شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2011-03-01 |
أنطون سعاده.. زعيم اخترق الزمان والمكان |
«كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكني كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت وشعرت بما شعرت، وذقت ما ذقت مما مني به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ ومنذ وضعت الحرب أوزارها، أخذت أبحث عن جواب لهذا السؤال، وحلّ للمعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق إلى ضيق، فلا تنقذه من دب إلا لتوقعه في جب. وكان أن سافرت أوائل سنة 1920، وقد بعثت الأحقاد المذهبية من مراقدها والأمة لما تدفن أشلاءها. ولم تكن الحال في المهجر أحسن إلا قليلاً. فقد فعلت الدعاوات فعلها في المهاجرين فانقسموا شيعاً. وكانوا كلهم سوريين. ولكن فئة كبيرة منهم خضعت للنعرات المذهبية، فنشأت هناك أيضاً الفكرة اللبنانية التي هي نتيجة بقاء زعامة المؤسسات الدينية وسلطانها ونفوذها. وبديهي اني لم أكن أطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد، كالجهالة التي لا تضر. وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعالة لإزالة أسباب الويل، وبعد درس أولي منظم قررت أن فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حلّ بأمتي وفي ما يحلّ بها. وهذا كان فاتحة عهد درسي المسألة القومية ومسألة الجماعات عموماً والحقوق الاجتماعية، وكيفية نشوئها. في أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقدها في العوامل المتعددة، تنمو نموها الطبيعي في ذهني. وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين، فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح، أما أنا فأردت «حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي». والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق المبهم واضح. وكنت أحاول في جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي اتفق لي الانخراط فيها أو تأسيسها أو الاتصال بها، أن أوجه الأفكار إلى ما وصلتُ إليه، فلم أوفق كثيراً. يمكنني أن أعين موقفي بالنسبة إلى موقف المتزعمين السياسيين من قومي، بأن موقفي أخذ يتجه رويداً حتى ثبت على الأساس القومي، بينما موقفهم كان ولم يزل على الأساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يمكن أن تكون عملاً قومياً. بناء عليه، ولما كان العمل القومي الشامل المتناول مسألة السيادة القومية، ومعنى الأمة لا يمكن أن يكون عملاً خالياً من السياسة، رأيت أن أسير إلى السياسة باختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة، تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها، وتوليد العصبية (Esprit De Corps) الضرورية للتعاون القومي، في سبيل التقدم والدفاع عن الحقوق والمصلحة القومية. ولما كانت دروسي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قد أوصلتني إلى تعيين أمتي تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي، وإلى تعيين مصلحة أمتي الاجتماعية والسياسية، من حيث حالاتها الداخلية، ومشاكلها الداخلية والخارجية، وجدت أن لا بدّ لي من إيجاد وسائل تؤمن حماية النهضة القومية الاجتماعية الجديدة في سيرها. ومن هنا نشأت فيَّ فكرة إنشاء حزب سري يجمع في الدرجة الأولى عنصر الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة المنحطة. فأسست الحزب السوري القومي الاجتماعي ووحّدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة، هي «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة» ووضعت مبادئ الجهة الإصلاحية كفصل الدين عن الدولة وجعل الإنتاج أساس توزيع الثروة والعمل، وإيجاد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن، واتخذت الصفة السرية للحزب صيانة له من هجمات الفئات التي تخشى نشوءه ونموه، ومن السلطات التي قد لا ترغب في وجوده. وجعلت نظامه فردياً في الدرجة الأولى مركزياً متسلسلاً (Hierarchique) منعاً للفوضى في داخله واتقاء نشوء المنافسات والخصومات والتحزبات والمماحكات وغير ذلك من الأمراض السياسية والاجتماعية، وتسهيلاً لتنمية فضائل النظام والواجب. ولقد وضعت كل ذلك وأسست الحزب بصرف النظر عن وجود الانتداب أو عدم وجوده. فالحزب لم ينشأ خصيصاً لأن الانتداب موجود، بل لجعل الأمة السورية موحدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها. ولما كان الانتداب أمراً عارضاً، فإن النظر في موقفه وموقف الحزب منه يأتي في الدرجة الثانية أو الطور الثاني، السياسي. ولذلك فالحزب ليس مؤسساً على مبدأ كره الأجانب (Chauvinisme) بل على مبدأ القومية الاجتماعية. واما ان تطبيق الانتداب قد ساعد كثيراً على انتشار الحزب في مدة وجيزة وقوّى الدوافع على إنشائه، فذلك من المسائل الفرعية التي لها أهميتها المحدودة. وإذا كانت المسألة القومية تتجه بطبيعتها نحو تنازع البقاء بين السيادة القومية والانتداب فذلك أمر من طبيعة القومية وطبيعة الانتداب». (من رسالة أنطون سعاده إلى حميد فرنجية ـ سجن الرمل 10 كانون الأول 1935)
لم يعرف التاريخ رجالاً كثراً ينذرون حياتهم بكل تفاصيلها من أجل قضية آمنوا بها كأنطون سعاده. هذا الرجل الذي لم يؤسس فقط فكرة وحركة تتناولان حياة الامة السورية بأسرها وحسب، بل تعدّى ذلك إلى تأسيس نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن تمثّلت ببناء الانسان الجديد، الانسان المجتمع. ليس غريباً أن يُغتال انطون سعاده وهو أول من حذّر من الخطر الصهيوني، ولم يكن سوى في بدايات شبابه. ليس غريباً على أنطون سعاده أن يكون مشعاّ بالحضور على الرغم من غيابه، هذا الحضور المتمثل بالأجيال الجديدة التي آمن بها منخرطة في حزبه. ولادته ونشأته هو أنطون سعاده، ولد في الأول من آذار عام 1904 في الشوير قضاء المتن، محافظة جبل لبنان، والده الدكتور خليل سعاده الذي كان طبيباً وعالماً وأديباً، فهو من أبرز القادة الوطنيين في المغترب اللبناني في البرازيل. أسّس جمعيات وأحزاباً مهجرية وطنية وقومية عديدة، كما اسّس ونشر صحيفتي (المجلة) و(الجريدة) في سان باولو في البرازيل. أما والدته فهي نايفة داود نصير، من الشوير أيضاً. وكانت أسرة سعاده مؤلفة منه ووالديه بالإضافة إلى أشقائه أرنست، آرثر، وتشارلي وهم الأكبر سناّ منه ليأتي بعده سليم، إدوار وغريس. المدرسة تلقى أنطون سعاده سنة 1909 المبادئ الأولية للقراءة والكتابة في مدرسة الشوير على يد المعلم حنا رستم، ثم أكمل دراسته الثانوية في معهد الفرير في القاهرة عام 1913 وهناك توفيت والدته، أما والده فاضطر إلى المغادرة الى الارجنتين. أما سعاده فعاد مع اخوته الصغار ليعيش في كنف جده حيث أكمل تعليمه في مدرسة الأميركان في الشوير، ثم انتقل عام 1915 إلى مدرسة البلدة الرسمية، ليغادرها إلى مدرسة برمانا عام 1916. سنة 1919، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ترك سعاده وطنه، بعد أن شاهد ما شاهد من آثار المجاعة إبان الحرب، وغادر إلى الولايات المتحدة الأميركية ثم وبتاريخ 7 شباط عام 1921، انتقل إلى البرازيل حيث أسهم مع والده الدكتور خليل سعاده في تحرير جريدة الجريدة ومجلة المجلة. وفي 4 حزيران من العام ذاته، نشر سعاده أول مقال له يعالج فيه شؤون الوطن، ولم يكن عمره آنذاك قد تجاوز السابعة عشرة. لم يكمل أنطون سعاده تعليمه الجامعي، لكنه درس على نفسه حتى أصبح يتقن عدداً من اللغات من بينها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية، ما أفسح له من خلال اتقانه هذه اللغات الحية أن يكمل على نفسه التعمق في العلم والفكر الإنساني في عدة اختصاصات شملت التاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية وعلوم الإنسان والأدب. أسّس سعاده في البرازيل جمعية سريّة للعمل على توحيد سورية الطبيعية أسماها: «جمعية الشبيبة الفدائية السورية»، كما انخرط في عدة جمعيات لهذا الغرض، وانضم الى المنظمة الماسونية العالمية، إلّا أنه استقال منها بتاريخ 24 أيار 1926 موجهاً رسالة بهذا المعنى الى رئيس وأعضاء محفل «نجمة سورية» ولاحقاً في 10 أيار 1949 وجّه بلاغاً إلى القوميين الاجتماعيين حذرهم فيه من الماسونية، قائلاً: «الماسونية جمعية انترناسيونية لها أهداف مستترة غامضة تحت شعار حرية أخاء مساواة». لكنه وجد أن النضال الفعلي إنما هو الذي ينطلق من داخل الوطن لا من المهجر بعد تأسيسه أيضاً حزب الاحرار السوريين، ما حدا به إلى التفكير بالعودة الى الوطن، والعمل بين أبنائه. العودة عاد سعاده خلال شهر تموز عام 1930، وخلال العام ذاته كتب قصة «فاجعة حب» ومن ثمّ أصدرها مع قصة أخرى تحت عنوان: «عيد سيدة صيدنايا» خلال عام 1931. انتقل سعاده خلال هذا العام إلى دمشق. هناك، شارك في تحرير جريدة «الأيام» الدمشقية التي اصبح اسمها في ما بعد جريدة اليوم، وفي العام التالي درّس في كلية الجامعة العلمية لصاحبها سليمان سعد، لكنه لم يفلح بتأسيس ما كان يصبو اليه. عاد إلى الشوير، وأمضى شهر الصيف في منطقة الضهور، في عرزال بناه لنفسه، هناك، أمضى سعاده ساعات طوالاً من الدرس والتأمل، ومن التفكير العميق في بُنَى الحزب الذي عاد من المغترب لتأسيسه. انتقل في تشرين الاول عام 1931 الى رأس بيروت، بعد توصله إلى الاقتناع أن الطلبة هم الوسط الصالح لتلقي بذور النهضة القومية الاجتماعية، عمل في الجامعة الاميركية مدرّساً اللغة الالمانية لمن يرغب من الطلاب. ثم استأجر غرفة في منزل غريس حداد. تأسيس الحزب والملاحقات في 16 تشرين الثاني عام 1932 أسّس أنطون سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي سرّياً من خمسة طلاب في الجامعة الأميركية، ومن هذا الوسط انتشرت دعوته إلى المناطق بحيث انتظم فيه المئات في غضون السنوات الثلاث الأولى من العمل السري، لينكشف أمر الحزب عام 1935 من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي، فاعتقل سعاده وعدد من معاونيه، وصدرت بحقهم أحكام مختلفة أقصاها السجن لسعاده مدة ستة أشهر كتب خلالها كتاب نشوء الامم. بعد خروجه من السجن بفترة وجيزة، أعيد اعتقال الزعيم في أواخر حزيران عام 1936، واثناء هذه الفترة، أنجز كتيّب شرح مبادئ الحزب التي وضعها. بعد أشهر قليلة خرج سعاده من السجن ليعود إليه في بدايات عام 1937 ليبدأ ومن داخل السجن ايضاً كتابة كتاب نشوء الامة السورية الذي تمت مصادرته من قبل السلطات ولم تعده اليه في ما بعد. الاغتراب القسري في أواخر شهر ايار عام 1937، خرج سعاده من السجن، وفي تشرين الثاني من العام ذاته اسّس جريدة النهضة، عام 1938 ترك لبنان إلى القسم الجنوبي من القارة الاميركية لتنظيم فروع الحزب هناك، وفي البرازيل، أسس جريدة سورية الجديدة، وإثر وشايات من قبل عملاء الاحتلال الفرنسي، اعتقل الزعيم لمدة تزيد عن الشهر، خرج بعدها من السجن بعد اكتشاف بطلان تلك الوشايات. بعد خروجه من السجن بأسبوعين غادر سعاده الى الأرجنتين. ومكث فيها حتى أيار 1940. وهناك حاول تجديد جواز سفره، لكن السفارة الفرنسية في بيونس ايرس رفضت ذلك. وفي 20 آب من العام ذاته أصدرت سلطات الانتداب الفرنسي في لبنان حكماً غيابياً قضى بسجن سعاده عشرين عاماً، ونفيه من لبنان عشرين عاماً أخرى، فاصبح بحكم الأسير داخل الأرجنتين لا يستطيع مغادرتها، وظل في مغتربه القسري حتى عام 1947. وقد أصدر خلال هذه الفترة جريدة «الزوبعة» التي كانت منبرا متميزاً للصوت القومي، وعلى صفحاتها ظهرت أهم كتاباته السياسية والفكرية والأدبية. كما انهى كتابة «الصراع الفكري في الادب السوري». وكان قد تعرف إلى جولييت المير، وهي من عائلة طرابلسية مقيمة في الأرجنتين، فتزوجها عام 1941، وأنجب منها في المغترب كريمتيه صفية واليسار، أما راغدة فولدت بُعيد عودة العائلة الى الوطن. العودة أيضاً بعد جلاء القوات الفرنسية عام 1946 حاول العودة الى لبنان لكن تحالف بشارة الخوري (رئيس الجمهورية) ورياض الصلح (رئيس الحكومة) كان يعرقل عودته بحجة الحكم القضائي الصادر بحقه منذ أيام الاحتلال. أواخر عام 1946 قرر سعاده العودة نهائياً إلى لبنان، ضارباً عرض الحائط بممانعات حكومة رياض الصلح وعراقيلها. فأنهى أعماله التجارية، وكان قد تمكن من الحصول على جواز سفر موقت من السفارة الفرنسية في الأرجنتين يتيح له السفر إلى البرازيل، وهناك تمكن بمساعدة رفقائه من الحصول على جواز سفر لبناني، وغادر البرازيل جواً إلى القاهرة في 18 شباط 1947، وفيها التقى برئيس المجلس الأعلى في الحزب نعمة ثابت وبأسد الأشقر، حيث تباحث معهما بأمر العودة إلى الوطن، والموقف السياسي المتوجب اتخاذه حيال هذه الخطوة، في هذا اللقاء تأكد لسعاده ان المجلس الأعلى في الحزب اتخذ قراراً بتكييف سياسته مع النزعة اللبنانية للعهد الذي ورث تركة الانتداب إذ تم الترخيص له تحت اسم «الحزب القومي» بما يعني التخلي عن جوهر عقيدته القومية. مهرجان الغبيري في 2 آذار 1947 وصلت طائرة سعاده إلى بيروت وكان في استقباله حشد شعبي كبير من سائر كيانات الهلال الخصيب، وألقى في هذا الحشد التاريخي خطاباً نوعياً هز أركان الحكم آنذاك، حدد فيه موقفه من استقلال لبنان والاحتلال الصهيوني لفلسطين، معيداً الحزب إلى مبادئه القومية، وأمام هذا الوضوح الجريء، لم يكن مستغرباً اندفاع أعداء الحزب في حملة سريعة لاحتواء الموجة القومية العارمة التي هزت أركان الحكم، فأصدرت الحكومة اللبنانية في أعقاب الاستقبال الكبير مذكرة توقيف بحق أنطون سعاده، وسيّرت حملات بوليسية لاعتقاله، لكنه لجأ إلى الجبل في منطقة المتن، وكانت الحكومة تخشى نتائج عـودة سعاده على الانتخابات النيابية المقررة في أيار 1947، فعرقلت نشاطات الحزب، وأصدرت قراراً بتعطيل جريدة «صدى النهضة» الناطقة باسمه، لكن سعاده استعاض عنها بجريدة «الشمس» التي عطلت بدورها، فتحول إلى مجلة «الكوكب» حتى آذار 1948 حيث أصدر جريدة «الجيل الجديد»، وكانت الحكومة قد ألغت مذكرة التوقيف في تشرين الأول 1947. فور عودته إلى الوطن ، خاض سعاده معركة إعادة الحزب إلى مساره القومي الاجتماعي في مواجهة بعض أعضاء إدارته العليا. وعندما لم تفلح المعالجات الهادئة لعملية الانحراف العقائدي أصدر مرسوماً بطـرد رموز الانحراف وعلى رأسهم نعمة ثابت ومأمون أياس ثم فايز الصايغ لاحقاً. رفض التقسيم بعد انتهاء مفاعيل مذكرة التوقيف، وحسم الخلافات الداخلية في الحزب، تفرغ سعاده للعمل العلني في مواجهة الأوضاع القومية المصيرية، وبصورة خاصة مسألة الاغتصاب اليهودي لفلسطين، ومع اقتراب ذكرى وعد بلفور (تشرين الثاني 1948) التي تزامنت مع اجتماع الأمم المتحدة للنظر في الصراع القائم بين أبناء شعبنا في فلسطين والمستوطنين اليهود - الذين كانوا يتوافدون مع أسلحتهم من كل أنحاء أوروبا وأميركا - أعد سعاده لمهرجان شعبي كبير في بيروت تعبيراً عن الرفض القومي لمشروع تقسيم فلسطين، لكن الحكومة اللبنانية عطلت المهرجان، فأصدر سعاده بيانه الشهير حول المسألة الفلسطينية دعا فيه إلى إطلاق حركـة مواجهة قومية شاملة وإلى تنظيم المقاومة الشعبية المسلحة، مستنهضاً طاقات الأمة لمواجهة الكارثة المقبلة، في 29 تشرين الثاني 1947 أعلنت الأمم المتحدة قرارها الشهير بتقسيم فلسطين، شارك القوميون في الأعمال العسكرية أثناء حرب 1948، ومع أن الحكومة اللبنانية حالت دون ذلك بجميع الوسائل، لكن السوريين القوميين الاجتماعيين في فلسطين ولبنان والشام والأردن تمكنوا من المشاركة في جيش الإنقاذ، حيث سقط منهم عدد من الشهداء. مشاركة حتى الشهادة لم يغب الحزب السوري القومي الاجتماعي عن المعارك التي حصلت في فلسطين ضد الغزوة اليهودية المنظمة، ليس فقط عبر استشهاد الرفيقين حسين ألبنا ومحمد سعيد العاص، إنما أيضاً عبر مشاركة فرقة من القوميين الاجتماعيين شكلها الحزب السوري القومي الاجتماعي باسم «فرقة الزوبعة» التي دخلت من شمال فلسطين في صيف 1936 وساهمت في أعمال الثورة والجهاد وقد عادت هذه القوة إلى لبنان في أواخر شهر أيلول 1936 وكان عدد أفرادها نحو 75 رجلاً عمل معهم بعض المنتمين إلى الحزب المذكور في شمالي فلسطين (الموسوعة الفلسطينية). واستمرت مشاركة القوميين الاجتماعيين في فلسطين في الإضرابات والتظاهرات والثورات التي حصلت في مواجهة الاحتلال البريطاني، والعصابات اليهودية إلى أن كانت أحداث العام 1948 حيث لم تقتصر مشاركة الرفقاء على أبناء سورية الجنوبية (الأمينان مصطفى سليمان وكميل الجدع، والرفقاء أديب الجدع، محمد الشلبي ومحمد جميل يونس). إنما كان للرفقاء في كيانات الوطن نضالهم عبر الجيوش النظامية، كما عبر جيش الإنقاذ، نذكر على سبيل المثال أديب الشيشكلي و شقيقه غسان جديد، محمد زغيب، كذلك سقط العشرات من الشهداء. على الصعيد التنظيمي تشكلت في فلسطين أربع منفذيات هي حيفا، القدس، يافا وعكا، وبعد عودة الزعيم عام 1947 أنشأ مفوضية الجنوب لتشمل فلسطين بأسرها كما عيّن الدكتور يوسف الصايغ مفوضاً لها والرفيق كميل جدع ناموساً. بعد نكبة العام 1948 شكل الرفقاء في الضفة الغربية مع شرقي الأردن حالة إدارية واحدة كانت تتخذ أحياناً شكل منفذية، وأحياناً أخرى شكل مفوضية جنوبي سورية، ومن الذين تولوا المسؤوليات الأمين مصطفى أرشيد الذي انتخب نائباً في المجلس النيابي الأردني عن منطقة جنين عام 1954، كما تولى رئاسة الحزب في العام 1956 وكان قد عرف عنه جرأته وسعة اطلاعه وعمق إيمانه، الأمين مصطفى سليمان النبالي (من منطقة اللد، تولى مسؤوليات حزبية عديدة منها منفذ عام الطلبة في بيروت، ناموس الزعيم، منفذ عام حمص، وكان قد قاد فرقة الزوبعة في معارك العام 1948)، الأمين زهدي الصباح (من الأردن، تميز بمناقبيته ووعيه وصفائه، قتل في حادث طائرة في أفريقيا) الأمين حيدر الحاج اسماعيل (عبود عبود). الزوبعة الحمراء وإزاء النكبة بإعلان قيام «إسرائيل» دولة على أرض فلسطين، رأى سعاده أن الاعتماد على القوى السياسية المهيمنة على الأنظمة في الكيانات السورية أمر لا جدوى منه، فبدأ العمل بهدوء لتشكيل جهاز قيادي من أعضاء الحزب يتولى إطلاق حرب التحرير الشعبية، وقد أسس فرقة الزوبعة الحمراء بقيادة مصطفى سليمان كنواة لحركة المقاومة القومية، وبموازاة هذه الخطوة ركز على إعادة بناء الحزب فكرياً وتنظيمياً، باذلاً المزيد من الجهد لإعداد الأجيال الجديدة، خصوصاً في أوساط الجامعيين، فأعاد نشاط «الندوة الثقافية» وفتح أبوابها أمام مختلف المثقفين، وقد نجح بمحاضراته في إطلاق حالة معنوية كبرى في لبنان والشام والأردن وفلسطين، وقد تحول الحزب جراءها إلى قوة فكرية تنظيمية متفوقة فرضت حضورها القوي على الحياة السياسية في لبنان والشام والاردن، مشكلة تياراً ضاغطاً على الأنظمة الكيانية المتخاذلة التي أحست بالحرج الشديد. الثورة كان رد فعل الحكومة اللبنانية مباشراً، إذ أصدرت سلسلة قرارات منعت بموجبها الحزب من عقد الاجتماعات العلنية، وقد أدى تعسف حكومة رياض الصلح إلى حدوث عدة صدامات بين أعضاء الحزب والسلطة خلال احتفالات الأول من آذار عام 1949. في أواخر آذار 1949 قام حسني الزعيم بانقلاب عسكري في دمشق، وأعلن في حينه أن خطوته تلك جاءت رداً على نكبة فلسطين، في هذا الوقت كانت السلطة اللبنانية تنسق مع الأحزاب الطائفية الداعمة لها لإنزال ضربة قاصمة بالحزب. وكانت الخطة أن يفتعل حزب الكتائب اللبنانية صداماً مسلحاً مع السوريين القوميين الاجتماعيين يكون مبرراً لزج سعاده وأعضاء حزبه في السجن. وحسب الخطة ذاتها، قامت عناصر من الكتائب اللبنانية بمهاجمة مطبعة جريدة «الجيل الجديد» في الجميزة فأحرقتها، وكان ذلك فاتحة إعلان الحرب على الحزب، إذ بادرت سلطات الأمن إلى مداهمة مراكز الحزب وبيوت محازبيه، فاعتقلت أعضاءه في لبنان، لكن الحكومة لم تنجح في اعتقال سعاده الذي تمكن من مغادرة بيروت، وبعد أيام وصل إلى دمشق بعد أن جاءته ضمانات من حسني الزعيم بمنحه حق اللجوء السياسي. الشهادة هناك بادر إلى التحضير لعمل منظم يحمي الحزب من الاندثار أمام شراسة السلطة في لبنان، فأعلن الثورة القومية الاجتماعية الأولى على النظام. ولم يكن سعاده يعرف وقتها أنه استدرج إلى فخ في دمشق، ولكن، لم تمض أسابيع حتى سارع حسني الزعيم بالتنسيق مع السفارة الأميركية في دمشق، وإثر لقائه مع موشيه شاريت «وزير خارجية الكيان الصهيوني» إلى اعتقال أنطون سعاده في 6 تموز عام 1949. حيث سلمه إلى الأمن العام اللبناني في السابع من تموز، وكان الاتفاق بين حسني الزعيم ورياض الصلح أن تتم تصفية سعاده في الطريق إلى بيروت، لكن الضابط فريد شهاب أبى تنفيذ الأوامر المعطاة لـه. وسلم سعاده إلى نور الدين الرفاعي قائلاً: «إني أسلمك انطون سعاده حياً ولا أريد أن يحمل أحدنا ثأر القوميين». لكن سعاده أعدم فجر الثامن من تموز بعد محاكمة صورية جرت بسرية تامة، ولم يعط محامي الدفاع الوقت الكافي لإعداد مرافعته، وقد اعتبرت وصمة عار في تاريخ القضاء اللبناني، حيث شكل إعدامه أشهر ملف اغتيال لزعيم سياسي ومفكر قومي تآمرت على نهجه الثوري القوى التقليدية المتحالفة مع أميركا و«إسرائيل»، والأنظمة المتضررة من دعوته العنيدة إلى توحيد كيانات سورية الطبيعية، وإقامة جبهة عربية واحدة على غرار الوحدة الأوروبية التي نشهد اليوم ارتفاع مداميكها. يا ليت أحداً استطاع أن يسجل خطابه ساعة مرافعته دفاعاً عن نفسه، لا شك أنه حكى الكثير للتاريخ، لأجيال يجب أن تسمع، وأن تعي وأن تفعل. فجراً سيق إلى خشبة الاعدام، قال لهم شكراً، إثنا عشر جندياً صوّبوا إثنتي عشرة بندقية إلى صدر الأمة، فانطلقت إحدى عشرة رصاصة، تمزق جسداً، يسقط، فترتفع في اللحظة زوابع وأعاصير وهتافات بقيت تتردد، منسابة الى كل قرية، وكل مدينة، وكل دسكرة، وكل بيت، فهي ما زالت وستبقى، ما دام فوق أرضنا شعب حيّ، وحزب حيّ، ورفقاء وأشبال وزهرات، ونفوس تعي وتحمل المشعل، وتهتف يا أبناء الحياة، واليمنى ترتفع زاوية قائمة. استشهد سعاده فجر الثامن من تموز عام 1949، قائلاً لجلاديه: «أنا أموت أما حزبي فباقٍ». وكان استشهاده أفصح درس تعلمته الأجيال الناهضة في الفداء القومي.
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |