شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2016-05-12 |
كتابات وخرائط الطين الأولى |
منذ أن رأيتُ اللوح الطيني ذا الكتابة المسمارية الشكل في المتحف الوطني البريطاني، قبل سنوات، وأنا أفكر بإعجاب في ذلك الألماني الشاب «كروتفند»، حين استطاع أن يفك شفرة هذه الأبجدية الأولى التي خرجت للبشرية، والمغروزة على سطح هذا الرقيم الطيني منذ آلاف السنين. بحثتُ عن المدعو «كروتفند»، وهو ابن لإسكافي في القرن التاسع عشر، يدرس اللغة الإغريقية في جامعة فرانكفورت، ويسكن أمام مرفأ مدينته، يقال إنه كان مغرماً بحل الألغاز والأحاجي والعُقد، وكل ما يتطلب تفكيراً منطقياً وعقلياً للاهتداء إلى حلّه. خرجت هذه اللغة لتخرج لنا حضارة بأكملها دُفنت تحت الأرض، ورغم أن السومرية بقيت بلا دليل على أصل وجودها، لكننا مازلنا منبهرين بذلك الشاب «كروتفند»، وممتنين لفتحه وفكه حصار الخط، وانتصرنا فيه انتصاراً معرفياً مبيناً. ذكرني بتوماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي، كيف غيّر لنا عالمنا من خلال ضوء صغير، كذلك كروتفند الذي استطاع التوصل خلال أشهر إلى قراءة تسعة حروف من أبجديات سومر، بعد أن قاربها إلى اللغات القديمة حرفاً حرفاً.. شك فيه العلماء لكنه لم ييأس، خصوصاً أنه راهن على فكها وقراءتها، فدعاهم إلى التحدي بقراءاتٍ تخمينية مؤقتة، وطرحها بأشكال مختلفة، بالتوازي تارة، وكقائمة توضيحية تارة أخرى. وجدوا أن الكتابة الوحيدة التي قاربتها هي الهيروغليفية المصرية الأولى، ورغم أن العلاقة بينهما مازالت لغزاً، لكنهم أخرجوا رويداً رويداً كل الحروف الصوتية، بِعِلَّتِها وحركاتها المنفصلة والمعزولة، حتى قرأوا سجلات تاريخية وقانونية ووثائق تجارية ونقوشاً نذرية، وإنتاجات أدبية هائلة. وبفضل كروتفند فكَّ الآثاريون شفرة الأبجدية السومرية (المسمارية) من على ألواح الطين، التي فاقت في أعدادها المائة ألف لوح، بعد ترجمتها إلى لغات حيّة، فخرج الناس مذهولين، فثمة حضارة قديمة قد عبرتنا، كانت ربما أفضل حالاً منّا، مضى عليهم أكثر من خمسة آلاف عام، بناها السومريون، فمن هؤلاء؟ وما أصلهم؟ ومن أين نزحوا إلى جنوب العراق؟ زادت الفرضيات، وأصبحت قضية تاريخية، فهم ليسوا من سام، ولغتهم لا تنتسب إلى العائلات اللغوية الأخرى، ولا نعرف زمن مجيئهم. ومع ذلك ازدهروا وأسسوا في جنوب العراق حضارة لا تخطر على بال، من مدارس، وآداب، وزراعة، وبناء، ومجلس شيوخ، وبرلمان، ومعابد، وأساطير، وملاحم، وعلوم، وفلك، وفكر. خرجت أيضاً خرائط الطين الأولى، لنفاجأ بأن البحر الأسفل، هو الاسم الأول للخليج العربي، والأعلى هو الأبيض المتوسط، وأن حضارة دلمون هي البحرين، وكانت أرضاً مقدسة. فبعد أن قرأ الآثاريون كل النصوص الطينية وجدوا أن جزيرة دلمون هي أرض لا مرض فيها ولا سقم، وأنها جنة من البساتين اليانعة والمياه العذبة المتدفقة. بدأوا بالبحث، وخمّنوا لعلها أرض «ملوخا» الشارقة، «ماجان» عمان، «عيلام» الأحواز، أو «قبرص» في البحر الأعلى، مستبعدين أنها البحرين، كيف وهي الجزيرة القاحلة! وهكذا حتى اكتشفوا بعد الحفر أكبر مقبرة قديمة في العالم، وتلالاً وآثاراً مادية في أنها «دلمون». ولولا هذه الألواح الطينية وما فيها من أبجديات لما علمنا أيضاً بأسطورة جلجامش، وبسرجون الأكدي مؤسس أول امبراطورية في العالم، بدءاً من أورك في جنوب العراق، مروراً بالخليج العربي إلى المضيق حتى «صور» عمان، ولما علمنا عن قصة التكوين الأولى وأناشيد المعبد، والمعاجم، والفهارس، وحياة اجتماعية وتجارية، بقوانين متكاملة. |
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |