شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2011-07-08
 

زئير الرّوح

الرفيق الدكتورنسيب أبو ضرغم

كان مدرّساً، وفي الوقت عينه، عاشقاً للحياة. زرع المعرفة في أدمغة طلابه، والفرح وحب الحياة في أفئدتهم. كثيراً ما كان يصطحبهم إلى الطبيعة، يدربهم على عشقها والحلول فيها، يتذوقون على يديه جمالاتها ومعانيها وبراءتها. لم يكن هذا العاشق للحياة، كياناً منفصلاً عن طلابه وصفه ومهنته. أنّى حل تحلّ البهجة، وأنّى وجد يكون عشق الحياة. هكذا مع طلابه ومع عائلته.

... وذات يوم التمع في راسه ألم كبرق الجحيم، وبعض من دوخةعبرت كاللمح لكنها استوقفته، من حيث أنها ضيف مستجد عليه.

أخافه الألم والدوخة، خاف منهما على الحياة، على معشوقته، فهرول إلى الطبيب يسأله. ذهبت عينا الطبيب بعيداً فقرأ فيهما ذاك العاشق تلميحاً غير مطمئن.

قال الطبيب: أريد صورة "سكانر" لرأسك وبعدها نتكلم.

فهم العاشق أن شكاً معقولاً تولّد لدى طبيبه وأن في الأمر مشكلة. هرول إلى أقرب مستشفى وخضع للتصوير وعاد يحمل الصورة والتقرير... في مغلف مقفل.

قرأ الطبيب التقرير وأمعن نظراً في الصورة وقد غرقت ملامحه كلها بعبوس صامت. طال صمته، إلى أن أفاقه كلام المدرس العاشق يقول: ماذا في الأمر؟

تنهد الطبيب ونظر في عيني مريضه قائلاً:

أريد أن أقول لك كل الحقيقة.

فقال المريض: وأنا لا أريدها إلا كاملة!

قال الطبيب: تظهر الصورة وكذلك التقرير المرفق أن سرطاناً خبيثاً جداً يكمن في مكان ما من دماغك... وصمت.

ساد صمت، فاحت منه رائحة القبر. أوقفه المدرس العاشق قائلاً: اشرح لي بوضوح كلي كيف ستؤول الأمور فأنا أعشق الحقيقة.

قال الطبيب: أمامك ثمانية شهور فقط، في نهايتها أو قبل ذلك بقليل ستسوء حالتك إلى أن يقعدك المرض نهائياً وتصبح شبه مشلول لا تقوى على الحركة...

قال العاشق للحياة: أوليس من علاج متوافر يحدّ على الأقل من تدهور الجسد؟

قال الطبيب: كلا؛ يا للأسف، ثمانية شهور وينتهي كل شيء.

قال المريض: أنا لا يهمني العمر طال أم قصر، ما يهمني أن ينهدّ جسدي ويتهاوى ويصبح عالة على روحي أولاً وعائلتي ثانياً والفاجعة أنه يصبح عالة على الحياة.

رد الطبيب: لا حيلة في الأمر. هذه هي الحقيقة. أمامك سبعة شهور. يمكن أن تعيش بحالة طبيعية، إلا أن الشهر الثامن سيكون شهر الانقلاب، الانقلاب على الحياة ففهم العاشق مآل الأمور ووقف مودعاً. شعر لأول مرة أنه يسير باتجاه معاكس للحياة. يسير والحياة وراءه... فيما كان القنديل الأخضر المشع دوماً أمامه.

قرّر ألاّ يخبر زوجته... وصغاره بالطبع... قرر أن يحمل "سرطانه" بصمت وحيداً ويبقى كما كان، مرحاً، لطيفاً، محباً للحياة... كأن شيئاً لم يكن! تعمّد أن يخرج مع عائلته كما كان يفعل، إلى الطبيعة والمطاعم والحدائق العامة، إلى البحر، إلى كل مكان، تعويضاً لحرمان أبدي آت بعد ثمانية شهور.

مرت الشهور السبعة وبدأ ضباب الدوخة يغطي خلايا دماغه. ضباب أخذ يحجب عن رؤيته ورؤياه أنوار الفكر. أخذ الضعف يتسلل ببطء لكن بإصرار إلى مفاصله وعضلات جسده وكاد يهوي. وأحس وتيقّن من أن الحقيقة كشّرت عن أنيابها.

عند الصباح اصطحب زوجته وأولاده. إلى مطعم كان كثيراً ما يرتاده، وتناول معهم طعام الغداء وشرب وشرب، مازحاً ضاحكاً كعادته.

عاد عصراً إلى المنزل، دخل غرفته وخرج منها إلى الحمام وما هي إلا دقائق... كانت رصاصة قد أوقفت الزمن والحياة وعمر عاشق الحياة...

علا الصراخ وخلع باب الحمام وإذا بالعاشق وقد غرز في رأسه رصاصة أخرجت منه دماء لطالما هتفت في شرايينه بالحياة وحبها. دماء أوجعها نهش السرطان.

ركض الجيران والصراخ يمزّق جدران المنزل، لكنه لا يحرك في العاشق جسداً. وإذا بزوجته وقد دخلت غرفته ترى ورقة كتب عليها بخط يده:

"عذراً. ما اعتدت إلا أن أكون قوياً. أعذريني. لم أخبرك أن السرطان احتل دماغي منذ ثمانية شهور وهو يتقدم فيه وينتشر وسيحولني إلى طبق من لحم وعظم. لا أنت ولا الطب ولا أحد... إلا الله يمكنه إنقاذي.

سامحيني. وقبّلي الأولاد عني، قولي لهم: أبوكم أراد أن يموت واقفاً".

غريبة هي الروح حينما تتمرد وتزأر. كثيرون يتسرعون بالحكم القاسي على المنتحر وقلّة الذين يتمهلونفيدخلون إلى أعماقه، يتفحصون روحه، يفهمون إحساسه وقناعاته. قلة هم الذين يدركون أن أكثر ما تكون الإنسانية تألقاً حينما يتمكن الجسد من التعبير عن طاقة الإنسان المطوية فيه. إذ حينما يقصّر الجسد عن حركة التعبير هذه تستحيل الروح في محنة وتتهاوى الإنسانية في معارج تعبيرها.

لذلك، أنا من القائلين بأن فن الرقص من أعظم الفنون، إذ ليس بغير الرقص تتجسد حركة الروح. كأني بالعاشق يقول: لا أريد أن أرفع من هوة الوجع والعقود إلى هوة القبر بل أريد أن أموت على الصهوة. وحسبي أنني على الصهوة أموت. وزأرت روحه الزئير الأخير. عزيزة به، فخورة. إنها الروح تبدع مأساتها.

عن:البناء

*رئيس الندوة الثقافية المركزية


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه