شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2017-07-08 |
دماء سعاده كتبت للوطن والأمة عقيدة الحياة استشهد مؤمناً بأنّ موته طريق انتصار حزبه وأثبت أنّ الحياة وقفة عزّ فقط |
جرت محاكمة الزعيم في المحكمة العسكرية بشارع فؤاد الأول منطقة المتحف مقابل حديقة سباق الخيل حيث لا زالت الى الآن في الموقع نفسه… وكلّ ما نقل إلينا عنها في ذلك الوقت أنّ الزعيم ارتجل دفاعه واستغرق ذلك ما يزيد على الساعتين فنّد فيهما كلّ ما وجه إليه من اتهامات أوردها يوسف شربل المدّعي العام وكلها أكاذيب وافتراءات… ومما أورده شربل في مطالعته أبيات من الشعر بدأها قائلاً: «انّ الزرازير لما قام قائمها ظنّت نفسها صارت شواهينا وتابع: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا. أضاف المدّعي: مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها. لكن سعاده نظر بازدراء للنائب العام عندما سمع أقواله وردّ عليه ببيت من الشعر: وفي الزرازير جبن وهي طائرة وفي البزاة شموخ وهي تحتضر بدأت أخبار محاكمة الزعيم تصلنا متناثرة ولكنها أخبار شدّت من عزائمنا وزادتنا إيماناً بهذا الزعيم وهو يقف وقفة العزّ. ومما نقل إلينا من أخبار عن الزعيم في تلك اللحظات أنّ الابتسامة لم تفارق ثغره، وأنه وقف بصلابة وثبات طيلة فترة المحاكمة. لم يصلنا أكثر من ذلك، كان صلباً، قوياً، وقد أثر موقفه في الموجودين.. استمرت المحاكمة خمسة عشر ساعة صدر بنهايتها حكم بالموت رميا بالرصاص. تلقى الزعيم الحكم بشجاعة وثبات وكلّ ما قاله بعد سماعه نص الحكم «شكرا». قبل ختم المحاكمة طلب الزعيم ان يقول كلمة فأفسح له المجال فقال: «انّ محاكمتي سياسية بحتة، فلي مبدأ سياسي واضح أحيا أو أموت لأجله، لم يذكر التاريخ تفسيراً معوجاً أو مؤامرة كالمؤامرة التي دبّرت ضدّي وضدّ حزبي، حزبي الذي لم يتآمر على الحكومة كما تزعمون ولا هاجمها، ولكنهم هاجمونا فدافعنا عن أنفسنا، ولكم كنت أتمنى ان أقتل برصاصة على الطريق وان لا تسجل على لبنان وصمة العار هذه بمحاكمتي بهذا الشكل، حضرة الرئيس محاكمتي اغتيال سياسي، أنا اموت أما ابناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي». كثيرون كتبوا عن المحاكمة ومجرياتها وظروفها، أنا هنا لا اؤرّخ بل أروي ما سمعته وتابعته وشاهدته ومارسته، أكتب معاناتي وأنقل ما ورد من وقائع رواها أصحابها فقط، ومنهم بعض الحراس الذين قالوا إنّ سعاده، بعد أن أبلغ نص الحكم، نقل إلى زنزانة منفردة في بناء مستوصف السجن، وفور دخوله نزع «جاكيته وحذاءه» وتمدّد لينام ويده تحت رأسه، يقول الحراس إنهم كانوا ينظرون من الشرّاقة بدافع المراقبة الأمنية والفضول فرأوه نائماً هادئاً جداً مستسلماً لنوم عميق. أما ما عرفناه عن تنفيذ الحكم فكان عندما جاء الدركي ابراهيم شحاده نحو شرّاقة باب القاووش دامع العينين ونقل لنا انّ تنفيذ الحكم بالزعيم قد تمّ وقال: انه بطل خرج من زنزانته شامخا ولكون الدركي شحاده كان بعيدا لم يسمع كلامه ولكنه رآه ثابتاً متماسكاً قوياً يبتسم وقال الدركي دمعت عيناي لما شاهدته وخشيت أن يراني أحد ولكني رأيت كثيرين غيري تدمع عيونهم، نقل الزعيم وبقي هو في السجن غير أنّ رفاقه اخبروه في ما بعد أنّ الزعيم كان شجاعاً وطلب ان لا توضع ربطة على عينيه وقال أريد أن أرى الرصاص يخترق جسدي، وعندما ركع بجانب العمود الخشبي قال انّ حصاة تحت ركبته تؤلمه فجاء جندي ورفعها، أخبار سمعناها واجمين، تألّمنا ألم موجوعين لا ألم مقهورين، أخبار تقبّلناها بشجاعة الإيمان، تجرحنا جراح العزّ، تألمنا كثيراً وتذكّرنا سعاده يقول «انّ آلاماً عظيمة آلام لم يسبق لها مثيل في التاريخ تنتظر كلّ ذي نفس كبيرة فينا لأنّ حياتنا الاجتماعية فاسدة. أما تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة فقد رواها الكاهن الذي عرّفه.. قال: «حين فتحت الباب على صوت القرع الشديد في منتصف الليل. وجدت نفسي أمام ضباط من الجيش يطلبون إليّ أن أرتدي ملابسي وأحمل صليبي وعدة الكهنوت بسرعة. قلت: «ما الخبر؟ أجابوا: «سنعدم الخائن أنطون سعاده هذه الليلة. ونريد أن تعرّفه وتقوم بالمراسم الدينية قبل إعدامه. قلت: «إنّ أمراً كهذا لا يسعني أن أفعله، أتوني بإذن من سيادة المطران، هكذا ينص قانوننا الكنائسي». قالوا: «ليس لدينا من وقت، أفعل هذا على مسؤوليتنا نحن. فاعتذرت من جديد. وراحوا يلحون عليّ مردّدين أنّ خرق النظام الكنائسي هو أقلّ ضرراً من أن يرسل مسيحي إلى الموت غير متمّم واجباته الدينية. وأخيراً أذعنت بكثير من التردّد والحيرة، وركبت سيارتهم في طرقات تعجّ برجال الأمن من جنود وبوليس ودرك وأسلحة مشرعة، وأطللنا على سجن الرمل، فإذا هو منار من الداخل والخارج، ونزلنا حيث كان ضباط آخرون بانتظارنا. وأقبل عليّ مدير السجن يعرّفني عن نفسه، وأخبرني أنّ هذا هو الإعدام الثالث عشر الذي مرّ به، وأنّ الأمر بسيط فأجبته: «قد مضى عليّ ثلاث عشرة سنة في الثوب الكهنوتي، وهذا أول إعدام سأشهده»، وكان الطبيب الذي اشترك معنا في الحديث مثلي لم يشهد إعداماً في ما مضى. ودخلنا حيث كان الزعيم، في حبس من الغلو نعته أنه غرفة. فوجدناه مفترشاً بساطاً من قذارة ورقع. وكان هذا الفراش أقصر من قامته، فجعل من جاكيته وصلة بين الفراش والحائط كي لا ترتطم به قدماه. وكان نائماً نوماً طبيعياً، ورأسه على ذراعه اليسرى التي جعل منها بديلاً عن مخدة لم تكن هناك. وأيقظناه فنهض حالاً، وبادرنا السلام، وخصّني بقوله: «أهلاً وسهلاً يا محترم»، فأبلغناه أنه لم يصدر عنه عفو وأنّ الإعدام سينفذ به حالاً. فشكرنا باسماً رزيناً، واستأذن بلبس جاكيتته التي كانت مطوية تحت قدميه، فأذنوا له، فشكرهم من جديد، ولبسها. وخلوت به، وسألته إنْ كان يودّ أن يقوم بواجباته الدينية، فأجاب: لمَ لا؟ وطلبت إليه أن يعترف، فأجاب: ليس لي من خطيئة أرجو العفو من أجلها، أنا لم أسرق، لم أدجّل، لم أشهد بالزور، لم أقتل، لم أخدع، لم أسبّب تعاسة لأحد. وبعد أن فرغت من المراسيم الدينية، تركنا الغرفة فكبّلوا يديه، وخرجنا إلى مكتب السجن. هناك طلب أن يرى زوجته وبناته، فقيل له إنّ ذلك غير ممكن، وقدّموا له ترويقة فأعتذر شاكراً، ولكنه قبل فنجاناً من القهوة متناولاً إياه بيمناه وأسنده بيسراه، وكانت تسمع للقيد رنات كلما ارتطم بالفنجان. وكان الزعيم يبتسم صامتاً هادئاً مجيلاً عينيه من وجه إلى وجه كأنه يودّعنا مهدّئاً من روعنا. هنا انفجرت أنا بالبكاء، وبكى معي بعض الضباط، بل إنّ أحدهم أجهش وانتحب. وبعد أن شرب القهوة، عاد يصرّ على لقاء زوجته وبناته، فسمع الجواب السابق. وسئل لمن يريد أن يترك الأربعمائة ليرة التي وجدت معه، فأجاب أنها وقطعة من الأرض في ضهور الشوير هي كلّ ما يملك، وهو يوصي بها لزوجته وبناته على التساوي. وطلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه أنّ ذلك مستحيل، فسألهم ورقة وقلماً، فرفضوا، فقال: إنّ لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ. فصرخ به أحد الضباط منذراً «حذار أن تتهجّم على أحد، لئلا نمسّ كرامتك» فابتسم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمسّ كرامتي، ما أعطي لأحد أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه، وأردف يكرّر: «لي كلمة أريد أن أدوّنها للتاريخ، وأن يسجلها التاريخ». فسكتنا جميعاً، في صمت يلمس سكونه وسمع دويه. أصارحك أنني كنت في دوار من الخبل، ومن المؤكد أنني لا أعي كلّ ما سمعت، ولكن الراهن أني سمعته يقول: «أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت، لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة، يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد». ومشينا إلى حيث انتظرتنا السيارات، والزعيم ماشٍ بخطى هادئة قوية يبتسم لم ينفعل كأنّ الإعدام قد نفذ به عدة مرات من قبل، إنه لم ينفجر حنقاً أو تشفياً لم يتبجّح شأن من يستر الخوف في مثل هذه اللحظات، وددت لو تمكنت من إخفائه في قلبي أو بين وريقات إنجيلي. إنّ عظامي لترتجف كلما ذكرته. وحين خرجت إلى الباحة رأيت إلى يميني تابوتاً من خشب الشوح لم يخف الليل بياضه. وتطلع الزعيم إلى نعشه فلم تتغيّر ملامحه ولا ابتسامته. وقبل أن يرتقي الجيب، طلب للمرة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده. وللمرة الثالثة والأخيرة، سمع الجواب نفسه. فتبيّنت ملامحه، وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحت وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة. وسارت سيارة الجيب بالزعيم يحفّ به الضباط وخلفه تابوته، وقافلة سيارات وشاحنات من ورائه وأمامه ملأى بالجنود المسلحة. ولعلّ مساً من البله اعتراني، فبدا لي أنّ تنفيذ الإعدام سيؤجّل، أو انّ عفواً سيصدر، سيطر عليّ هذا الوهم فخدّرني، حتى انحرفنا عن الطريق العامة إلى درب ضيقة بين كثبان. ووقفنا في فجوة بين الرمال كأنها فوهة العدم. وقفز من بينهم، مكبّلاً، إلى عمود الموت المنتظر، فاقتربوا منه ليعصبوا عينيه، فسألهم أن يبقوه طليق النظر، فقيل له: القانون. أجاب إنني أحترم القانون. وأركعوه وشدّوا وثاقه إلى العمود، وكأن الحصى آلمته تحت ركبتيه فسألهم إن كان من الممكن إزالة الحصى، فأزالوها، فقال لهم: «شكراً، شكراً»، ردّدها مرتين، وقطع ثالثتها الرصاص. فإذا بالزعيم وقد تدلى رأسه وتطايرت رئته اليمنى، وتناثرت ذراعه اليسرى، فلم يعد يصل الكتف بالكتف إلا جلدة تتهدّل. وكوموا الجثة في التابوت، وتسارعت القافلة نحو المقبرة، وهناك كادوا يدفنوه من غير صلاة لو لم يتعال صياحي، أخيراً قالوا لي: «صلّ، إنما أسرع، أسرع، صلّ من قريبو». ودخلنا الكنيسة، ووضعنا التابوت على المذبح، ورحت أصلي، والدم يتقطر من شقوق الخشب، ويتساقط على أرض الكنيسة نقاطاً نقاطاً، ليتجمّع ويتجمّع ثم يسيل تحت المذبح. وخرجنا من المعبد، ووقفت أمام بابه أواجه الفجر الذي أطلّ وأناجي الله، وأسمع رنين الرفوش ترتطم بالحصى وتزيل التراب. ثروة الزعيم وأملاكه في وصية الزعيم ترك أربعمئة ليرة لبنانية كانت معه، خلال كتابته لوصيته قبل استشهاده. من يقرأ هذا المقطع يقف مشدوها غير مصدّق، معقول زعيم حزب كبير ليس بجيبه مما يملك سوى أربعمئة ليرة وهو الذي لو طلب الدماء والأرواح لقدّمت له، أربعمئة ليرة معقول هذا الكلام الذي لا يصدّق، ولكن من يعرف سعاده والحزب الذي كانت شرايين حياته هي شرايينه من نبع امكانياته الضئيلة التي لا تصبّ فيها اية روافد أو أنابيب، سعاده عاش فقيراً. زعيم لحزب فقير كلّ موارده هي اشتراكات الأعضاء وتبرّعات بعض المتمكنين منهم وما أقلهم. هذا هو أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي مات تاركاً أربعمئة ليرة لبنانية لزوجته وبناته الثلاث. استشهد سعاده فقيراً كحال جميع الرسل وأصحاب الرسالات… دلوني على داعية حامل قضية أورث غير رسالته ودعوته. جميعهم يموتون أنقياء أتقياء فقراء لا يورثون إلا الفكر والقدوة. وان تركوا ذرية فهي جزء من مجموع المؤمنين لا ميزة في القربى ولا امتيازات يورثونها وها هن بناته يعشن كما عاشت أمّهن بجهدهن الشخصي، ورثن النقاء والصفاء فما كان لدى سعاده ما يورثه غير ذلك… ولسن في الحزب غيرهن عن سواهن.. رائع هذا الرسول الداعية القائد ورائعات هن في الخُلقِ الكبير مميّزات ولعلّ كونهن بنات الزعيم ورثن مع العفة الغصة والألم المكبوت. كوالدهن ذهب ترافقه حسرة الحرمان من رؤية عائلته وهن ورثن هذه الحسرة والحرمان… هذا هو سعاده وهذه هي العقيدة التي كانت دينه وإيمانه وها نحن رفقاؤه حملة رسالته مؤمنين أننا على طريقه وانّ طريقنا طويلة وشاقة ولا يثبت عليها الا الأحياء وطالبو الحياة.. يا زعيمي. انت حي فينا قدوة وعقيدة… |
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |