شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2014-10-24
 

على هامش مذكرات الرفيق متى أسعد: نحو نقد ذاتي بمقاييس قومية اجتماعية

أحمد أصفهاني

أصدرت "دار الفرات للنشر والتوزيع" في بيروت قبل مدة كتاباً بعنوان "الماضي المجهول وأيام لا تُنسى" يتضمن بعض مذكرات الرفيق متى أسعد الذي كان رقيباً في سلاح الإشارة بالجيش الشامي من سنة 1943 حتى سنة 1955 عندما تم اعتقاله في سجن المزة بعد عملية اغتيال العقيد عدنان المالكي في دمشق. والكتاب يغطي جوانب لم تكن معروفة من قبل حول عدد من الأحداث الحزبية والقومية في تلك الفترة العاصفة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، أو على الأقل يكشف معلومات مختلفة عن بعض الشؤون والشجون التي كان يعرفها القوميون الاجتماعيون بالتواتر أو بصورة مجملة.

إن مذكرات القوميين الاجتماعيين، بمن فيهم أولئك الذين لم يتحملوا مسؤوليات مركزية عليا في الحزب، تحمل أهمية خاصة كونها تطرح أمامنا رؤية القاعدة الحزبية إلى الأحداث وتفاعلها معها، وكذلك ردات فعلها على ما كانت تمارسه القيادة الحزبية في ظروف تاريخية معينة. وفي معظم الأحيان، تأتي مرويات هؤلاء الرفقاء صادقة ومباشرة إلى أبعد الحدود وخالية من أية محاولات للتبرير أو التفسير أو التمويه أو التستير على ممارسات ومواقف إما أنها ألقت الحزب والقوميين في مهب العواصف ومهاوي التهلكة أو أنها اتخذت مسارات سياسية وفكرية لا تتناسب مع مبادئ الحزب ودستوره ومناقبه.

يقول سعاده في رسالته إلى غسان تويني بتاريخ 9 تموز سنة 1946، بعد حديثه عن تاريخ الحزب وضياع قسم كبير من مجريات المرحلة الأولى من التأسيس: "... ومع ذلك فإن مجموعة مرويات هؤلاء الرفقاء ومذكراتهم، إذا كانت لأحد منهم مذكرات، تكون مستنداً هاماً من مستندات تاريخ حركتنا القومية الاجتماعية". ولا شك في أن مذكرات الرفيق متى أسعد تدخل في هذا السياق، وإن كانت غير شاملة وتشوبها في بعض أقسامها السرعة في التسجيل والرؤية المبسطة التي لم تتح لصاحبها مجال التعمق في خلفيات الأحداث وأبعادها ومعانيها السياسية.

من الملفت للنظر، والغريب جداً، أن غالبية المذكرات التي أصدرها قياديون قوميون اجتماعيون لم توضع تحت مجهر نقدي رصين، مما فوّت علينا فرصاً مهمة لإنشاء منهج قومي اجتماعي في النقد الذاتي الذي لا يهدف إلى التهشيم أو إلى التقديس، بل يسعى إلى الإستفادة من دروس الماضي من أجل تعزيز خطط العمل القومي المستقبلي. إن أي قارئ جاد لتراث سعاده يلاحظ بوضوح تام أنه كان ينتهز كل مناسبة متاحة كي يتحدث عن تاريخ الحزب وتجاربه، السلبي منها والإيجابي، بوصفها جزءاً أساسياً من البناء القومي الاجتماعي المتواصل. ويعتبر خطاب الزعيم في الأول من آذار سنة 1938 نموذجاً مميزاً في هذا المجال.

نعود الآن إلى مذكرات الرفيق متى أسعد ففيها مواضيع عدة يستحق كل واحد منها المزيد من البحث والتدقيق، منها "لقاءاته الدورية" مع الزعيم في دمشق سنة 1948، وتفاصيل ما دار بينه وبين الشهيدين بديع مخلوف ومحمد عبد المنعم دبوسي اللذين أعدما في أعقاب اغتيال المالكي. لكنني اخترت في هذا المقال التوقف عند المحاولة الإنقلابية الفاشلة في الكيان اللبناني سنة 1961ــ1962 لأن الرفيق متى عايش الفترة التي سبقتها منذ الحرب الأهلية سنة 1958، وكذلك لأن المذكرات والكتابات والوثائق التي أخذت تظهر تباعاً عن تلك المرحلة ستساعد كثيراً في إلقاء أضواء جديدة على المحاولة الإنقلابية مما يستدعي قراءة حزبية مختلفة عمّا هو متداول منذ "المحاكمة الداخلية" التي أجريت سنة 1970، وأكتفت بقرارات لم تكن على سوية ما كان يتوقعه الصف الحزبي آنذاك.

صدرت خلال السنوات القليلة الماضية مذكرات عدة تتناول في بعض أجزائها مخطط المحاولة الإنقلابية ومجرياتها وتداعيات فشلها على الحزب وعلى القوميين. منها مذكرات (مع حفظ الألقاب) عبدالله سعاده ومنير خوري وعبدالله قبرصي ومصطفى عز الدين ومصطفى عبد الساتر وفؤاد عوض وشوقي خيرالله وسامي الخوري وغسان عز الدين وديب كرديه ويوسف الدبس... وغيرهم. هذا من الجانب القومي الاجتماعي، أما من جانب الدولة فهناك مرويات عدد من رجال السياسة اللبنانيين وضباط الجيش والأمن العام المتقاعدين. يُضاف إلى كل ذلك وثائق المدير العام للأمن العام اللبناني الأمير فريد شهاب الذي كان قد ترك منصبه أواخر سنة 1958 لكن أوراقه ووثائقه تشمل تفاصيل عمّا سبق المحاولة الإنقلابية. ويجب أن لا ننسى كتاب الدكتور عادل بشاره الصادر بالإنكليزية سنة 2005 تحت عنوان "سياسة الإحباط: الإنقلاب الفاشل سنة 1961". (لا أظن أنه ترجم إلى العربية، للأسف الشديد).

في كتابي الأخير "التنصت على الهاتف في لبنان 1947 ــ 1958" نشرتُ نصوص تسجيلات لمجموعة إتصالات هاتفية سرية بين سياسيين لبنانيين عن اتهامات روّجت لها إذاعة "صوت العروبة" من جهة و"إذاعة لندن" من جهة أخرى تتعلق بمحاولة إنقلاب ضد الرئيس اللبناني المنتخب فؤاد شهاب. كما توجد تسجيلات أخرى تظهر أن فكرة الإنقلاب ضد شهاب كانت مطروحة كرد فعل على التفاهم الأميركي ــ المصري الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. ومن الذين كانت ترد أسماؤهم في هذه الإتصالات أسد الأشقر رئيس الحزب آنذاك.

ويروي الرفيق متى أسعد في مذكراته (صفحة 173) أحداث ما بعد توقف الحرب الأهلية اللبنانية ووصول شهاب إلى سدة الرئاسة، ومنها الحادثة التالية: "... فعاد جميع الرفقاء المقاتلين إلى ديك المحدي ــ بيت الشعار وتجمعوا في باحة كبيرة أمام بيت أسد الأشقر. هناك كان يجتمع ثلاثة ضباط، الملازم الأول محمد شمنق وأخوه الملازم الأول محمود شمنق والملازم الأول محمود نعمه. ويبدو أن هذا الأخير كان قد اتفق مع عدد من الضباط اللبنانيين على القيام بإنقلاب، وكان الرفيق محمود نعمه قد أخبرني أنه استشار الرئيس شمعون الذي أجابه أنه لا يشارك ولكنه لا يمانع. وهكذا تحرك الضباط الثلاثة وأعطوا الأوامر إلى المقاتلين القوميين بالصعود إلى السيارات بكامل سلاحهم وزحفوا بهم باتجاه بيروت. بعد قليل جاء الأمين أسد الأشقر وسأل عن الشباب، فقلت له: "لقد ذهبوا برفقة الضباط الثلاثة". فركب سيارته بسرعة البرق وأعطى الأمر لسائقه الرفيق مصطفى أبو الجدايل بالإنطلاق عن طريق عوكر حيث التقى بالرفقاء قبل أن يصلوا الأوتوستراد وأعطاهم الأمر بالعودة إلى ديك المحدي...".

لن نتوقف هنا عند محاولة "العسكر الحزبي" خطف الحزب وتوريطه في مغامرة خطيرة ، فهذا موضوع نتركه لمناسبة أخرى. لكن معظم المذكرات والمرويات والوثائق المتوافرة بين أيدينا يشير إلى أن فكرة الإنقلاب كانت تدغدغ مخيلة عدد كبير من القيادات السياسية والعسكرية اللبنانية، ومنها بالطبع الحزب السوري القومي الاجتماعي خصوصاً بعد إحباطات سنة 1958 عندما خرج الحزب "من المولد بلا حمص"، كما يقول المثل الشعبي. وكان ذلك قبل ثلاث سنوات من الإقدام فعلاً على التخطيط والتنفيذ. ومع ذلك ثمة تساؤل يحتاج إلى بحث يقوم به القوميون الاجتماعيون أنفسهم: هل جاء قرار الإنقلاب فقط رداً على إحباط سنة 1958، ثم على فشل الحزب في إيصال أي نائب إلى المجلس النيابي في انتخابات سنة 1960 في ظل ممارسات المكتب الثاني المعادية للحزب وتصعيد السلطات الأمنية الإجراءات القمعية والملاحقات الإستنسابية بحق القوميين الاجتماعيين؟ أم أن القرار كان متأثراً بمواقف سياسية منحازة إلى كميل شمعون والمصالح البريطانية التي أصيبت بنكسة بعد اتفاق جمال عبد الناصر مع الأميركيين على صفقة في لبنان والمنطقة كان عنوانها الأبرز المجئ بفؤاد شهاب رئيساً للجمهورية على حساب النفوذين البريطاني والفرنسي؟

الدكتور عادل بشاره في كتابه بالإنكليزية وضع اصبعه على مفاصل أساسية في خلفيات المحاولة الإنقلابية وأهدافها السياسية، لكن عمله هذا يبقى إنتاجاً أكاديمياً يلتزم بمعايير تختلف عما يتطلبه النقد الذاتي داخل الأطر الحزبية القومية. وكم كنا نتمنى لو أن مذكرات الأمين الراحل أسد الأشقر تنشر قريباً (ونحن نعرف أنها موجودة لدى ورثته) لكانت قدمت مساهمة مهمة جداً في هذا النقاش. إن النقد الذاتي الذي ندعو إليه، والقائم على درس دقيق وشامل، لا يهدف إلى إدانة أحد. لكن في الوقت ذاته، يجب أن لا نترك بطولات القوميين وتضحياتهم تعمي أبصارنا عن إستيعاب الدروس... من دون الوقوع في خطيئة التقديس المطلقة لكل ما هو حزبي! جُل ما في الأمر أن تاريخ الحزب سيصبح أكثر وضوحاً وشفافية، مما سيعزز من قدرة القوميين الاجتماعيين على صناعة مستقبل حزبهم وأمتهم إنطلاقاً من المصلحة القومية العليا... فقط لا غير!!


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه