شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2008-01-29
 

الامين الياس جرجي ... عطاء لم ينضب ومآثر لم ولن تمحى

كان الامين بشير موصلي نشر في " الديار" مقالاً عن الامين القدوة الياس جرجي بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله ، ننقل هنا اهم ما جاء فيه للاضاءة على جانب من مآثر الامين الراحل وكيف كان يمارس مسؤوليته الحزبية ، فنتعظ ونقتدي .


توطدت علاقتي معه في صيف 1948 ، في نهاية السنة الثالثة لانتمائي للحزب ، يوم وضعت نفسي بتصرف عمدة الداخلية بسبب وجودي في بيروت في العطلة الانتصافية طالباً موسمياً لصيف 1948 Summer school لتقوية لغتي الانكليزية بالجامعة الاميركية . فكلفني بمسؤولية ناموس مساعد لناموس عمدة الداخلية الرفيق شاهين شاهين .

رافقت الامين الياس في الليل والنهار وكل الاوقات حيث لا حدود عنده لليل او لنهار او للفصول والاسابيع ، دؤوب دؤوب حتى الثمالة او حتى يسقط من الاعياء وهو يتابع عملاً حزبياً لا يرتاح ولا يتوقف حتى ينهيه .

اعجب بقدرتي على تحمل مرافقته ، فتقلصت فترات افتراقي عنه ، وكنت ازوره مطلع الخمسينات ببيته المتواضع في احد بساتين منطقة الحمراء يوم كان شارع الحمراء ممراً للسيارات قبل ان تقوم العمارات بما فيها عمارة الـ A.B.C ومكتبة انطوان وما وراءها .

رافقته في رحلات العمل الحزبي وزيارة المنفذيات . وحتى الان لا اعرف لماذا علينا ان نزور فرع الحزب في العبادية في قلب الشتاء وفي قلب الليل ونقطع المسافة مشياً من الطريق العام الى بيت انيس ابي رافع نمشي بحذر وببطء حتى لا نزحط فوق الثلج المتراكم .

ذات يوم سبت في 22 آذار 1948 ، رافقته برحلة حزبية الى بلدة قطنا قرب دمشق حيث لنا فرع نشيط ومسؤول قدير هو رامز حنيف .

واقرأ في مفكرتي عن ذلك اليوم " وعند نزولنا من السيارة حدث امرٌ كان مفتاحاً الى سلسلة من الاحاديث عن الوضع العام . وكانت من قبلي صراحة مطلقة وكان من العميد ثقة كبيرة واشترك الرفيق رامز حنيف بقسط من الاحاديث عن الوضع العام وافاد كثيراً ، وضعت رؤوس اقلام لتقرير شامل بناء على طلب العميد " .

لماذا التقرير الشامل ؟ لان الياس جرجي كان يكره الحكي والسوالف ويطلب دائماً توثيق الكلام بالكتابة . ولذلك كانت اجواء الحزب بعيدة عن الشائعات والدس واللت والعجن في تلك الايام فانهيت له التقرير " مساء هذا اليوم حوالي منتصف الليل تقريباً وهو تقرير شامل واضح وإن كان بالنسبة للواقع يكاد يكون مختصرأ وهوفقط 6 صفحات " كما جاء في مفكرتي يوم الثلاثاء 25 آذار 1948 .

وكما تقول المفكرة سافرت مع الياس جرجي عميد الداخلية الى بيروت ولم انس الى الان اصراره على سفري معه الى بيروت وقابلته في اليوم التالي كما تقول المفكرة : " وبعد ذلك ذهبت معه لمقابلة حضرة الزعيم . اجتمعت بالزعيم وكان يلبس لباساً صيفياً خفيفاً وتتجلى الديموقراطية الصحيحة بأحلى معانيها في قسماته ولباسه وحياته . وهذه المرة الثالثة التي اقابل بها حضرة الزعيم ولكن هذه المقابلة هي غير تلك المقابلات ، وتختلف عنها كثيراً وقد تركت في نفسي اثراً كبيراً جداً . وقد نلت منه وساماً كبيراً وعظيماً جداً ، لقد نلت ثقته وهذا اعظم وسام . بعد الظهر سافرت الى دمشق برفقة عميد المالية " .

واتذكر اليوم وبالكثير من الوضوح ما حدث حين صعد سعاده الى مكتبه في البيت الذي دشن بلوحة تذكارية منذ سنوات في رأس بيروت ، وكان الامين الياس يجلس وراء مكتبه الصغير في غرفة صغيرة على اليسار من المدخل الرئيسي الى جانب غرفة الزعيم . وبعد خلوة قصيرة للامين الياس مع الزعيم خرج ودعاني للدخول ، وبقي هو في مكتبه خلال المقابلة التي استغرقت حوالي الساعة كنت اتوقع دخول الامين الياس في كل لحظة واشتراكه في الحديث ، الا ان الامين الياس لم يدخل ولم يشترك بالحديث ولم يسألني لا بعدها ولا حتى اليوم عما دار بيني وبين الزعيم ، وفهمت انها رسالة وتوجيه لي من الزعيم عن مدى ضرورة التزامي بسرية ما كلفني به .

كانت رسالة الزعيم واضحة لاهمية العمل الموكل اليّ ولا يعرف به حتى الامين الياس . مع ان الامين الياس هو الذي رشحني للزعيم . ويومها تسلمت مسؤولية م. ا.م . بدمشق التي كانت تعرف حزبياً في وسط ضيق جداً بـ " مام " " مكتب الاستطلاعات المركزي " ويرأسه ابراهيم يموت ويعاونه خالد جنبلاط ووديع الاشقر الذين تراسلت معهم اشهراً طويلة وانا لا اعرف ايا منهم معرفة مباشرة وقتها .

ذلك هو الياس جرجي عميد الداخلية النموذجي الازلي لا وقت عنده للاكل ولا وقت عنده للنوم ولا وقت عنده للراحة ، عنده وقت للحزب وعلى من يكون معه ان يعمل مثله . وقد جاريته بامتياز فأحبني كما احببته وقرّبني اليه وتدربت على العمل الاداري وعلى الصبر على يديه .

لا يمكن الحديث عن تاريخ تأسيس الحزب واستمراره ورسوخه وتجذره في الارض دون المرور على ذكر الياس جرجي . في كل قرية وفي كل دسكرة وفي كل عاصمة وفي كل بلدة في الوطن وعبر الحدود يتواجد للحزب فرع او تنظيم نجد له فيه اثراً وله منه قصة وله طرفة واكثر من طرفة .

ذات مرة استدعى عدداً من الاعضاء المنكفئين عن العمل والمبعدين ، خلال جولته الى البرازيل ، وفي ختام الحديث وبعد ان افرغ كل ما في جعبته وموهبته من حجج لعودتهم الى العمل ، اجابه احدهم " حضرة العميد نرجو ان تدعنا كما نحن خارج التنظيم فذلك اكثر فائدة للحزب لاننا نستطيع خدمة الحزب اكثر وبشكل افضل ونحن خارج الحزب " فما كان من الامين الياس الا ان قال له : " دخيلك دلني على هالسر كيف فيكم تخدموا الحزب وتفيدوا اكثر وانتو برا يمكن نحنا منعمل متلكن ومنطلع من الحزب ومنخدموا من برا اكثر " .

ذات يوم اتمنى ان تسمح لي الظروف بأن اروي " قصة " تسلمه رئاسة المحكمة الحزبية العليا واستقالته ايام رئاسة يوسف الاشقر في بداية التسعينات .

كان كبيرا بقدر ما كان من اساؤوا اليه صغاراً واقزاماً . رحل عنا وهو يسكن قلوب القوميين الاجتماعيين . من عرفه منهم تألم لفراقه ومن لم يعرفه تألم اكثر لأنه لم يتعرف عليه .

جيلنا والاجيال التي عرفته لن تنساه ولن ننسى ان ابتسامته الدائمة على انه في وضع مريح ، يا طالما اخفى كثيراً من الآلام والاحباط وراءها .

حكاية الياس جرجي مع الحزب هي تماماً حكاية الحزب مع عضو لم يكن كباقي الاعضاء .

حكاية تفسرها تلك الجموع التي حضرت تلقائياً لتشارك في وداعه ، من القامشلي الى صور ومن الميادين الى طرابلس وكل ما بينهما من مدن وبلدات وقرى ، في الساحل وفي السهول وفي الجبال في كل الكيانات السورية.

سكن القلوب بوداعته واشاع الابتسامات في احلك الظروف ونسي نفسه تماماً خلال ستين عاماً واكثر ولم ينس حزبه ولا دقيقة واحدة . حتى الاهداء على صورة له بحجم كارت بوستال قدمها لي عام 1949 " كان محاضرة حزبية ".

وبعد قد لا تكفي عشرات الصفحات لتسجيل مآثره وجهاده ونضاله وطيبته وعفويته وكل ما مرَّ به من مآس وافراح ومن انتصارات وانكسارات ومن نجاحات وخيبات ، ومن نسور ومن ثعالب ومن اصدقاء ورفقاء ومن فريسيين ويوضاسيين . ولكنه يبقى ابداً هو من التّف " الجميع " حول نعشه في الوداع الاخير . وهو لن يتكرر .



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024جميع المقالات التي تنشر لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع