة فتمنع ‏أعضاء الدولة من توليد أفكار تعجز الحكومة عن توليدها وتمنع الحيوية الفكرية ضمن نطاق ‏الدولة؟ وما هو مصير الدولة التي تمنع حيوية الفكر؟ أفكر غبطته في هذه المسائل حين ألقى هذه ‏العبارات الخطيرة؟

أما قوله: "ليس للإنسان أن ينشر مبادئ فاسدة تعود بالضرر على الآخرين"، فكلام يخرجنا من ‏دائرة النظام السياسي ويعود بنا إلى العالم الواسع، لأنه في الدولة لا يوجد آخرون إلا في الحقوق ‏المدنية والسياسية فهنالك المجموع فقط، الأمة التي يجب النظر في سلامتها وفلاحها قبل النظر في ‏سلامة (الآخرين وفلاحهم).‏

وأما قوله: "مبادىء فاسدة" فالفاسد من الصالح يتعين بالحرية، لا بالعبودية وفي هذا المقدار كفاية في هذا الباب. فلا نحتاج الى دخول نطاق الفلسفة الحقوقية وتاريخ نشوء الحقوق وتطورها. وقد كدنا نحتاج لذلك بفضل المتناقضات الأساسية في خطاب غبطته.

.... للبحث صلة،

نشر هذا البحث التحليلي في جريدة "النهضة" الصادرة في بيروت، وذلك ‏ابتداء من العدد 58 تاريخ 18 كانون الأول سنة ‏‏1937‏




 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024