شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-02-09 |
الأمين هنري.. بعد رحيلك كيف سنتّجه؟ |
إلى الأمين هنري حاماتي.. في هذه الساعات القائمة تظلّ كلماتنا باردة ومعانينا متوحّشة أمام نبضات شرايينك التي ما تزال دافئة تزيد التشبث بلغز الحياة التي غادرتها لتترك ظلالك عميقاً في أسلوب تفكيرنا حيال الجدليات المتشابكة للواقع القومي السوري والعربي. برحيلك يصبح الموت فعلاً ظاهرة سوريالية بامتياز، السوريالية بشكلها الأكثر سوداوية ووجعاً وقلقاً. تُرى كيف لقلبك ـ هذا القلب النبيل ـ أن يتوقف عن النبض وهو المأخوذ بحب الحياة؟ أعلم يا حضرة الأمين أنك ستعذرنا حينما تجدنا لا نفلح في أن نوزن فقداننا إياك بميزان الحروف والكلمات فلا نملك إلا أن نقول لك: وداعاً في رحلتك الأبدية. في كتابك الأخير «كلمات للعاصي» الذي أصدرته قبل رحيلك قلت فيه «إن الموت ليس مكافأة وإنه ليس عقوبة. فهو لا يحتمل أي معنى من معاني العدالة. هو قانون يتخطّى موازين المدارك».. فهل كنت تعلم برحيلك؟ ندرك أن حياتك كانت أمثولة للفكر الحي المشغول بشروط وجوده ووقائع يومه، وقد كانت مساحات الصمت عندك في السنوات الأخيرة أكبر من مساحات الكلام، لكن مساحات الإبداع والإنجاز بقيت أكبر من مساحات الفراغ والكسل والصمت العبثي. فأي علم وأي خسارة غيابك في هذا الوقت العصيب، الذي يواجه فيه وطننا كل هذا التعقيد من الأسئلة، لعلك ستترك فراغاً فاغراً يا من كنت لا يغفو قلبه إلّا بعد أن تغفو جميع القلوب.. كما يقول أحد الفلاسفة! أدرك أنه لا تليق كلمات العزاء، ولا أناشيد الفقد بقدرك، ولا بهيبتك وقامتك. فكيف بنا وقد مالت أوتاد وطننا وتكاد تذبل أوتار نشيدنا الوجودي؟ فمن بين سنبلات العنبر الشامي، والنخلة العراقية والصنوبرة اللبنانية والبرتقالة اليافاوية تسللت نفحة الروح الحية التي اختزلت حياتك، وغطت عقود عمرك الباشقة.. ومن بين قوافي فكر المعلم أنطون سعاده، تكوّنت بوصلة فكرك المستنير، وانتشرت شجرة أرضك الودودة. معك يا حضرة الأمين، كنا نعرف جهات كثيرة غير الجهات الأربع، ولكننا أيضاً عرفنا مكاننا، وفكرنا، ففي الزمنِ الذهبي من عمرِ الحركة القومية الاجتماعية كنتً مسكوناً بوحي المختلفِ من الكلام، لك على كُلِّ شرفة معرفة قنديلٌ يُضيءُ المسافاتِ ويؤثث الأمكنة بتجلياتٍ إبداعية ثرّة، ائتلف فيه الشاعر بدأ الراحل شاعراً أولاً والناقد والصحافي والمحاضر والعالم الرياضي واللغوي، في تشكيلٍ لا يشبه سواه من القوميين، كنتَ الشاهد والدليل الذي لا غنى لنا عنه في قراءة فكر سعاده على امتداد عقود زاخرة بالكثير من التفاصيل.. تقول في كتابك الأخير «لو سألتني ما النهضة لأجبتك هي انطلاق العقل من عقال التقليد، في فعل معرفي مضارب على الحياة». لقد سمعت سعاده يقول من موقع مسؤوليته الأولى في موقف مواجهة التقليد «فليكتب كل منكم ما يشاء متى يشاء وأين يشاء، وليخالفه مَن يشاء، وليؤيّده مَن يشاء…». أتذكّر كيف دخل على مكتب مجلة البناء في منتصف التسعينيات، وقال لي إليك افتتاحية العدد الاول من مجلة اتجاه الفكرية التي كان قد قرّر إصدارها مع الأمين إيلي عون والرفيق الدكتور علي حمية.. قرأت الافتتاحية وقلت له، حضرة الأمين هذه لا تصلح لتكون افتتاحية مجلة فكرية.. قد تصلح لتكون افتتاحية في صحيفة يومية.. قال لي هل لديك شيء يصلح لافتتاحية العدد الأول من اتجاه؟ أربكني سؤاله: مَن أنا ليطلب مني الأمين هنري افتتاحية العدد الأول لمجلة اتجاه؟ وقدمتُ له مقالتي: «ثقافة المواجهة وفلسفة الصراع»، رغم أنها لم تكن تصلح أيضاً كافتتاحية العدد الأول لـ «اتجاه». ما أردت التذكير به من هذه الحادثة لتأكيد أن أطرف ما يكون الحوار، وأعمقه، وأصدقه، وأجداه، حين تكون أمام الأمين هنري المتواضع حتى الدهشة، حين يتحاور معك بالحقائق حواراً عقلياً صافياً، ورائده بذلك تكوين ثقافة أصيلة قوامها المعرفة. لم تكن مع هذا التيار أو ذاك، بل كنتَ تياراً قائماً بذاته، قوياً، وعاتياً في تمسكك بالإصلاح الحزبي، ومقاوماً عنيداً للارتجال والتبسيط، والنزعات التلفيقية، وقد كان صوتك عالياً وغير متلعثم.. يجادل حيث يستحقّ الجدل، ويتفاعل ويقتنع حين يكون ذلك نفعاً للبلاد. لا يمكن اختصار فكر وثقافة وسعة الأمين الراحل هنري بمقالة أو مقالات.. وهو لطالما كان شاغل البال لدول وأنظمة وأحزاب واستخبارات، محلية وعربية وإقليمية ودولية، فكانت محاولات الاغتيال تلاحقه في كل مكان. ما ينفرد به الأمين هنري أن عقله الرياضي كان استثنائياً في طريقة تفكيره.. يُدهشك بتقديم رؤى تلتقط التشابهات فيما تبدو متضادّات، والتناقضات فيما تبدو متشابهات.. حتى في رؤيته القومية كان استثنائياً، في انفتاحه على المنطلقات الفكرية الناقدة وتفكيره الجدلي.. استثنائي أيضاً.. كما هو رحيلك المفاجئ والاستثنائي. كان الأمين هنري، فذاً في المعرفة وفِي التحليل وفِي صياغة الأفكار وسردها برشاقة قلّ نظيرها. اليوم نشعر بغصة، ونحن نتحدّث عنك بوصفك غائباً عنا، فكيف سنتجه؟ ستغيب عنا إذن حضرة الأمين هنري، وسنفتقدك في الأيام المقبلة، بل السنين المقبلة، وعزاؤنا أنك رحلت، والعابثون بمستقبل سوريانا قد هزموا وأحنوا رؤوسهم. لقد رحلت عنا، والظلاميون انهزموا، ولا يسعنا هنا ونحن نودعك، إلا أن نقول إن تعاليمك، ورؤيتك، وحكمتك، ستظل راسخة وحاضرة في وجداننا، ونحن ننظر الى المستقبل. أمين هنري.. أنت تعرف كم سنرتبك لأننا فقدناك، فسلامٌ إليكَ بعمرِ سوريانا، وكدِّ سوريانا، وزهو سوريانا.. وتبقى نظيف الضميرِ، تُجدّدُ أحلامَنا بالحياة الكريمة.. أراني أقلب صفحاتك الآن.. أردت شيئاً أعوّض به لحظة بكاء تعتصرني مثل قارورة غاز تتحرّك وتكاد تنفجر.. أردت أن أعرف حقيقة رحيلك.. لا أصدق ما يُقال ولا أريد أن أواسي الرفيقة سمية.. أودّ أن أصرخ لا أحزن.. أودّ أن أشهق لا أبكي، أودّ ألا أرتاح إلا بعد أن أطلق صرختي ليس احتجاجاً على الموت بل أردته تصفيقا لرحيلك الأنيق! |
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |