شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1932-12-01
 

مبادئ أساسية في التربية القومية جزء 1

أنطون سعادة

إن لهذه المحاضرة التي يرى المطالع نصها فيما يلي، رواية طريفة تمثل هذا الصراع الصامت المحتدم بين عصرين، الواحد منهما قد بلغ من الكبر عتياً والثاني لا يزال في بدء حياته، الأول يتمسك بنظامه المحافظ القديم، والثاني آخذ في انشاء نظام حر جديد. الواحد منهما قوي يضعف ويتقهقر والآخر تتزايد يوماً فيوماً، أحدهما يقول "أنا دولة الفكر" والثاني يقول "إنما دولة الفكر هي الفكر الحر نفسه"، أولهما ينادي "أنا القديم الذي كان)" وثانيهما يجيبه "إنما أنا الجديد الكائن والذي سيكون" - صراع صامت هائل هو صراع موت وحياة.

والخبر أن المحرر بعيد عودته من أميركا منذ نحو سنتين ونصف أمّ دمشق وهناك تعرف إلى السيد محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي وهو حينئذ وزير معارف الحكومة السورية المؤقتة. وتم الاتفاق بين الاثنين في المقابلة الأولى على أن يعد محرر المجلة محاضرة يلقيها في المجمع العلمي. فأنشأنا هذه المحاضرة ورغب السيد كرد علي في الاطلاع عليها قبل تعيين موعد إلقائها فقدمناها إليه بواسطة الشيخ عبد القادر المغربي الذي اطلع عليها أولاً ووضع علامات الاستفهام تجاه بعض العبارات التي لم يتمكن من فهمها، والقارئ يرى الإشارة إلى ذلك في محله، ومع ذلك فالشيخ المغربي لم ير فيها ما يعترض مع إلقائها في المجمع، ولكن السيد محمد كرد علي أعاد المحاضرة وقد علق عليها بقلم رصاص ما يأتي: "في هذه المحاضرة عدة أماكن وقع فيها إبهام شديد أشير إلى محله والمحصل من مجموعها قليل يحتاج صاحبها إلى درسها ثانية ونزع الأفكار التي يراها في الأتراك وهي مخالفة لما عليه المنطق والواقع".

لم نأسف لهذا التحكم الصادر من رئيس المجمع العلمي العربي، ولكننا أسفنا للحقيقة التي وقفنا عليها، وكنا نجهلها من قبل، وهي: أن المجمع العلمي العربي معقل "دولة الفكر التحكيمية" ضد "دولة الفكر الحر"، وإن كان بين أعضائه نفر يدينون بحرية الفكر وكنا نود أن يحترم السيد محمد كرد علي الحرية الفكرية ويضعها فوق "منطقه وواقعه" ولكنه أبى إلا أن يصدمها، أما نص المحاضرة فكما يلي:

الأمة التي لا تظهر حيويتها القومية

إلا في السياسة أمة لا تعرف سبل النجاح

إن درسنا تاريخ تطور الأمم الحية يفيدنا، ان كيان الأمة يتوقف على حياة الشعب قبل كل شيء آخر، مهما كان ذلك الشيء مهما. فالشعب الحي سواء كان مؤلفاً من عنصر واحد، أم من عناصر متعددة، مختلفة الأصول يمكنه أن يكون أمة ذات شأن بفضل قابليته للتطور الراقي. فإذا كان مؤلفاً من عناصر متعددة امتزجت عناصره بعضها ببعض وأوجدت قومية ممتازة بمزاجها وطبائعها وعاداتها، لها وسائلها الخاصة بها لاحتلال المركز المعد لها تحت الشمس، لذلك كانت المبادئ الشعبية المادة الحيوية للأمم، وهي الأسس التي عليها يجب بناء التربية القومية.

إن أكثر الذين تكلموا في محيطنا عن القومية والتربية القومية جعلوا همهم أن يبحثوا الموضوع من وجهة سياسة بحتة ولذلك رأيناهم يؤكدون لنا، أن الحرية والاستقلال هما الغرضان الاسْمَيان في حياة الأمم، والحقيقة أن الحرية والاستقلال يقصران عن أن يكونا ذينك الغرضين، ان أغراض الأمم السامية هي مطالبها العليا، أما الحرية والاستقلال، فليسا سوى الوسيلتين، اللتين لا غنى للأمم عنهما لتحقيق تلك المطالب. ومتى بطل أن يكون لأمة ما مثل أعلى تريد تحقيقه، لم تبق لها حاجة إلى الحرية والاستقلال.

يتضح لنا مما تقدم، أن كل مبدأ عام لا يكون الغرض منه خير الشعب وضمان وسائل تقدمه نحو مثله الأعلى يكون عديم الفائدة، وفي التاريخ شواهد عدة على ذلك. على هذه النظرية قامت الروح الشعبية التي دفعت أمم العالم الحية إلى الارتقاء الذي هي عليه الآن، وأصبحت المحور الذي تدور عليه التربية القومية التي لا تفشل، والأمم الحية التي أثبتت أهليتها للبقاء والاحتفاظ بكيانها القومي، هي التي تمكنت من تنزيه مبادئها الشعبية عن المبادىء الدخيلة عليها، فإن من هذه المبادىء ما لو اختلط بالمبادئ القومية الشعبية لكان وبالا عليها وعلى الشعوب التي تعمل به. لنبحث الآن في بعض هذه المبادئ التي لها دخل في القضية القومية السورية والقضايا القومية القريبة منها "كالمبادئ العنصرية" و"المبادئ الدينية":

المبادئ العنصرية

إذا دخلت المبادئ العنصرية الشعبية لأمة لم تتمكن منها التربية القومية المتينة، وكان القصد من دخولها ضمّ الأمم التي هي من عنصر واحد في الأصل في قومية واحدة وكيان واحد، اقتضت أن تتنازل تلك الأمة عن مثلها الأعلى وأن تفني قوميتها في قومية تعمّ الأمم التي تشترك معها في العنصر. وهذه عملية دقيقة من الطراز الأول قد يفوق خطرها على الأمة الواحدة خطر تقسيم هذه الأمة إلى أقسام متعددة، لأنه ما دامت الأمم المطلوب توحيدها، لا تشكل وحدة اجتماعية شعبية، أو وحدة أخلاقية أو وحدة نفسية أو وحدة عقلية، فلا بد في هذه العملية من أن تذهب أمة ضحية لأمة وشعب ضحية لشعب، إذا اتحدت الأمم اللاتينية الآن في قومية واحدة، فقد تلتهم إسبانيا البرتغال، وقد تلتهم إيطاليا إسبانيا، وما يقال في الأمم اللاتينية يقال في غيرها.

ليس من أجل هذه النظرية فقط لا تقدم الأمم على التمسك بالمبدأ العنصري تمسكاً أعمى، بل لأنها تدرك أنه لا يمكن القول بأمة خالصة العنصر، ليس في العالم أمة واحدة ليست خليطاً من أكثر من عنصر وعنصرين، لذلك كانت الأمم الحكيمة ولا تزال، تقدم على التعاون العنصري لا على الاتحاد العنصري، متجنبة إثارة مسألة عنصرية في نفس الشعب الواحد تمزقه تمزيقاً. وفضلاً عن ذلك فلا موجب لهذا الاتحاد. فالعالم لا يشهد الآن تطاحناً عنصرياً تجمع فيه العناصر صفوفها ليقوم بعضها على بعض مريداً فناءه، بل يشهد تسابقاً أممياً شعوبياً.

إذا أمعنا في هذه القضية، ووفيناها حقها من الدرس، اتضح لنا أن مزج القضايا العنصرية بالقضايا القومية قبل أن تكون الأمم العنصرية في حالة وحدة اجتماعية شعبية نفسية أو عقلية، اقتصادية الخ. مناف لخير الشعوب، هادم لقومياتها لأنه يفقدها حياتها الخاصة ومزاياها ومواهبها الخاصة التي هي من مواهبها الطبيعية لا يعود يفيدها شيئاً شأن الدولة والحرية السياسية ونسبها العنصري*(تجاه هذه العبارة وضع الشيخ المغربي علامة استفهام وهي من جملة ما قال السيد كرد علي عنه ان فيه ابهاماً شديداً). والنسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.

لا يعني ما تقدم، أنه يجب التخلي عن المبدأ العنصري بالمرة، لأن التخلي عنه، يضعف مواقف الأمم التي تنتمي إلى عنصر واحد تجاه مواقف الأمم المنتمية إلى عناصر أخرى. ولكن ذلك يعني ضرورة التمييز بين المبدأ العنصري والمبدأ القومي الشعبي، لكي لا يحدث بينهما تضارب مضر بالأمة والعنصر كليهما، إن المبدأ القومي الشعبي هو المبدأ الأساسي الضروري لحياة الأمم.أ ما المبدأ العنصري فهو المبدأ الكمالي الذي يجب أن لا تتناوله الأمم إلا بعد التثبت من رسوخها في المبدأ الأولي، بحيث تستطيع الأمة الواحدة الانخراط في قضية تعاون عنصري، بدون أن تعرض نفسها لفقدان مطلبها الأعلى واستقلالها في مناحي حياتها، أي أنه لا يجوز أن تتضارب المصالح العنصرية والمصالح الشعبية، فإذا حدث شيء من ذلك وجب تقديم هذه على تلك لأن الشعوب قوام العنصر وليس العنصر قوام الشعوب. إن المبدأ العنصري يجب أن يخدم الشعوب، لا أن تخدم الشعوب المبدأ العنصري فكل ما يقدمه هذا المبدأ من وسائل التضامن بين الأمم لتحسين شؤونها عموماً هو الخير، أما قضية التوحيد التي أشرت إليها فنتيجتها تكون، أن بعض الأمم القومية تستأثر بالزعامة والقيادة لتحقيق ما هو أكثر انطباقاً على مطلبها الأعلى ومشيئتها بناء عليه أقول: أن التربية القومية يجب أن تكون من الشعب، في الشعب، للشعب.

اسمحوا لي أن آتي على وجهة أخرى من وجهات خطر التخلي عن المبادئ الشعبية والتمسك بالميول العنصرية، هي وجهة خطر التواكل، أي الاتكال على الغير، بعكس ما لو كانت الميول الشعبية هي الغالبة، فإن فيها قوة الثقة بالنفس العجيبة التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الجبارة ولها أمثلة باهرة في تاريخ الأمم، فما من شعب يلجأ في حل قضاياه الخاصة، كقضية حريته وإثبات وجوده في عداد الشعوب الحية إلى الاعتماد على قضية عنصره، إلا كان شعباً خاملاً ليس له ثقة بنفسه وبمزايا طبيعته الخاصة ولا حياة مثلى يسعى إلى تحقيقها كما يريد هو، بل كان عالة على عنصره وعلى البشرية.

إن الثقة بالنفس كانت ولا تزال وستظل العدة التي لا يقوم شيء في العالم مقامها في حياة الأمم، إن ثقة الشعب بنفسه لا يمكن أن تقوم مقامها ثقته بعنصره، فإن في العالم الآن شعوباً لها مراكز أولية فيه هي خليط من عناصر شتى. وقد قرأت مرة لكاتب مواطن نقل عن رينان هذه العبارة: "إن الشعب الوحيد الذي يصح أن يقال عنه أنه خالص العنصر هو الشعب اليهودي، ومع ذلك فاليهود خليط من جميع الأمم" وهذا القول المبني على درس عميق في تركيب الشعوب يؤيد النظرية الشعبية كل التأييد وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وسائر الأمم شواهد حية على ذلك.

لا تتضارب هذه النظريات والحقائق مع ما هو ثابت من تأثير العنصر في المزايا الشعبية بفعل الوراثة، بل هي على العكس من ذلك، تدل على مبلغ مرونة العنصر ومقدرته على اتخاذ الطبائع والمزايا التي يقتضيها مختلف أحوال أممه، وكلما كانت روح القومية الشعبية في الأمم قوية كانت برهاناً قاطعاً على جودة العناصر التي تنتمي إليها، وعكس الأسباب يقتضي عكس النتائج.....


يتبع


"المجلة" مارس 1933، ألقيت في ديسمبر 1932

*المحاضرة التي ألقاها محرر المجلة في حفلة جمعية "العروة الوثقى" في الجامعة الأميركية في شهر ديسمبر الماضي. ننشرها نقلاً عن مجلة "العروة الوثقى".



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه