شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2010-09-16
 

سعيد تقي الدين في الحزب القومي: لنصرك يا سورية هذا القليل !!

أنيس أبو رافع

رغم "الأعمال الكاملة" لسعيد تقي الدين، التي صدرت عند "دار النهار لنشر"، ورغم كل التعليقات التي كتبت عنه وعن آثاره، اعتبر أن هذا الإنسان ظل مجهولاً في زوايا عديدة من حياته وفكره ونضاله وممارساته، ورغم كل ما نُشر لاحقاً عنه من رفقائه، ومع أن سعيد تقي الدين كتاب مفتوح تقرأه وتعرفه من خلال ما كتب ونشر من إنتاجه وابداعاته، وإضافة إلى ما كُشف من رسائل ومقابلات ومقالات لم تعرف سابقاً وبيانات لم تنشر، أو نشرت على نطاق محدود جداً، ولم ترد في "الأعمال الكاملة"، يعطي لهذه الشخصية النادرة أبعادها الحقيقية، وصفاتها الكاملة، ويضيف إلى معلوماتنا عنه كمّاً ضخماً من المعلومات الجديدة، وثروة طائلة من الأفكار والأقوال والمواقف التي ميزت سعيد وتميّز بها عن جميع معاصريه أدباء وساسة ومفكرين ومصلحين اجتماعيين.

هامة شامخة

وإذا أردنا أن نلخص "سعيد تقي الدين في الحزب القومي" نصل إلى الاستنتاجات التالية:

أولاً: إن سعيد تقي الدين كان قومياً إجتماعياً قبل دخوله الحزب، خصوصاً في أفكاره الإصلاحية. وأنه أصبح سورياً قومياً اجتماعياً بعد إطلاعه على مبادئ الحزب وغايته.

ثانياً: إن سعيداً كان صارماً مع نفسه، صارماً مع الآخرين، حاسماً قاطعاً، لا يهادن، لا يساوم، لا يرضى إلاّ بالأمثل والأكمل، وهكذا كان سعاده

ثالثاً: عندما قال إنه وصل إلى نقطة اللارجوع، شكك الكثيرون في قوله هذا وانتظروا أن ينحني أمام العواصف التي هبت عليه من كل ناحية ولكنه... كان قد وصل فعلاً إلى نقطة اللارجوع فمرت كل العواصف من تحت قدميه ولم تمس هامته العالية الشامخة.

رابعاً: أن سعيد تقي الدين الأديب لم يغيّبه سعيد تقي الدين الحزبي الملتزم، العقائدي، السياسي، الصحافي، ففي كتاباته العقائدية والسياسية من الأدب ما يفوق كتاباته الأدبية الصرف.

خامساً: نتعرف إلى سعيد من آثاره المجهولة أكثر من تعرفنا إليه من خلال أعماله الكاملة المطبوعة. وذلك لأن الإنسان يعرّف عن نفسه في المواقف الحميمة والخاصة والمباشرة والصريحة أكثر مما يعرّف عن هذه النفس في كتاباته المجرّدة، مهما كانت هذه الكتابات لصيقة بحياته وفكره وسلوكه وتصرفاته. ومهما كانت معبّرة عن قناعاته واتجاهاته الفكرية والنفسية والاجتماعية.

إنجازات

وليُسمح لي أن أضيف، إلى ما كُشف من جديد عن سعيد لمسات سريعة تضيف إلى كنوزه الثمينة في خوابيها المعتقة، هذه البحصة التي قد تسند إحدى خوابيه.

أول لقاء لي مع سعيد كان في صافيتا، حيث كنا نقدم مسرحيّة "نخب العدو" في ثانوية الحريّة، واحدة من تسع ثانويات كانت للحزب في محافظة اللاذقية. وألقيت كلمة تقديم للمسرحية وله. لا أدري لماذا أخذتني رهبة في الثواني الأولى فبدا صوتي مرتجفاً، ولاحظ ذلك. بعد الاحتفال ناداني وقال لي، وهو يشد على يدي، كلمتك جيدة، ولكنك بدأت مضطرباً قليلاً، اسمع: كي لا تضطرب أبداً تذكّر وأنت تصعد المنبر أن الجمهور الذي سيسمعك من صباطك ونازل (عفو الجمهور الكريم، ولكن هذا هو سعيد، فما حيلتي.

ملأ الدنيا وشغل الناس أدباً وصخباً وحركة وحيوية وإنجازات ليس أهمها نادي متخرجي الجامعة الأميركية ولجنة كل مواطن خفير... وغيرها الكثير، وكل ذلك يوم كان اسمه سيدنا الشيخ سعيد تقي الدين.

الجندي الملتزم

ثم رأيته، وقد انتظم في صفوف الحزب، ليل الثامن من تموز، الساعة الثالثة فجراً يسير في الصف الرباعي المرصوص، يدخل مقبرة مار الياس لزيارة ضريح الزعيم منتصب القامة قوي الخطوات رابع المنكبين كأي جندي في العشرين من عمره.

ورأيته وقد جلس في اجتماع المديرية في رأس بيروت دون تدخين هو الذي لا تفارق اللفافة شفتيه لحظة واحدة ما دام مستيقظاً، رأيته وعيناه تدمعان من شدة الضيق، ولا يرضى أن يستأذن ليخرج أو أن يخالف النظام.

وسمعته يقول لفؤاد مغبغب والد نعيم مغبغب: إني سأنتخب نعيم تنفيذاً لأمر حزبي، ولو كان الأمر لي لما انتخبته.

لم يحدث لأي أديب أو مفكر في لبنان أن أحيط بهذا العدد الضخم من المعجبين والمادحين والمرحبين من أعلى المستويات حتى أوسطها، ولا أقول أدناها.

ثم رأيته ورأيناه جميعاً، يتخلى عن جميع هؤلاء، عندما آمن بالعقيدة القومية الاجتماعية واعتنقها، وأصبح عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

ورأيته ورأيناه يرفض أن يكون عضواً سرياً في الحزب، إنسجاماً منه مع نفسه، رافضاً أن يسمع انتقاد الناس للحزب، وما أكثرهم، دون أن يتمكن من الدفاع عمّا يؤمن به. فكشف عن جبينه وأطلق صيحته المدوية التي هزت البلاد وأثارت العواصف والزلازل حوله دون أن يرتعش له جفن أو تهتز في جسمه شعرة. لقد اختار طريقه واكتفى.

كنت محرراً في جريدة "صدى لبنان" لصاحبها نقيب الصحافة الأستاذ محمد البعلبكي، وكنت في الوقت ذات ناموساً لعمدة الإذاعة مع الرفيق الغالي الراحل نعيم عبد الخالق، وكان سعيد عميداً للإذاعة.

مواجهة الكارثة

وقعت حادثة المالكي.. وانفجرت الكارثة في وجه الحزب، وانهالت عليه الاتهامات والتجريح والتحريض من كل جانب.

وفجأة تجمهر سعيد تقي الدين وقفز إلى الساحة محرراً ومعلقاً وكاتباً وسياسياً وإدارياً وثائراً وحزبياً وإعلامياً ومقاتلاً... حتى استطاع، وحده، أن يوقف دولة بكامل أجهزتها، موقف الدفاع عن النفس من خلال جريدة "صدى لبنان" وحدها، مقابل مئات الوسائل الإعلامية الرسمية والخاصة في لبنان وكافة العالم العربي.

رافقته شهوراً عديدة، ليلاً نهاراً، يقاتل وهو يبتسم، يغضب وهو يقهقه، يشتم وهو يصافح، يكتب ويتحدث ويشرب ويدخن في لحظة واحدة.

عندما ينتهي عملنا في صدى لبنان الساعة الثانية صباحاً، يبدأ عملنا في شوارع بيروت وأزقتها وفنادقها وملاهيها نطارد جواسيس عبد الحميد السراج وعملاءه، اعتماداً على معلومات سعيد (من أين جاء بها وكيف؟) لا نعرف ولكنه في 90% من الحالات كان على صواب. وكانت المهمات التي يكلفنا القيام بها مهمات حقيقية ولها نتائج ملموسة.


فكم قبضنا على جاسوس وكم هرّبنا متعامل، وكم جاءه رجاءنا، رجال يبرئون أنفسهم ويضعونها في تصرف سعيد تقي الدين.

جرأة وإقدام

كلمة جرئ لا تكفي لتعريفه، وكلمة صادق لا تكفي لوصفه، وكلمة شجاع صغيرة أمام جرأته وإقدامه.

كانت كلمته حياته، لكي تعرفه إقرأه. هو هو ينطلق من ذاته، يعبّر عن ذاته ويحترم هذه الذات.

كتب يمدح إنساناً عندما تعرف إليه، واكتشف بعد ذلك أنه أخطأ في تقييمه، فلم يكتب كلمة ضده، وكان يتميز حنقاً وغيظاً لأنه لا يستطيع أن يكتب ضده،! احتراماً لنفسه ولكلمته ولحزبه.

فوق القانون، عندما يتضارب القانون مع القيم الوطنية والأخلاق والمبادئ.

بعد دخوله الحزب منعت عنه كل المشاريع التي كان يمكن أن يحصل عليها مع شريكه.

جاءه يوماً هذا الشريك متهللاً:

- سعيد، يوريكا... وجدتها.

- وأجاب سعيد: ما هي التي وجدتها؟

- لقد انحلت مشكلتنا المالية.

- سعيد: خير، كيف؟

- اهتديت إلى مصدر تجاري ربحه مضمون وكبير.

- جيد جداً، ما هو؟

- نستورد بضائع من قبرص بأسعار بخسة جداً ونبيعها هنا بأسعار عالية.

- سعيد ولماذا بخسة جداً؟

- بيني وبينك، البضاعة إسرائيلية ولكن معها شهادة منشأ قبرصية.

- سعيد: ماذا تقول؟ أجننت؟ تريدني أنا أن أروج بضاعة إسرائيلية في بلادي، تريدني أن أساهم في دعم اقتصاد إسرائيل؟

- ليس هناك مشكلة يا سعيد، فالمسألة شرعية جداً، وهي ضمن القانون.

- سعيد: وإغراق الأسواق العمومية ضمن القانون، أرسل أختك إلى هناك.

كانت كلمته حياته، الصدق، الرجولة، الإنسجام مع الذات، الاستشراف. كتب عن كل الذين تعامل معهم بصدق وصراحة دون مراعاة لأي اعتبار إلاّ كلمة الحق والموقف الحق.

كان يغضب من الذين بنى عليهم آمالاً خيبوها. ويصل به الغضب إلى حد الانفجار... ضحكاً. أليس هو القائل، بعض أنواع الجليد يشتد صقيعه فيمسي ناراً محرقة.

تحدث عن الرئيس الراحل كميل شمعون وكيف كان يتعامل مع الحزب، يعطي بيد ويأخذ بالثانية، ناسياً كل وعوده والتزاماته، لم يعط الحزب رخصة، لم يفرج عن الأسرى إلا بعد مماطلة طويلة، وقد كنت شخصياً أحد ضحايا هذه الطريقة في التعامل:

كنت مندوباً مركزياً للحزب في الجنوب، وكان ممنوعاً على من هم من خارج المنطقة أن يمكثوا فيها أكثر من ثلاثة أيام، على أن يدخلوا بترخيص.

كنت أخالف هذا النظام فاعتقل وأؤخذ إلى قائد المنطقة الضابط فؤاد مروّد. يتصل الرفيق حسن مرتضى منفذ صور حينذاك بسعيد ويتصل سعيد بكميل فيفرج عني، ولكن لا يقول كميل شمعون دعوه يتنقل بحرية، بل اُعتقل الأسبوع التالي... لنعود إلى نفس الإسطوانة يتصل حسن بسعيد يتصل سعيد بالقصر... يفرج عني ثم اعتقل.

كان يبيع الحزب هذا الإحراج كل يوم.

تعامله مع مالك

ولعل أطرف الأمثلة على تعامله مع الذين خيبوه هو علاقته بالمرحوم الدكتور شارل مالك.

كان يجله ويحترمه، بدأ يتغير نحوه عندما ترشح الدكتور مالك للانتخابات النيابية في الكورة، وتصرف كأي مرشح تقليدي جاهل. أو كما قال سعيد: كأي شمدص جهجاه. وعلى الرغم من أن الحزب وقف إلى جانبه، فإنه لم يسلم من تعليقات سعيد، ولعل إحدى أروع تشنيعاته تلك التي ركبّها عن الدكتور شارل مالك. قال سعيد:

أثناء المعركة الانتخابية، جاءت امرأة إلى مكتب الدكتور مالك الانتخابي تصطحب ولداً في العاشرة وطلبت أن تقابل الدكتور. فقالوا لها:

ماذا تريدين منه.

قالت: خلّي يفحص هالصبي، الو يومين مريض.

فقالوا لها: يا سيدة، الدكتور شارل مالك ليس طبيب صحة أنه دكتور في الفلسفة.

فقالت المرأة: خلي يفحصو بلكي معو فلسفة!!

من يستطيع أن يفسخ عقداً بين اثنين من طرف واحد؟ وهل فصله من الحزب يفصله من العقيدة؟

إنه... سعيد

كلمة في رسالة تجعلك تشعر أنها رسالة في كلمة. آخر كلمة كتبها: لنصرك يا سوريا هذا القليل!

سعيد تقي الدين لم تفارقه طفولته، وكان أبرز ما يعبر عنها تلك الضحكة الطفولية المجلجلة التي قلما تفارقه.

لا أدري إذا كنت أنصفت سعيد تقي الدين فإني حاولت أن أضيف نقطة إلى بحر في أنصافه. وأتمنى أن أكون قد وفقت.

إنه أكبر من أديب، وأعظم من قصاص وأعمق من مفكر، وأخلص من مواطن، وأبعد من مسرحي وأهم من عضو حزبي منتظم.. إنه سعيد تقي الدين.

*الرفيق أنيس أبو رافع صحافي وأديب ومربّ معروف. أسس ثانوية الأرز (ضهر الوحش- عالية) واستمر على رأسها يخرّج أجيالاً من الطلبة إلى ان اندلعت الحرب المجنونة، فتوقفت بعد أن أصابها الدمار. تولى في الحزب مسؤوليات حزبية عديدة كان فيها مجلياً وصادقاً في التزامه.

موقع مرمريتا





 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه