شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2010-10-28
 

ردّاً على أسعد أبو خليل: عن جبران ولبنانيّته ونيتشه

كمال ديب

قرأت مقالة الدكتور أسعد ابو خليل ("جبران خليل جبران: أساطير التفوّق اللبناني"، الأخبار 17/10/ 2010) وجدتُ فيها فائدة ولفتت نظري بعض النقاط التي تستحق الردّ (آخذاً في الاعتبار النقاط التي تناولها طارق الشدياق رئيس لجنة جبران الوطنيّة في الأخبار 23/10/ 2010).

نقص في أدوات التحليل

أواظب على قراءة مقالات الدكتور أبو خليل في «الأخبار» لما فيها من جرأة وجدّة وألتقي معه في ضرورة التصدّي لنظام البطريركية العربية وما ينضح عن هذا النظام من حكم عائلي وفساد وغياب للديموقراطية. ولكنّي أتوجّس عندما يتشعّب قلمه ليلج مواضيع خارج التحليل السياسي الذي أثبت قدراته الفكرية فيه. فهذا التوسّع ــ خاصة في الثقافة والأدب ـ بدا ضعيفاً. وكان هذا واضحاً في تعرّضه لموضوع شائك ومعقّد كجبران خليل جبران، أبرز من مثّل النهضة الثقافية العربية، بأسلوب التهكّم من "أسطورة التفوّق اللبناني"... فكان فوقيّاً في مقاله عن جبران الذي يقول إنّه قرأه في طفولته وحسب، وأدرك ضآلته عندما نضج. وهكذا لم يترك أبو خليل حرمة وحدوداً لما يقدّمه لبنان (كتب الدكتور أبو خليل: "لماذا هذا الهوس اللبناني بقصّة جبران؟ ولماذا تحوّلت حياته المتواضعة دليلاً آخر على التفوّق اللبناني المزعوم؟... يصرّون في لبنان على أنّ كتابه «النبي» يبيع أكثر من الكتاب المُقدّس"، الخ). هنا أدعو الدكتور أبو خليل إلى التعمّق في المواضيع غير السياسية وحصر نظريته عن "أسطورة التفوّق اللبناني" ضمن أمور مقبولة.

في تقليد جبران لنيتشه

ثم يكتب الدكتور أبو خليل: "لكن جبران يصبح شخصاً آخر بعد أن ينضج المرء وتنضج قراءاته. أين يصبح كتاب «النبي» بعد أن يقرأ المرء كتاب نيتشه «هكذا تكلّم زرادشت»؟"...

لم يخرج جبران بكتابه من فراغ، بل تشرّب بعض الفلسفة الغربية والكثير من روحانية الشرق. لقد زرتُ متحف جبران في بشرّي، وفي إحدى الغرف رأيت مكتبة فيها كتبه العتيقة التي طالعها في حياته، ومن ضمنها كتب عن الفلسفات والديانات الهندية والصينية.

صحيح أنّه تأثّر بالفيلسوف الألماني فردريش نيتشه وكتابه «هكذا تكلّم زرادشت»، والتأثيرات النيتشيّة واضحة في معظم ما كتبه جبران وليس فقط في النبي، ولكن جبران بدأ عمله على كتاب النبي قبل سنوات عدّة من قراءته لكتاب نيتشه. لقد أخذت أفكار كتاب النبي تتبلور منذ 1903 ولم يُنجزه جبران ويدفعه للطبع سوى في العام 1922 وكان جبران يفكّر في نصوص عدّة هي خلاصة استنتاجاته عن الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة والشعراء. وحسب كل المراجع، فهو لم يقرأ كتاب نيتشه قبل 1911. وكتب جبران عام 1913 وهو في سن الثلاثين: "نيتشه أخذ أقواله من روحي. جنى فاكهته من نفس الشجرة التي جذبتني".

أمّا عن مدى الاقتباس، فالدليل العلمي هو أنّه اقتصر على الشكل. فقد كتب الأديب المصري ثروت عكاشة، أحد مترجمي النبي إلى العربية: "إذا كان جبران قد حاكى في كتابه النبي نيتشه في كتابه «هكذا تكلّم زرادشت»، فقد حاكاه في الشكل لا في المضمون. فكما اتخذ نيتشه من زرادشت وسيلة لإذاعة آرائه، كذلك اتخذ جبران من "المصطفى" في النبي وسيلةً للتعبير عن أفكاره واتجاهاته. وكما أجرى نيتشه على لسان زرادشت حِكَماً وأمثالاً، كذلك أجرى جبران على لسان المصطفى سلسلة من العظات".

ينطلق ابو خليل من نقده لكتاب النبي وكأنّه يتعاطى مع أطروحة فلسفية أو كتاب سياسي (يقول عن جبران: "كانت كتاباته عن الحريّة خالية من أي مضمون سياسي"). وهذا صحيح إلى حدّ ما، إذ في حين تحتّل مواضيع الاجتماع السياسي قسماً كبيراً من كتاب نيتشه، نجد هذا الأمر غائباً من كتاب جبران. ولكن كتاب النبي أكثر مؤلفات جبران شهرة في لبنان والعالم العربي وسائر أنحاء العالم، ليس دراسة بل مجموعة نصوص أدبية قصيرة تحاكي لغة الانجيل، ومن الإجحاف التعامل معها من حيث مضمونها السياسي (وإن نوافق الدكتور أبو خليل جواز المضمون السياسي في كل شيء ولكن ليس صحيحاً أنّ جبران لم يكن "ملتزماً"، بل أنّ كتاباته اليوم لا تزال توحي بثوريته المتقدّمة وكأنّه كان يكتب للعام 2010 وليس للعام 1910)...

حول انتشار مؤلفات جبران

يقول الدكتور أبو خليل: "تستطيع أن تتبيّن مقاس جبران وحجمه بعد أن تأتي إلى الولايات المتحدة. ماذا تكتشف؟... الرجل غير معروف إلا من القلّة التي تحب الشعر المنثور والكلام المُنمّق... لكنّ جبران يا ناس لا يُدرّس في أي جامعة غربيّة في باب الأدب الإنكليزي. لا ترتقي كتابات جبران إلى مصاف الأدب، بالمعيار الأكاديمي".

الواقع أنّه قد بيع من كتاب النبي فقط وفي الولايات المتحدة وحدها تسعة ملايين نسخة، وبلغ مجموع مبيع كتبه بكلّ اللغات أربعين مليوناً. فقد حقّق النبي منذ نشره عام 1923 نجاحاً باهراً ثم ظهر باللغة العربية في عشر ترجمات لأدباء كميخائيل نعيمة ويوسف الخال وثروت عكاشة، وكانت آخر ترجمة عام 2007 للشاعر العراقي سركون بولس. وأصبح هذا الكتاب الصغير مشهوراً في أوساط الثورة الشبابية في الستينات في أميركا وبريطانيا وفرنسا...

ويُمكن اقتفاء خطى جبران بأسلوبه وأفكاره إلى أميركا حيث يخصّص معهد يديره الدكتور سهيل بشروئي في واشنطن للدراسات الجبرانية. وجبران بهذا المعنى ابن الثقافة الغربية، ولكنّه أيضاً ابن بيئته العربية في اللغة والعادات والتقاليد والمنشأ، وهذا المزيج جعله يُبدع رسماً وكتابةً بأسلوب لم يكن سائداً لا في الشرق ولا في الغرب.

لبنانيّة جبران ومسيحيّته

يقول الدكتور أبو خليل إنّ الاستاذ طارق الشدياق "أصرّ على أن جبران كان مسيحيّاً مؤمناً، مع أن نعيمة في سيرته كان واضحاً أن جبران رفض تدخّل الكاهن لحثّه على الاعتراف وهو على فراش الموت". كما يثير أبو خليل مسألة قديمة هي لبنانية جبران أو "سوريته".

برأينا، لا يمكن التهوين من ارتباط جبران ببشرّي ولبنان ولا من مسيحيته، وهذا لا يتعارض مع علاقته بالبيئة الجغرافية والعربية:

فقد وُلد في بشرّي عام 1883، ورغم إقامته الطويلة نسبياً في أميركا، إلا أنّ حياته الأولى في بشرّي حتى الثالثة عشرة من عمره لم تبارحه وزيّنت معظم رسومه التي تحاكي المرتفعات وتظهر السماء فيها قريبة، وهذا مشهد مألوف لمن يعرف بشريّ والأرز. والمرء هو ابن قرية قبل أن يكون ابن بلد وابن بلد قبل ان يكون ابن محيط قومي.

أمّا من ناحية مسيحيته، فقد طبعت معظم مؤلفات جبران روحانية مسيحية يضاف إليها مسحة روحانية شرقية آسيوية المصدر. ولا يمكن حذف إيمانه المسيحي. فروحانيته المسيحية التي أنبثقت من تمردّه ضد رجال الدين وممارسات الكنائس في لبنان وسوريا في تلك الفترة كانت من موقع التشبّث بتعاليم المسيح وليس من موقع الملحد.

استعمال جبران مفردات انجيلية في المضمون الفكري عن الحياة والموت واضح في جملته. هيكلية كتاب النبي تُقرأ وكأنّها نص مقدّس، ولذلك فهو يُصنَّف ككتاب ديني ويوضع في قسم الديانات في مكتبات أميركا وكندا وأوروبا. وهو في هيكليته ومضمونه ولغته يشبه الانجيل وأسفار العهد القديم. فيه النثر والأمثلة عملاً بأسلوب المسيح في الانجيل ومليء بالتصويرات المعبّرة. فقراتُه تبدأ هكذا: "الحق أقول لكم"، "يقولون… ولكني أقول لكم"، الخ، بأسلوب فيه من سلطان الكلام ونهائيته وكأنّ المسيح يتكلم. وكذلك البناء الجبراني الذي يعتمد تقطيع النص إلى أبيات أو ما يمكن أن نسمّيه آيات غير موزونة ولا مقفّاة.

* كاتب لبناني مقيم في كندا، صدر له في آذار الماضي كتاب بعنوان "بيروت والحداثة: الثقافة والهوية من جبران إلى فيروز"، بيروت، دار النهار للنشر



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه