شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2008-09-01
 

قرطاجنة والتواصل الحضاري القديم بين مشرق الوطن العربي ومغربه

محمد خليفة

تشكّل قرطاجنة رمزاً للتواصل الثقافي والحضاري بين مشرق الوطن العربي ومغربه منذ أقدم العصور . فهذه المدينة ليست الآن سوى أطلال وآثار خاوية على عروشها. كانت في الماضي السحيق الغابر مركز الإشعاع الحضاري في حوض البحر المتوسط والعالم . وتعزو الروايات القديمة إنشاء هذه المدينة إلى إليسا أوديدو ابنة ملك صور ، فتقول ، أن أخاها قتل زوجها ، فأبحرت مع طائفة من المغامرين الفينيقيين إلى أفريقيا ـ قرب مدينة تونس ـ وسمّي المكان الذي استقرّت فيه بـ"كارت هدشت" أي "المدينة الجديدة" ثم حوّل اليونان هذا الاسم إلى كارشدون ، وبعد ذلك بدّله الرومان إلى كرثاجو ، كما أطلق الرومان على أهلها اسم الساميين ، كما كان يسمّيهم اليونان . وهاجر الكثير من سراة أهل صور إلى أفريقيا عقب حصار شلما نصر ونبوخذ نصر البابليين ، والاسكندر المقدوني لمدينتهم ، واستقر معظمهم في قرطاجنة ، فأصبحت بسبب هذه الهجرة مركزاً جديداً للتجارة الفينيقية. وأخذت هذه المدينة تزداد قوة على مرّ السنين ، ولما أحسّ القرطاجيون بالقوة ، استولوا على كل تونس ، وأصبح لهم ضياع واسعة كان يعمل في بعضها ـ كما يروي الرواة الأقدمون ـ عشرون ألف رجل . وشقّوا فيها القنوات وأخصبوا الأرض وأنشأوا حدائق ذات بهجة ، وحقول من القمح والكروم ، وبساتين تنتج الزيتون والرمان والكمثرى والكرز والتين ، وربّوا الخيل والأنعام والضأن والمعز ، واستخدموا الحمير والبغال في حمل الأثقال . وكان القرطاجيون يجوبون الأقطار ويقودون بغالهم شرقاً وغرباً ، ويضربون في قفار الصحراء طلباً للفيلة والعاج والذهب والعبيد . وكانت سفنهم تحمل البضائع من مئات الموانىء بين آسيا وبريطانيا في أقصى شمال أوروبا . وسرعان ما تحوّلت قرطاجنة من مدينة إلى إمبراطورية حيث أصبحت تمتلك الجيوش الضخمة والأساطيل الكثيرة التي مكّنتها من الاستيلاء على ساحل البحر المتوسط الجنوبي كله . كما استولت على جبل طارق وسواحل إسبانيا والعديد من المدن الإسبانية في الداخل ، وتملّكت جزر البليار ومالطة وسردينية وكروسيكا وصقلية . واستغلت قرطاجنة هذه الإمبراطورية استغلالاً جعلها في القرن الثالث قبل الميلاد أكثر مدائن البحر الأبيض المتوسط ثراء . وبرز في قرطاجنة شخصيات كبيرة مثل هملكار ، وهزدروبال ، وهنيبال ، والتي تنبع عظمتهم من الوصول بقرطاجنة إلى أعلا أمجادها . وذلك بفضل انتصاراتهم الكثيرة والمدوية على الرومان الذين كانوا آنذاك قوة كبرى في أوروبا والعالم القديم . وقد تولى هملكار الحكم حوالي عام 247 قبل الميلاد ، ويلقّب "بهملكار برقة" أي الصاعقة ، لأنه كان من طبيعته أن يعجّل بضرب عدوه ويفاجئه حيثما وجده . وتوفي هملكار وهو يقود جيشه في إسبانيا نحو أوروبا عام 229 قبل الميلاد ، وترك وراءه في معسكره هزدروبال زوج ابنته والذي أختير قائداً محله وأولاده هنيبال ، وهزدروبال ، وماجو . وظل هزدروبال ثماني سنين يحكم البلاد بحكمة وسداد ، كسب في أثنائها معونة الإسبان ، وأقام بجوار مناجم الفضة في إسبانيا مدينة عظيمة يعرفها الرومان باسم قرطاجنة الجديدة ، وهي مدينة قرطاجنة الباقية إلى اليوم . ولما أغتيل في عام 221 قبل الميلاد ، اختار الجيش هنيبال أكبر أبناء هملكار لقيادته ، وأدرك هنيبال أن روما الطامحة لن تترك دولته تعيش بسلام ، بل ستعمل بشكل دائم على زعزعة أركانها ، فقرر أن يباغتها بالحرب ، فجهّز جيشاً كبيراً ، وعبأه في الأسطول إلى إسبانيا ، ومن هناك انساب بجيشه نحو أوروبا . فعبر جبال البيرينيه في عام 218 ، ووصل إلى فرنسا ومن هناك اتجه بجيشه نحو جبال الألب ، وبعد أن قضى مع جيشه سبعة عشر يوماً في الصعود والهبوط ، وصلوا إلى السهول ، ومن ثم اتجه بجيشه جنوباً نحو إيطاليا ، ودارت بينه وبين الرومان حروب كثيرة انتصر في معظمها عليهم ، ووصل على أبواب روما وضيّق الخناق عليها ، ودامت حروبه في أوروبا ستة عشر عاماً . ولما يئست روما من الانتصار عليه قررت ـ كمحاولة أخيرة ـ أن تحتل قرطاجنة نفسها . فوجّهت جيشاً بقيادة سيبو في عام 205 إليها ، ولما علمت قرطاجنة بذلك ، أرسلت إلى هنيبال أن يعود إلى بلاده ليدافع عنها . وبعد أن وصله الخبر ، تفكّر في أمره هل يعود ويترك خلفه كل تلك الانتصارات التي حققها أم يواصل انتصاراته . ولكنه رأى ، في النهاية ، أن سقوط قرطاجنة في أيدي الرومان سيكون كارثة حقيقية . فعاد وهو غير مقتنع بالعودة ، وبادر إلى حشد جيش جديد ، وسار على رأسه لملاقاة سيبو عند زاما على بُعد خمسين ميلاً جنوبي قرطاجنة عام 202 . وهناك دارت رحى معركة هُزِم فيها هنيبال للمرة الأولى في حياته ، وأفلت من الأسر وسار على ظهر جواده إلى قرطاجنة ، وأعلن أنه لم يخسر الموقعة ، بل خسر الحرب كلها . وكانت هذه الهزيمة بداية نهاية قرطاجنة ، حيث وضع الرومان يدهم عليها ، وخسرت إمبراطوريتها واستقلالها . وشيئاً فشيئاً ذوت هذه الدولة العربية العظيمة وذوت معها أمجاد العرب الذين بنوها . لكن محاسن قرطاجنة لم تنتهِ بانتهائها ، فبانوها العرب العظام ظلوا في أرضهم يتناسلون جيلاً بعد جيل ، فكانوا رسل العروبة إلى بلاد المغرب العربي . فلما جاء الفاتحون العرب المسلمون ، عادت لهؤلاء هويتهم العربية التي غيّبها الرومان أكثر من ستمائة سنة . وعادت تونس وباقي بلاد المغرب العربي الأخرى حرّة عربية .

إن الاستشهاد بهذه الوقائع التاريخية بصورها وظلالها المتنوعة في سمة العنف والتتابع في الماضي والتي تطوف بتاريخ هذه الأمة بعوالم شتى كليهما يُعدّ مؤشرات لإيقاظ القلب البشري والعربي واستجابته لمعرفة حقيقة عظيمة وهي أن ماضي الأمة العربية قام على أساس عالماً إنسانياً متناسقاً مع جميع أبناء البشر موصولاً مع جميع القادات والأجناس مهتدياً بالفطرة والاستقامة القائمة على الحق والعدل في بناء هذه الحياة من أجل خير الإنسانية جمعاء .



 

جميع الحقوق محفوظة © 2025 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه