إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

إنها العلمانية فلا تجتنبوها

نضال القادري

نسخة للطباعة 2012-04-07

إقرأ ايضاً


لم أتوسّل أحداً من الطوائف المعترف بها رسمياً وبروتوكولياً لأعرف أنّي ولدت على دين أبي في لبنان. ارتقيت مثله في مؤسسات النظام، في بلد كثرت فيه الطوائف والملل وتكاثر الدين وتناسل إلى أن أصبح سياسياً في تفاصيله وتبعاته فقلّ إشعاعه الروحي وكثرت فيه الأقاويل. إن وسائل إشغال مراكز القوة والقرار في دولتي، ربما لم يخلق الله مثلها أو سواها "قبل أن يكسر القالب" ليستريح في اليوم السابع! وفي وطن أكبر قال المفكر أنطون سعاده: "إن اقتتـالنـا على السـماء أفقـدنـا الأرض". إنسان هذا الوطن ترك لإقطاعات الدين والسياسة والعشيرة والعائلة أن تقرر له حدود العلاقة مع سلطة الدولة، ومع فساد إداراتها الذي لا يغني ولا يسمن من جوع! فلماذا لا يتنحّون جانباً، ويتركون ما للدولة للدولة وما لقيصر لقيصر.

حقاً قام، حقاً قام، حقاً قام! ذلك المارد الطائفي في طائفة، ليرد عليه بالباطل في طائفة أخرى. و«ربيع العرب» المندس سبقه في الحالة اللبنانية «ربيع تغيير» في رأس القرار الديني. مثلاً لم يعد شيخ عقل الطائفة الدرزية يمثل كل الدروز. هلم نخترع مقاماً ثانياً له وليعترف من يعترف. كذلك أرغم الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير على تقديم استقالته في الفاتيكان واستبدل بآخر، وليعترف من يعترف. وسحبت الوكالة الطائفية من مفتي الجمهورية اللبنانية وبقيت معه الوكالة الروحية. هكذا كرت سبحة المفتين في المناطق ومعها التمديد للمجالس الشرعية العليا لأكثر من طائفة!

في المدخل إلى الدولة العادلة والأشمل، هل يكون الحل في لبنان العلمانية التي تضمن المساواة بين الجميع، بغض النظر عن جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو أي شيء آخر؟ إنّ العلمانيّة كحكم مدني هي أحد الحلول التي يجب اعتمادها لحل مشكلة الطائفية، حفاظاً على التعدّدية الدينيّة وعلى التناغم السليم بين الدينيّات والسياسيّات. لكن هذا الحل يبقى علاجاً خارجيّاً ضرورياً لكنه غير كاف، لأنّ جذور المشكلة قابعة في النفوس، فالعلمانيّة حلٌّ إداريٌّ لمشاكل الدولة وليست حلاًّ فلسفيًّا، وتجاهلُ الموجود الفاعل سلبا في نفوس اللبنانيين لا يُقيم المجتمع الواحد.

إن الإسلام المشرقي المسيحي والمحمدي، بعد قيام منظومة الدول تحديداً، تجذر في خدمة المصالح السياسة للأنظمة البطريركية ورؤوسها، التي لم تقم على المعرفة بل على الاستبداد الديني، وهذا ليس شيئاً رائعاً يقتدى به. فللطوائف ملوك، ومتصرّفون، ومنفذون، ومفتون، ومجتهدون في السياسة، وتتوأمت في بطن النظام الذي يتوجّب أن يكون علمانياً مديراً لمشاكل الدولة وسلطتها. الدين مدى الروح، إذ ليس سلطة مدنية ولا يجب أن يكون كذلك، فالأديان تحضّ على قيم التلاقي الروحي، والدولة تحضّ على ارتباط المواطنين بها مصلحياً. إذن، عمق المشكلة في نفوس المتفاعلين، تحديداً في عدم القبول بالآخر المختلف والمتغير والمتنور ثقافياً ومعرفياً وعقلياً. وأتوافق مع قول "قبل أن تقتنعوا بالعلمانيّة، اقتنعوا بعضكم ببعض". ولاحقاً، تجنيب العلمنة في لبنان كل منحى إيديولوجيّ، مع الحفاظ على التمييز الواضح بين الدينيّات والسياسيات، وهذا يُبقي الدرب سالكاً للروحيّات التي يجب أن تبقى مصدر إلهام حضاري، فالحضارات هي تراكم الجيد والمحقّ والممكن والأحسن من إرث الشعوب. ربما ليس المتوخى والنهائي والأمثل لها، لكنه شيء كبير وكثير من مكنونها ومن مناهلها الذي تتطلع إلى أحسنه في أوطان تشبه الموزاييك الذي إذا نطق انكسر.

لِمَ لا تكون العلمانية في لبنان إستقلالية الدولة والمجتمع ومؤسساتهما وقضاياهما وسلطاتهما عن الدين؟ إستقلالية لا إستقلال، ولا محاربة ولا تجاهل، بل حياد إيجابي حيال الأديان والعقائد، ونأي بالنفس عن تحقير القيم والمقدس الروحي أو تبديده، وحياد يحترم روحية المكنون، بل حياد يفسح المجال للتعاون. حياد يؤكد على عدم تدخل الدين في تنظيم المجتمع والدولة، وعدم تدخل الدولة في الحياة الدينية للأشخاص والجماعات إلاّ من باب القوننة والتشريع، وعدم هيمنة الدين على الدولة، كذلك عدم هيمنة الدولة على الدين. ومثالاً، تندرج المسائل المدنية كالزواج المدني في هذا السياق، إذ يجب من ضمن الحفاظ على قوانين الأحوال الشخصيّة في إطار حكم مدني، إيجاد حل للشخص الذي "لا يريد الخضوع لإيمان جماعته" إنطلاقا من مبدأ الحق والحرية الشخصية في المجتمع التعددي، في بلد يتقنّن فيه الزواج في القوانين ذاتها المرعية الإجراء، وبذلك يكون الحكم المدني قد احترم علمانيّة الدولة وأخذ في الاعتبار التركيبة الاجتماعيّة الدينية.

إنها العلمانية فلا تجتنبوها، وإذا جاءتكم بخبر فتبيّنوه في لبنان، إلى ذلك الربيع در. الربيع الذي لا تكثر فيه الطوائف بل يكبر الوطن. وقل رب زدني علمانية.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024